الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَمَسُّ الضُّرِّ: حُلُولُهُ. اسْتُعِيرَ الْمَسُّ لِلْحُصُولِ الْخَفِيفِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى ضِيقِ صَبْرِ الْإِنْسَانِ بِحَيْثُ إِنَّهُ يَجْأَرُ إِلَى اللَّهِ بِحُصُولِ أَدْنَى شَيْءٍ مِنَ الضُّرِّ لَهُ. وَتَقَدَّمَ اسْتِعْمَالُ الْمَسِّ فِي الْإِصَابَةِ الْخَفِيفَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ فِي سُورَة الْأَنْعَام [17] .
وتَجْئَرُونَ تَصْرُخُونَ بِالتَّضَرُّعِ. وَالْمَصْدَرُ: الْجُؤَارُ، بِصِيغَةِ أَسْمَاءِ الْأَصْوَاتِ.
وَأَتْبَعَ هَذِهِ بِنِعْمَةٍ أُخْرَى وَهِيَ نِعْمَةُ كَاشِفِ الضُّرِّ عَنِ النَّاسِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ الْآيَةَ.
وثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتَبِيِّ كَمَا هُوَ شَأْنُهَا فِي عَطْفِ الْجُمَلِ. وَجِيءَ بِحَرْفِ ثُمَّ لِأَنَّ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ أَبْعَدُ فِي النَّظَرِ مِنْ مَضْمُونِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا فَإِنَّ الْإِعْرَاضَ عَنِ الْمُنْعِمِ بِكَشْفِ الضُّرِّ وَإِشْرَاكِ غَيْرِهِ بِهِ فِي الْعِبَادَةِ أَعْجَبُ حَالًا وَأَبْعَدُ حُصُولًا مِنَ اللَّجَأِ إِلَيْهِ عِنْدَ الشِّدَّةِ.
وَالْمَقْصُودُ تَسْجِيلُ كُفْرَانِ الْمُشْرِكِينَ، وَإِظْهَارُ رَأْفَةِ اللَّهِ بِالْخَلْقِ بِكَشْفِ الضُّرِّ عَنْهُمْ عِنْدَ الْتِجَائِهِمْ إِلَيْهِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ مِنْ أُولَئِكَ مَنْ يُشْرِكُ بِهِ وَيَسْتَمِرُّ عَلَى شِرْكِهِ بَعْدَ كَشْفِ الضُّرِّ عَنْهُ.
وإِذا الْأُولَى مُضَمَّنَةٌ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَهِيَ ظَرْفٌ. وإِذا الثَّانِيَةُ فُجَائِيَّةٌ. وَالْإِتْيَانُ بِحَرْفِ الْمُفَاجَأَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى إِسْرَاعِ هَذَا الْفَرِيقِ بِالرُّجُوعِ إِلَى الشِّرْكِ وَأَنَّهُ لَا يَتَرَيَّثُ إِلَى أَنْ يَبْعُدَ الْعَهْدُ بِنِعْمَةِ كَشْفِ الضُّرِّ عَنْهُ بِحَيْثُ يُفْجَأُونَ بِالْكُفْرِ دُفْعَةً دُونَ أَنْ يَتَرَقَّبَهُ مِنْهُمْ مُتَرَقِّبٌ، فَكَانَ الْفَرِيقُ الْمَعْنِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ فريق الْمُشْركين.
[55]
[سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 55]
لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)
لَامُ التَّعْلِيلِ مُتَعَلِّقَةٌ بِفعل يُشْرِكُونَ [سُورَة النَّحْل: 54] الَّذِي هُوَ مِنْ جَوَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ [سُورَة النَّحْل: 54] . وَالْكُفْرُ هُنَا كُفْرُ النِّعْمَةِ، وَلِذَلِكَ
عَلَّقَ بِهِ قَوْلَهُ تَعَالَى:
بِما آتَيْناهُمْ أَيْ مِنَ النِّعَمِ. وَكُفْرُ النِّعْمَةِ لَيْسَ هُوَ الْبَاعِثُ عَلَى الْإِشْرَاكِ فَإِنَّ إِشْرَاكَهُمْ سَابِقٌ عَلَى ذَلِكَ وَقَدِ اسْتَصْحَبُوهُ عَقِبَ كَشْفِ الضُّرِّ عَنْهُمْ، وَلَكِنْ شُبِّهَتْ مُقَارَنَةُ عَوْدِهِمْ إِلَى الشِّرْكِ بَعْدَ كَشْفِ الضُّرِّ عَنْهُمْ بِمُقَارَنَةِ الْعِلَّةِ الْبَاعِثَةِ عَلَى عَمَلٍ لِذَلِكَ الْعَمَلِ. وَوَجْهُ الشَّبَهِ مُبَادَرَتُهُمْ لِكُفْرِ النِّعْمَةِ دُونَ تَرَيُّثٍ.
فَاسْتُعِيرَ لِهَذِهِ الْمُقَارَنَةِ لَامُ التَّعْلِيلِ، وَهِيَ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ تَمْلِيحِيَّةٌ تَهَكُّمِيَّةٌ وَمِثْلُهَا كَثِيرُ الْوُقُوعِ فِي الْقُرْآنِ. وَقَدْ سَمَّى كَثِيرٌ مِنَ النُّحَاةِ هَذِهِ اللَّامَ لَامَ الْعَاقِبَةِ، وَمِثَالُهَا عِنْدَهُمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [سُورَة الْقَصَص: 8]، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي مَوَاضِعَ آخِرُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ فِي هَذِه السُّورَة [النَّحْل: 25] .
وَضَمِيرُ لِيَكْفُرُوا عَائِدٌ إِلَى فَرِيقٌ [سُورَة النَّحْل: 54] بِاعْتِبَارِ دَلَالَتِهِ عَلَى جَمْعٍ مِنَ النَّاسِ.
وَالْإِيتَاءُ: الْإِعْطَاءُ. وَهُوَ مُسْتَعَارٌ لِلْإِنْعَامِ بِالْحَالَةِ النَّافِعَةِ، لِأَنَّ شَأْنَ الْإِعْطَاءِ أَنْ يَكُونَ تَمْكِينًا بِالْمَأْخُوذِ الْمَحْبُوبِ.
وَعَبَّرَ بِالْمَوْصُولِ بِما آتَيْناهُمْ لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ الصِّلَةُ مِنْ كَوْنِهِ نِعْمَةً تَفْظِيعًا لِكُفْرَانِهِمْ بِهَا، لِأَنَّ كُفْرَانَ النِّعْمَةِ قَبِيح عِنْد تجميع الْعُقَلَاءِ.
وَفَرَّعَ عَلَيْهِ مُخَاطَبَتَهُمْ بِأَمْرِهِمْ بِالتَّمَتُّعِ أَمْرَ إِمْهَالٍ وَقِلَّةَ اكْتِرَاثٍ بِهِمْ وَهُوَ فِي مَعْنَى التَّخْلِيَةِ.
وَالتَّمَتُّعُ: الِانْتِفَاعُ بِالْمَتَاعِ. وَالْمَتَاعُ الشَّيْءُ الَّذِي يُنْتَفَعُ بِهِ انْتِفَاعًا مَحْبُوبًا وَيُسَرُّ بِهِ.
وَيُقَالُ: تَمَتَّعَ بِكَذَا وَاسْتَمْتَعَ. وَتَقَدَّمَ الْمَتَاعُ فِي آخِرِ سُورَةِ بَرَاءَةٍ.
وَالْخِطَابُ لِلْفَرِيقِ الَّذِينَ يُشْرِكُونَ بِرَبِّهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مَقُولٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ. لِأَنَّهُ جَاءَ مُفَرَّعًا عَلَى كَلَامٍ خُوطِبَ بِهِ النَّاسُ كُلُّهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ، فَيَكُونُ الْمُفَرَّعُ مِنْ تَمَامِ مَا تَفَرَّعَ عَلَيْهِ. وَذَلِكَ يُنَافِي الِالْتِفَاتَ الَّذِي يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَرْجِعُ الضَّمِيرِ إِلَى مَرْجِعِ مَا قبله.
وَالْمعْنَى: فَنَقُول تَمَتَّعُوا بِالنِّعَمِ الَّتِي أَنْتُمْ فِيهَا إِلَى أَمَدٍ.