الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالْقَوْلُ فِي جُمْلَةِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ مِثْلُ قَوْلِهِ آنِفًا: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ [سُورَة النَّحْل: 65] . وَالْإِشَارَةُ إِلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ مِنْ نِعْمَةِ سَقْيِ الْأَلْبَانِ وَسَقْيِ السَّكَرِ وَطُعْمِ الثَّمَرِ.
وَاخْتِيرَ وَصْفُ الْعَقْلِ هُنَا لِأَنَّ دَلَالَةَ تَكْوِينِ أَلْبَانِ الْأَنْعَامِ عَلَى حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى يَحْتَاجُ إِلَى تَدَبُّرٍ فِيمَا وَصَفَتْهُ الْآيَةُ هُنَا، وَلَيْسَ هُوَ بِبَدِيهِيٍّ كَدَلَالَةِ الْمَطَرِ كَمَا تقدم.
[68، 69]
[سُورَة النَّحْل (16) : الْآيَات 68 إِلَى 69]
وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)
عَطْفُ عِبْرَةٍ عَلَى عِبْرَةٍ وَمِنَّةٍ عَلَى مِنَّةٍ. وَغَيَّرَ أُسْلُوبَ الِاعْتِبَارِ لِمَا فِي هَذِهِ الْعِبْرَةِ مِنْ تَنْبِيهٍ عَلَى عَظِيمِ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، إِذْ أَوْدَعَ فِي خِلْقَةِ الْحَشَرَةِ الضَّعِيفَةِ هَذِهِ الصَّنْعَةَ الْعَظِيمَةَ وَجَعَلَ فِيهَا هَذِهِ الْمَنْفَعَةَ، كَمَا أَوْدَعَ فِي الْأَنْعَامِ أَلْبَانَهَا وَأَوْدَعَ فِي ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ شَرَابًا، وَكَانَ مَا فِي بُطُونِ النَّحْلِ وَسَطًا بَيْنَ مَا فِي بُطُونِ الْأَنْعَامِ وَمَا فِي قَلْبِ الثِّمَارِ، فَإِنَّ النَّحْلَ يَمْتَصُّ مَا فِي الثَّمَرَاتِ وَالْأَنْوَارِ مِنَ الْمَوَادِّ السُّكَّرِيَّةِ الْعَسَلِيَّةِ ثُمَّ يُخْرِجُهُ عَسَلًا كَمَا يَخْرُجُ اللَّبَنُ مِنْ خُلَاصَةِ الْمَرْعَى.
وَفِيهِ عِبْرَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنْ أَوْدَعَ اللَّهُ فِي ذُبَابَةِ النَّحْلِ إِدْرَاكًا لِصُنْعٍ مُحْكَمٍ مَضْبُوطٍ مُنْتِجٍ شَرَابًا نَافِعًا لَا يَحْتَاجُ إِلَى حَلْبِ الْحَالِبِ.
فَافْتُتِحَتِ الْجُمْلَةُ بِفِعْلِ أَوْحى دُونَ أَنْ تُفْتَتَحَ بِاسْمِ الْجَلَالَةِ مِثْلُ جُمْلَةِ وَاللَّهُ أَنْزَلَ [سُورَة النَّحْل: 65] ، لِمَا فِي أَوْحى مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى إِلْهَامِ تِلْكَ الْحَشَرَةِ الضَّعِيفَةِ تَدْبِيرًا عَجِيبًا وَعَمَلًا مُتْقَنًا وَهَنْدَسَةً فِي الْجِبِلَّةِ.
فَكَانَ ذَلِكَ الْإِلْهَامُ فِي ذَاتِهِ دَلِيلًا عَلَى عَظِيمِ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَضْلًا عَلَى مَا بَعْدَهُ مِنْ دَلَالَةٍ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمِنَّةً مِنْهُ.
وَالْوَحْيُ: الْكَلَامُ الْخَفِيُّ وَالْإِشَارَةُ الدَّالَّةُ عَلَى مَعْنًى كَلَامِيٍّ. وَمِنْهُ سُمِّيَ مَا يُلْقِيهِ
الْمَلَكُ إِلَى الرَّسُولِ وَحْيًا لِأَنَّهُ خَفِيٌّ عَنْ أَسْمَاعِ النَّاسِ.
وَأُطْلِقَ الْوَحْيُ هُنَا عَلَى التَّكْوِينِ الْخَفِيِّ الَّذِي أَوْدَعَهُ اللَّهُ فِي طَبِيعَةِ النَّحْلِ، بِحَيْثُ تَنْسَاقُ إِلَى عَمَلٍ مُنَظَّمٍ مُرَتَّبٍ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ آحَادُهَا تَشْبِيهًا لِلْإِلْهَامِ بِكَلَامٍ خَفِيٍّ يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ التَّرْتِيبَ الشَّبِيهَ بِعَمَلِ الْمُتَعَلِّمِ بِتَعْلِيمِ الْمُعَلِّمِ، أَوِ الْمُؤْتَمَرِ بِإِرْشَادِ الْآمِرِ، الَّذِي تَلَقَّاهُ سِرًّا، فَإِطْلَاقُ الْوَحْيِ اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ.
والنَّحْلِ: اسْمُ جِنْسٍ جَمْعِيٍّ، وَاحِدُهُ نَحْلَةٌ، وَهُوَ ذُبَابٌ لَهُ جِرْمٌ بِقَدْرِ ضِعْفَيْ جِرْمِ الذُّبَابِ الْمُتَعَارَفِ، وَأَرْبَعَةُ أَجْنِحَةٍ، وَلَوْنُ بَطْنِهِ أَسْمَرُ إِلَى الْحُمْرَةِ، وَفِي خُرْطُومِهِ شَوْكَةٌ دَقِيقَةٌ كَالشَّوْكَةِ الَّتِي فِي ثَمَرَةِ التِّينِ الْبَرْبَرِيِّ (الْمُسَمَّى بِالْهِنْدِيِّ) مُخْتَفِيَةٌ تَحْتَ خُرْطُومِهِ يَلْسَعُ بِهَا مَا يَخَافُهُ مِنَ الْحَيَوَانِ، فَتَسُمَّ الْمَوْضِعَ سُمًّا غَيْرَ قَوِيٍّ، وَلَكِنَّ الذُّبَابَةَ إِذَا انْفَصَلَتْ شَوْكَتُهَا تَمُوتُ. وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: ذَكَرٌ وَأُنْثَى وَخُنْثَى، فَالذُّكُورُ هِيَ الَّتِي تَحْرُسُ بُيُوتَهَا وَلِذَلِكَ تَكُونُ مُحَوِّمَةً بِالطَّيَرَانِ وَالدَّوِيِّ أَمَامَ الْبَيْتِ وَهِيَ تُلَقِّحُ الْإِنَاثَ لَقَاحًا بِهِ تَلِدُ الْإِنَاثُ إِنَاثًا.
وَالْإِنَاثُ هِيَ الْمُسَمَّاةُ الْيَعَاسِيبَ، وَهِيَ أَضْخَمُ جِرْمًا مِنَ الذُّكُورِ. وَلَا تَكُونُ الَّتِي تَلِدُ فِي الْبُيُوتِ إِلَّا أُنْثَى وَاحِدَةٌ، وَهِيَ قَدْ تَلِدُ بِدُونِ لِقَاحِ ذَكَرٍ وَلَكِنَّهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا تَلِدُ إِلَّا ذُكُورًا فَلَيْسَ فِي أَفْرَاخِهَا فَائِدَةٌ لِإِنْتَاجِ الْوَالِدَاتِ.
وَأَمَّا الْخُنْثَى فَهِيَ الَّتِي تُفْرِزُ الْعَسَلَ، وَهِيَ الْعَوَاسِلُ، وَهِيَ أَصْغَرُ جِرْمًا مِنَ الذُّكُورِ وَهِيَ مُعْظَمُ سُكَّانِ بَيْتِ النَّحْلِ.
وَ (أَن) تَفْسِيرِيَّةٌ، وَهِيَ تَرْشِيحٌ لِلِاسْتِعَارَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ، لِأَنَّ أَنِ التَّفْسِيرِيَّةَ مِنْ رَوَادِفِ الْأَفْعَالِ الدَّالَّةِ عَلَى مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ.
وَاتِّخَاذُ الْبُيُوتِ هُوَ أَوَّلُ مَرَاتِبِ الصُّنْعِ الدَّقِيقِ الَّذِي أَوْدَعَهُ اللَّهُ فِي طَبَائِعِ النَّحْلِ فَإِنَّهَا تَبْنِي بُيُوتًا بِنِظَامٍ دَقِيقٍ، ثُمَّ تُقَسِّمُ أَجْزَاءَهَا أَقْسَامًا مُتَسَاوِيَةً بِأَشْكَالٍ مُسَدَّسَةِ الْأَضْلَاعِ بِحَيْثُ لَا يَتَخَلَّلُ بَيْنَهَا فَرَاغٌ تَنْسَابُ مِنْهُ الْحَشَرَاتُ، لِأَنَّ خَصَائِصَ الْأَشْكَالِ الْمُسَدَّسَةِ إِذَا ضُمَّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ أَنْ تَتَّصِلَ فَتَصِيرُ كَقِطْعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَمَا عَدَاهَا مِنَ الْأَشْكَالِ مِنَ الْمُثَلَّثِ إِلَى الْمُعَشَّرِ إِذَا جُمِعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا إِلَى أَمْثَالِهِ لَمْ تَتَّصِلْ وَحَصَلَتْ بَيْنَهَا فُرَجٌ، ثُمَّ تَغُشِّي عَلَى سُطُوحِ الْمُسَدَّسَاتِ بِمَادَّةِ الشَّمْعِ، وَهُوَ مَادَّةٌ دُهْنِيَّةٌ مُتَمَيِّعَةٌ أَقْرَبُ إِلَى الْجُمُودِ، تَتَكَوَّنُ فِي كِيسٍ دَقِيقٍ جدا تَحت حَلقَة بَطْنِ النَّحْلَةِ الْعَامِلَةِ فَتَرْفَعُهُ النَّحْلَةُ بِأَرْجُلِهَا إِلَى فَمِهَا وَتَمْضُغُهُ وَتَضَعُ بَعْضَهُ لَصْقَ بَعْضٍ لِبِنَاءِ الْمُسَدَّسِ الْمُسَمَّى بِالشَّهْدِ لِتَمْنَعَ تَسَرُّبَ الْعَسَلِ مِنْهَا.
وَلَمَّا كَانَتْ بُيُوتُ النَّحْلِ مَعْرُوفَةٌ لِلْمُخَاطَبِينَ اكْتُفِيَ فِي الِاعْتِبَارِ بِهَا بِالتَّنْبِيهِ عَلَيْهَا وَالتَّذْكِيرِ بِهَا.
وَأُشِيرَ إِلَى أَنَّهَا تُتَّخَذُ فِي أَحْسَنِ الْبِقَاعِ مِنَ الْجِبَالِ أَوِ الشَّجَرِ أَوِ الْعَرْشِ دُونَ بُيُوتِ الْحَشَرَاتِ الْأُخْرَى، وَذَلِكَ لِشَرَفِهَا بِمَا تَحْتَوِيهِ مِنَ الْمَنَافِعِ، وَبِمَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنْ دَقَائِقِ الصَّنْعَةِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي ضِدِّهَا: وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ [سُورَة الْعَنْكَبُوتِ: 41] .
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْجِبَالِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [260] .
ومِنَ الدَّاخِلَةُ عَلَى الْجِبالِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا بِمَعْنَى (فِي) ، وَأَصْلُهَا مِنَ الِابْتِدَائِيَّةُ، فَالتَّعْبِيرُ بِهَا دُونَ (فِي) الظَّرْفِيَّةِ لِأَنَّ النَّحْلَ تَبْنِي لِنَفْسِهَا بُيُوتًا وَلَا تَجْعَلُ بُيُوتَهَا جُحُورَ الْجِبَالِ وَلَا أَغْصَانَ الشَّجَرِ وَلَا أَعْوَادَ الْعَرِيشِ
وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى [سُورَة الْبَقَرَة: 125] . وَلَيْسَتْ مِثْلَ (مِنْ) الَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً [سُورَة النَّحْل: 81] .
وَ «مَا يَعْرِشُونَ» أَيْ مَا يَجْعَلُونَهُ عروشا، جمع عرش، وَهُوَ مَجْلِسٌ مُرْتَفِعٌ عَلَى الْأَرْضِ فِي الْحَائِطِ أَوِ الْحَقْلِ يُتَّخَذُ مِنْ أَعْوَادٍ وَيُسَقَّفُ أَعْلَاهُ بِوَرَقٍ وَنَحْوِهِ لِيَكُونَ لَهُ ظِلٌّ فَيَجْلِسُ فِيهِ صَاحِبُهُ مُشْرِفًا عَلَى مَا حَوْلَهُ.
يُقَالُ: عَرَّشَ، إِذَا بَنَى وَرَفَعَ، وَمِنْهُ سُمِّيَ السَّرِيرُ الَّذِي يَرْتَفِعُ عَنِ الْأَرْضِ لِيَجْلِسَ عَلَيْهِ الْعُظَمَاءُ عَرْشًا.
وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [141]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانُوا يَعْرِشُونَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [137] .
وَقَرَأَ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ- بِكَسْرِ رَاءِ- يَعْرِشُونَ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ- بِضَمِّهَا-.
وثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتَبِيِّ، لِأَنَّ إِلْهَامَ النَّحْلِ لِلْأَكْلِ مِنَ الثَّمَرَاتِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ تَكَوُّنُ الْعَسَلِ فِي بُطُونِهَا، وَذَلِكَ أَعْلَى رُتْبَةً مِنَ اتِّخَاذِهَا الْبُيُوتَ لِاخْتِصَاصِهَا بِالْعَسَلِ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْحَشَرَاتِ الَّتِي تَبْنِي الْبُيُوتَ، وَلِأَنَّهُ أَعْظَمُ فَائِدَةً لِلْإِنْسَانِ، وَلِأَنَّ مِنْهُ قُوتَهَا الَّذِي بِهِ بَقَاؤُهَا. وَسُمِّيَ امْتِصَاصُهَا أَكْلًا لِأَنَّهَا تَقْتَاتَهُ فَلَيْسَ هُوَ بِشُرْبٍ.
والثَّمَراتِ: جَمْعُ ثَمَرَةٍ. وَأَصْلُ الثَّمَرَةِ مَا تُخْرِجُهُ الشَّجَرَةُ مِنْ غَلَّةٍ، مِثْلُ التَّمْرِ وَالْعِنَبِ وَالنَّحْلُ يَمْتَصُّ مِنَ الْأَزْهَارِ قَبْلَ أَنْ تَصِيرَ ثَمَرَاتٍ، فَأُطْلِقَ الثَّمَراتِ فِي الْآيَةِ عَلَى الْأَزْهَارِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ بِعَلَاقَةِ الْأَوَّلِ.
وَعُطِفَتْ جُمْلَةُ فَاسْلُكِي بِفَاءِ التَّفْرِيعِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ اللَّهَ أَوْدَعَ فِي طَبْعِ النَّحْلِ عِنْدَ الرَّعْيِ التَّنَقُّلَ مِنْ زَهْرَةٍ إِلَى زَهْرَةٍ وَمِنْ رَوْضَةٍ إِلَى رَوْضَةٍ، وَإِذَا لَمْ تَجِدْ زَهْرَةً أَبْعَدَتْ الِانْتِجَاعَ ثُمَّ إِذَا شَبِعَتْ قَصَدَتِ الْمُبَادَرَةَ بِالطَّيَرَانِ عَقِبَ الشِّبَعِ لِتَرْجِعَ إِلَى بُيُوتِهَا فَتَقْذِفُ مِنْ بُطُونِهَا الْعَسَلَ الَّذِي يَفْضُلُ عَنْ قُوتِهَا، فَذَلِكَ السُّلُوكُ مُفَرَّعٌ عَلَى طَبِيعَةِ أَكْلِهَا.
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ لِلْأَزْهَارِ وَلِلثِّمَارِ غُدَدًا دَقِيقَةً تَفْرِزُ سَائِلًا سُكَّرِيًّا تَمْتَصُّهُ النَّحْلُ وَتَمْلَأُ بِهِ مَا هُوَ كَالْحَوَاصِلِ فِي بُطُونِهَا وَهُوَ يَزْدَادُ حَلَاوَةً فِي بُطُونِ النَّحْلِ بِاخْتِلَاطِهِ بِمَوَادٍّ كِيمْيَائِيَّةٍ مُودَعَةٍ فِي بُطُونِ النَّحْلِ، فَإِذَا رَاحَتْ مِنْ مَرْعَاهَا إِلَى بُيُوتِهَا أَخْرَجَتْ مِنْ أَفْوَاهِهَا مَا حَصَلَ فِي بُطُونِهَا بَعْدَ أَنْ أَخَذَ مِنْهُ جِسْمُهَا مَا يَحْتَاجُهُ لِقُوتِهِ، وَذَلِكَ يُشْبِهُ اجْتِرَارَ الْحَيَوَانِ الْمُجْتَرِّ.
فَذَلِكَ هُوَ الْعَسَلُ.
وَالْعَسَلُ حِينَ الْقَذْفِ بِهِ فِي خَلَايَا الشَّهْدِ يَكُونُ مَائِعًا رَقِيقًا، ثُمَّ يَأْخُذُ فِي جَفَافِ مَا فِيهِ مِنْ رُطُوبَةِ مِيَاهِ الْأَزْهَارِ بِسَبَبِ حَرَارَةِ الشَّمْعِ الْمُرَكَّبِ مِنْهُ الشَّهْدُ وَحَرَارَةِ بَيْتِ النَّحْلِ حَتَّى يصير خائرا، وَيَكُونُ أَبْيَضَ فِي الرَّبِيعِ وَأَسْمَرَ فِي الصَّيْفِ.
وَالسُّلُوكُ: الْمُرُورُ وَسَطَ الشَّيْءِ مِنْ طَرِيقٍ وَنَحْوِهِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [12] .
وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْأَكْثَرِ مُتَعَدِّيًا كَمَا فِي آيَةِ الْحِجْرِ بِمَعْنَى أَسْلُكُهُ، وَقَاصِرًا بِمَعْنَى مَرَّ كَمَا هُنَا، لِأَنَّ السُّبُلَ لَا تَصْلُحُ لِأَنْ تَكُونَ مَفْعُولَ (سَلَكَ) الْمُتَعَدِّي، فَانْتِصَابُ سُبُلَ هُنَا عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ تَوَسُّعًا.
وَإِضَافَةُ السُّبُلِ إِلَى رَبِّكِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ النَّحْلَ مُسَخَّرَةٌ لِسُلُوكِ تِلْكَ السُّبُلِ لَا يَعْدِلُهَا عَنْهَا شَيْءٌ، لِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَسْلُكْهَا لَاخْتَلَّ نِظَامُ إِفْرَازِ الْعَسَلِ مِنْهَا.
وذُلُلًا جَمْعُ ذَلُولٍ، أَيْ مُذَلَّلَةٌ مُسَخَّرَةٌ لِذَلِكَ السُّلُوكِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [71] .
وَجُمْلَةُ يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْخَبَرِ عَنْ إِلْهَامِ النَّحْلِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ يُثِيرُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الْغَايَةِ مِنْ هَذَا التَّكْوِينِ
الْعَجِيبِ، فَيَكُونُ مَضْمُونُ جُمْلَةِ يَخْرُجُ مِنْ
بُطُونِها شَرابٌ بَيَانًا لِمَا سَأَلَ عَنْهُ. وَهُوَ أَيْضًا مَوْضِعُ الْمِنَّةِ كَمَا كَانَ تَمَامَ الْعِبْرَةِ.
وَجِيءَ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدِ الْخُرُوجِ وَتَكَرُّرِهِ.
وَعَبَّرَ عَنِ الْعَسَلِ بِاسْمِ الشَّرَابِ دُونَ الْعَسَل لما يومىء إِلَيْهِ اسْمُ الْجِنْسِ مِنْ مَعْنَى الِانْتِفَاعِ بِهِ وَهُوَ مَحَلُّ الْمِنَّةِ، وَلِيُرَتِّبَ عَلَيْهِ جُمْلَةَ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ. وَسُمِّيَ شَرَابًا لِأَنَّهُ مَائِعٌ يُشْرَبُ شُرْبًا وَلَا يُمْضَغُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الشَّرَابِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ فِي أَوَائِلِ هَذِه السُّورَة [النَّحْل: 10] .
وَوَصْفُهُ بِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ لِأَنَّ لَهُ مَدْخَلًا فِي الْعِبْرَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: تُسْقَى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ [سُورَة الرَّعْد: 4] ، فَذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ وَدَقِيقِ الْحِكْمَةِ.
وَفِي الْعَسَلِ خَوَاصٌّ كَثِيرَةُ الْمَنَافِعِ مُبَيَّنَةٌ فِي عِلْمِ الطِّبِّ.
وَجُعِلَ الشِّفَاءُ مَظْرُوفًا فِي الْعَسَلِ عَلَى وَجْهِ الظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ. وَهِيَ الْمُلَابَسَةُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِ مُلَابَسَةِ الشِّفَاءِ إِيَّاهُ، وَإِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَطَّرِدَ الشِّفَاءُ بِهِ فِي كُلِّ حَالَةٍ مِنْ أَحْوَالِ الْأَمْزِجَةِ، أَوْ قَدْ تَعْرِضُ لِلْأَمْزِجَةِ عَوَارِضُ تَصِيرُ غَيْرَ مُلَائِمٍ لَهَا شُرْبُ الْعَسَلِ.
فَالظَّرْفِيَّةُ تَصْلُحُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَخَلُّفِ الْمَظْرُوفِ عَنْ بَعْضِ أَجْزَاءِ الظَّرْفِ، لِأَنَّ الظَّرْفَ يَكُونُ أَوْسَعَ مِنَ الْمَظْرُوفِ غَالِبًا. شَبَّهَ تَخَلُّفَ الْمُقَارَنَةِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ بِقِلَّةِ كَمِّيَّةِ الْمَظْرُوفِ عَنْ سِعَةِ الظَّرْفِ فِي بَعْضِ أَحْوَالِ الظُّرُوفِ وَمَظْرُوفَاتِهَا، وَبِذَلِكَ يَبْقَى تَعْرِيفُ «النَّاسِ» عَلَى عُمُومِهِ، وَإِنَّمَا التَّخَلُّفُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ الْعَارِضَةِ، وَلَوْلَا الْعَارِضُ لَكَانَتِ الْأَمْزِجَةُ كُلُّهَا صَالِحَةٌ لِلِاسْتِشْفَاءِ بِالْعَسَلِ.
وَتَنْكِيرُ شِفاءٌ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ لَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ فَلَا يَقْتَضِي أَنَّهُ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ، كَمَا أَنَّ مُفَادَ (فِي) مِنَ الظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ لَا يَقْتَضِي عُمُومَ الْأَحْوَالِ.
وَعُمُومُ التَّعْرِيفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِلنَّاسِ لَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ الشُّمُولِيَّ لِكُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ بَلْ لَفْظُ (النَّاسِ) عُمُومُهُ بَدَلِيٌّ. وَالشِّفَاءُ ثَابِتٌ لِلْعَسَلِ فِي
أَفْرَادِ النَّاسِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ حَاجَاتِ الْأَمْزِجَةِ إِلَى الِاسْتِشْفَاءِ. وَعَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ مَحْمَلُ مَا
جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ أَخِي اسْتُطْلِقَ بَطْنُهُ، فَقَالَ: اسْقِهِ عَسَلًا. فَذَهَبَ فَسَقَاهُ عَسَلًا. ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
سَقَيْتُهُ عَسَلًا فَمَا زَادَهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا قَالَ: اذْهَبْ فَاسْقِهِ عَسَلًا، فَذَهَبَ فَسَقَاهُ عَسَلًا ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا زَادَهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «صَدَقَ اللَّهُ وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ فَذَهَبَ فَسَقَاهُ عسلا فبرىء»
. إِذِ الْمَعْنَى أَنَّ الشِّفَاءَ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ بِوُجُودِهِ فِي الْعَسَلِ ثَابِتٌ، وَأَنَّ مِزَاجَ أَخِي السَّائِلِ لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ مُعَارِضُ ذَلِكَ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ أَمْرُ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم إِيَّاهُ أَنْ يَسْقِيَهُ الْعَسَلَ، فَإِنَّ خَبَرَهُ يَتَضَمَّنُ أَنَّ الْعَسَلَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ بَاقٍ عَلَى مَا جَعَلَ اللَّهُ فِيهِ مِنَ الشِّفَاءِ.
وَمِنْ لَطِيفِ النَّوَادِرِ مَا فِي «الْكَشَّافِ» : أَنَّ مِنْ تَأْوِيلَاتِ الرَّوَافِضِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّحْلِ فِي الْآيَةِ عَلِيٌّ وَآلِهِ. وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ عِنْدَ الْمَهْدِيِّ: إِنَّمَا النَّحْلُ بَنُو هَاشِمٍ يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهِمُ الْعِلْمُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: جَعَلَ اللَّهُ طَعَامك وشرابك مِمَّا يخرج من بطُون بني هَاشم، فَضَحِك الْمهْدي وحدّث بِهِ الْمَنْصُور فاتّخذوه أُضْحُوكَةً مِنْ أَضَاحِيكِهِمْ.
قُلْتُ: الرَّجُلُ الَّذِي أَجَابَ الرَّافِضِيَّ هُوَ بَشَّارُ بْنُ بُرْدٍ. وَهَذِهِ الْقِصَّةُ مَذْكُورَةٌ فِي أَخْبَارِ بِشَّارٍ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ مِثْلُ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُمَاثِلَتَيْنِ لَهَا. وَهُوَ تَكْرِيرٌ لِتَعْدَادِ الِاسْتِدْلَالِ، وَاخْتِيرَ وَصْفُ التَّفَكُّرِ هُنَا لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِتَفْصِيلِ مَا أَجْمَلَتْهُ الْآيَةُ فِي نِظَامِ النَّحْلِ مُحْتَاجٌ إِلَى إِعْمَالِ فِكْرٍ دَقِيقٍ، وَنظر عميق.