الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَلِهَذَا جَاءَ الِاسْتِدْرَاكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى. فَمَوْقِعُ الِاسْتِدْرَاكِ هُنَا أَنَّهُ تَعْقِيبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ.
وَالْأَجَلُ: الْمُدَّةُ الْمُعَيَّنَةُ لِفِعْلٍ مَا. وَالْمُسَمَّى: الْمُعَيَّنُ، لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ تَعْيِينُ الشَّيْءِ
وَتَمْيِيزُهُ، وَتَسْمِيَةُ الْآجَالِ تَحْدِيدُهَا.
وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ فِي سُورَة الْأَعْرَاف [34] .
[62]
[سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 62]
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)
هَذَا ضِغْثٌ عَلَى إِبَّالَةٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ فِي إِشْرَاكِهِمْ تُخَالِفُ قِصَّةَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ [سُورَة النَّحْل: 57] بِاعْتِبَارِ مَا يَخْتَصُّ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ إِضَافَتِهِمُ الْأَشْيَاءَ الْمَكْرُوهَةَ عِنْدَهُمْ إِلَى اللَّهِ مِمَّا اقْتَضَتْهُ كَرَاهَتُهُمُ الْبَنَاتَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ [سُورَة النَّحْل: 57] ، فَكَانَ ذَلِكَ الْجَعْلُ يَنْطَوِي عَلَى خَصْلَتَيْنِ مِنْ دِينِ الشِّرْكِ، وَهُمَا: نِسْبَةُ الْبُنُوَّةِ إِلَى اللَّهِ، وَنِسْبَةُ أَخَسِّ أَصْنَافِ الْأَبْنَاءِ فِي نَظَرِهِمْ إِلَيْهِ، فَخَصَّتِ الْأُولَى بِالذِّكْرِ بِقَوْلِهِ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ مَعَ الْإِيمَاءِ إِلَى كَرَاهَتِهِمُ الْبَنَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَخَصَّتْ هَذِهِ بِذِكْرِ الْكَرَاهِيَةِ تَصْرِيحًا، وَلِذَلِكَ كَانَ الْإِتْيَانُ بِالْمَوْصُولِ وَالصِّلَةِ مَا يَكْرَهُونَ هُوَ مُقْتَضَى الْمَقَامِ الَّذِي هُوَ تَفْظِيعُ قَوْلِهِمْ وَتَشْنِيعُ اسْتِئْثَارِهِمْ. وَقَدْ يَكُونُ الْمَوْصُولُ لِلْعُمُومِ فَيُشِيرُ إِلَى أَنَّهُمْ جَعَلُوا لِلَّهِ أَشْيَاءَ يَكْرَهُونَهَا لِأَنْفُسِهِمْ مِثْلَ الشَّرِيكِ فِي التَّصَرُّفِ وَأَشْيَاءَ لَا يَرْضَوْنَهَا لِآلِهَتِهِمْ وَنَسَبُوهَا لِلَّهِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ مَا يَحْكُمُونَ [سُورَة الْأَنْعَام: 136] .
وَفِي «الْكَشَّافِ» : «يَجْعَلُونَ لِلَّهِ أَرْذَلَ أَمْوَالِهِمْ وَلِأَصْنَامِهِمْ أَكْرَمَهَا» . فَهُوَ مُرَاد من عُمُومِ الْمَوْصُولِ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْقِصَّةُ أَعَمَّ مِنْ قِصَّةِ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ، وَيَكُونُ تَخْصِيصُهَا بِالذِّكْرِ مِنْ جِهَتَيْنِ: جِهَةِ اخْتِلَافِ الِاعْتِبَارِ، وَجِهَةِ زِيَادَةِ أَنْوَاعِ هَذَا الْجَعْلِ.
وَجُمْلَةُ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ عَطْفُ قِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ أُخْرَى مِنْ أَحْوَالِ كُفْرِهِمْ.
وَمَعْنَى تَصِفُ تَذْكُرُ بِشَرْحٍ وَبَيَانٍ وَتَفْصِيلٍ، حَتَّى كَأَنَّهَا تَذْكُرُ أَوْصَافَ الشَّيْءِ.
وَحَقِيقَةُ الْوَصْفِ: ذِكْرُ الصِّفَاتِ وَالْحُلَى. ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْقَوْلِ الْمُبِينِ الْمُفَصِّلِ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ فِي أَوَاخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ: «هَذَا مِنْ فَصِيحِ الْكَلَامِ وَبَلِيغِهِ. جَعَلَ الْقَوْلَ كَأَنَّهُ عَيْنُ الْكَذِبِ فَإِذَا نَطَقَتْ بِهِ أَلْسِنَتُهُمْ فَقَدْ صَوَّرَتِ الْكَذِبَ بِصُورَتِهِ، كَقَوْلِهِمْ:
وَجْهُهَا يَصِفُ الْجَمَالَ، وَعَيْنُهَا تَصِفُ السِّحْرَ» اه.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [100] .
وَسَيَأْتِي فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ [سُورَة النَّحْل: 116] . وَمِنْهُ قَوْلُ الْمَعَرِّي:
سَرَى بَرَقُ الْمَعَرَّةِ بَعْدَ وَهْنٍ
…
فَبَاتَ بِرَامَةٍ يَصِفُ الْكَلَالَا
أَيْ يَشْكُو الْإِعْيَاءَ مِنْ قَطْعِ مَسَافَةٍ طَوِيلَةٍ فِي زَمَنٍ قَلِيلٍ، وَهُوَ مِنْ بَدِيعِ اسْتِعَارَاتِهِ.
وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْكَذِبِ كُلُّ مَا يَقُولُونَهُ مِنْ أَقْوَالِ خَاصَّتِهِمْ وَدَهْمَائِهِمْ بِاعْتِقَادٍ أَوْ تَهَكُّمٍ. فَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُ الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ الْمَحْكِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَداً [سُورَة مَرْيَم: 77] وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى [سُورَة فصلت: 50] . وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُهُمْ فِي الْبَلِيَّةِ: أَنَّ صَاحِبَهَا يَرْكَبُهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِكَيْلَا يُعْيَى.
وَانْتَصَبَ الْكَذِبَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ تَصِفُ.
وأَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى بَدَلٌ مِنَ الْكَذِبَ أَوِ الْحُسْنى صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ، أَيِ الْحَالَةُ الْحُسْنَى.