الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 39]
لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (39)
لِيُبَيِّنَ تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا [سُورَة النَّحْل: 38] لِقَصْدِ بَيَانِ حِكْمَةِ جَعْلِهِ وَعْدًا لَازِمًا لَا يَتَخَلَّفُ، لِأَنَّهُ مَنُوطٌ بِحِكْمَةٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى حَكِيمٌ لَا تَجْرِي أَفْعَالُهُ عَلَى خِلَافِ الْحِكْمَةِ التَّامَّةِ، أَيْ جَعَلَ الْبَعْثَ لِيُبَيِّنَ لِلنَّاسِ الشَّيْءَ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فَيَظْهَرُ حَقُّ الْمُحِقِّ وَيَظْهَرُ بَاطِلُ الْمُبْطِلِ فِي الْعَقَائِدِ وَنَحْوِهَا مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَمَا أُلْحِقَ بِهَا.
وَشَمَلَ قَوْلُهُ: يَخْتَلِفُونَ كُلَّ مَعَانِي الْمُحَاسَبَةِ عَلَى الْحُقُوقِ لِأَنَّ تَمْيِيزَ الْحُقُوقِ مِنَ الْمَظَالِمِ كُلَّهُ مَحَلُّ اخْتِلَافِ النَّاسِ وَتَنَازُعِهِمْ.
وَعَطَفَ عَلَى هَذِهِ الْحِكْمَةِ الْعَامَّةِ حِكْمَةً فَرْعِيَّةً خَاصَّةً بِالْمَرْدُودِ عَلَيْهِمْ هُنَا، وَهِيَ حُصُولُ الْعِلْمِ لِلَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ فِيمَا اخْتَرَعُوهُ مِنَ الشِّرْكِ وَتَحْرِيمِ الْأَشْيَاءِ وَإِنْكَارِ الْبَعْثِ.
وَفِي حُصُولِ عِلْمِهِمْ بِذَلِكَ يَوْمَ الْبَعْثِ مَثَارٌ لِلنَّدَامَةِ وَالتَّحَسُّرِ عَلَى مَا فَرَطَ مِنْهُمْ مَنْ
إِنْكَارِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ حِكْمَةِ الْجَزَاءِ فِي يَوْمِ الْبَعْثِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ يُونُسَ.
وكانُوا كاذِبِينَ أَقْوَى فِي الْوَصْفِ بِالْكَذِبِ مِنْ (كَذَّبُوا أَوْ كَاذِبُونَ) ، لِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ (كَانَ) مِنَ الْوُجُودِ زِيَادَةً عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ اسْمُ الْفَاعِلِ مِنْ الِاتِّصَافِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وُجِدَ كَذِبُهُمْ وَوُصِفُوا بِهِ. وَكَذِبُهُمْ يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُمْ مُعَذَّبُونَ عُقُوبَةً عَلَى كَذِبِهِمْ. فَفِيهِ شَتْمٌ صَرِيحٌ تَعْرِيض بالعقاب.
[40]
[سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 40]
إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)
هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُتَّصِلَةٌ بِجُمْلَةِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [سُورَة النَّحْل: 38] لِبَيَانِ أَنَّ جَهْلَهُمْ بِمَدَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ الَّذِي جَرَّأَهُمْ عَلَى إِنْكَارِ الْبَعْثِ وَاسْتِحَالَتِهِ
عِنْدَهُمْ، فَهِيَ بَيَانٌ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ، وَوَقَعَتْ جُمْلَةُ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا [سُورَة النَّحْل: 39] إِلَى آخِرِهَا اعْتِرَاضًا بَيْنَ الْبَيَانِ وَالْمُبَيَّنِ.
وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ تَكْوِينُ شَيْءٍ إِذَا أَرَادَهُ اللَّهُ إِلَّا عَلَى أَنْ تَتَعَلَّقَ قُدْرَتُهُ بِتَكْوِينِهِ.
وَلَيْسَ إِحْيَاءُ الْأَمْوَاتِ إِلَّا مِنْ جُمْلَةِ الْأَشْيَاءِ، وَمَا الْبَعْثُ إِلَّا تَكْوِينٌ، فَمَا بَعْثُ الْأَمْوَاتِ إِلَّا مِنْ جُمْلَةِ تَكْوِينِ الْمَوْجُودَاتِ، فَلَا يَخْرُجُ عَنْ قُدْرَتِهِ.
وَأَفَادَتْ إِنَّما قَصْرًا هُوَ قَصْرُ وُقُوعِ التَّكْوِينِ عَلَى صُدُورِ الْأَمْرِ بِهِ، وَهُوَ قَصْرُ قَلْبٍ لِإِبْطَالِ اعْتِقَادِ الْمُشْرِكِينَ تَعَذُّرَ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا إِذَا سَلِمَتِ الْأَجْسَادُ مِنَ الْفَسَادِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، فَأُرِيدَ بِ قَوْلُنا لِشَيْءٍ تَكْوِينُنَا شَيْئًا، أَيْ تَعَلُّقُ الْقُدْرَةِ بِخَلْقِ شَيْءٍ. وَأُرِيدَ بِقَوْلِهِ: إِذا أَرَدْناهُ إِذَا تَعَلَّقَتْ بِهِ الْإِرَادَةُ الْإِلَهِيَّةُ تَعَلُّقًا تَنْجِيزِيًا، فَإِذَا كَانَ سَبَبُ التَّكْوِينِ لَيْسَ زَائِدًا عَلَى قَوْلِ كُنْ فَقَدْ بَطَلَ تَعَذُّرُ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى. وَلِذَلِكَ كَانَ هَذَا قَصْرَ قَلْبٍ لِإِبْطَالِ اعْتِقَادِ الْمُشْرِكِينَ.
وَالشَّيْءُ: أُطْلِقَ هُنَا عَلَى الْمَعْدُومِ بِاعْتِبَارِ إِرَادَةِ وَجُودِهِ، فَهُوَ مِنْ إِطْلَاقِ اسْم مَا يؤول إِلَيْهِ، أَوِ الْمُرَادُ بِالشَّيْءِ مُطْلَقُ الْحَقِيقَةِ الْمَعْلُومَةِ وَإِنْ كَانَتْ مَعْدُومَةً، وَإِطْلَاقُ الشَّيْءِ عَلَى الْمَعْدُومِ مُسْتَعْمَلٌ.
وأَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ خَبَرٌ عَنْ قَوْلُنا.
وَالْمُرَادُ بِقَوْلِ كُنْ تَوَجُّهُ الْقُدْرَةِ إِلَى إِيجَادِ الْمَقْدُورِ. عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ التَّوَجُّهِ بِالْقَوْلِ بِالْكَلَامِ كَمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِالْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
[سُورَة يس: 82] وَشُبِّهَ الشَّيْءُ الْمُمْكِنُ حُصُولُهُ بِشَخْصٍ مَأْمُورٍ، وَشُبِّهَ انْفِعَالُ الْمُمْكِنِ لِأَمْرِ التَّكْوِينِ بِامْتِثَالِ الْمَأْمُورِ لِأَمْرِ الْآمِرِ. وَكُلُّ ذَلِكَ تَقْرِيبٌ لِلنَّاسِ بِمَا يَعْقِلُونَ، وَلَيْسَ هُوَ خِطَابًا لِلْمَعْدُومِ وَلَا أَنَّ لِلْمَعْدُومِ سَمْعًا يَعْقِلُ بِهِ الْكَلَامَ فَيَمْتَثِلُ لِلْآمِرِ.