الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ بِمَعْنَى الدِّيَانَةِ، فَيَكُونُ تَذْيِيلًا لِجُمْلَةِ وَقالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ، لِأَنَّ إِبْطَالَ دِينِ الشِّرْكِ يُنَاسِبُهُ أَنْ لَا يَدِينَ النَّاسُ إِلَّا بِمَا يُشَرِّعُهُ اللَّهُ لَهُمْ، أَيْ هُوَ الَّذِي يُشَرِّعُ لَكُمُ الدِّينَ لَا غَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الضَّلَالِ مِثْلُ عَمْرو بن لحيي، وَزَرَادَشْتَ، وَمَزْدَكَ، وَمَانِي، قَالَ تَعَالَى: أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [سُورَة الشورى: 21] .
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ بِمَعْنَى الْجَزَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَلِكِ يَوْم الدَّين [سُورَة الْفَاتِحَة: 4]، فَيَكُونُ إِدْمَاجًا لِإِثْبَاتِ الْبَعْثِ الَّذِي يُنْكِرُهُ أُولَئِكَ أَيْضًا. وَالْمَعْنَى: لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَرْجِعُونَ إِلَى غَيْرِهِ وَلَا يَنْفَعُهُمْ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ.
وَالْوَاصِبُ: الثَّابِتُ الدَّائِمُ، وَهُوَ صَالِحٌ لِلِاحْتِمَالَاتِ الثَّلَاثَةِ، وَيَزِيدُ عَلَى الِاحْتِمَالِ الثَّالِثِ لِأَنَّهُ تَأْكِيدٌ لِرَدِّ إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ.
وَتَفَرَّعَ عَلَى هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ التَّوْبِيخُ عَلَى تَقْوَاهُمْ غَيْرَهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَّقُونَ إِلَهَ الشَّرِّ وَيَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهِ ليأمنوا شرّه.
[53، 54]
[سُورَة النَّحْل (16) : الْآيَات 53 إِلَى 54]
وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (53) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54)
عَطْفُ خَبَرٍ عَلَى خَبَرٍ. وَهُوَ انْتِقَالٌ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِمَصْنُوعَاتِ اللَّهِ الْكَائِنَةِ فِي ذَاتِ الْإِنْسَانِ وَفِيمَا يُحِيطُ بِهِ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِمَا سَاقَ اللَّهُ مِنَ النِّعَمِ، فَمِنَ النَّاسِ مُعْرِضُونَ عَنِ التَّدَبُّرِ فِيهَا وَعَنْ شُكْرِهَا وَهُمُ الْكَافِرُونَ، فَكَانَ فِي الْأَدِلَّةِ الْمَاضِيَةِ الْقَصْدُ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ ابْتِدَاءً مَتْبُوعًا بِالِامْتِنَانِ.
وَتَغَيَّرَ الْأُسْلُوبُ هُنَا فَصَارَ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ هُوَ الِامْتِنَانُ بِالنِّعَمِ مُدْمَجًا فِيهِ الِاعْتِبَارُ بِالْخَلْقِ. فَالْخِطَابُ مُوَجَّهٌ إِلَى الْأُمَّةِ كُلِّهَا، وَلِذَلِكَ جَاءَ عَقِبَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ.
وَابْتُدِئَ بِالنِّعَمِ عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ إِجْمَالًا ثُمَّ ذُكِرَتْ مُهِمَّاتٌ مِنْهَا.
وَالْخِطَابُ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ تَذْكِيرًا لَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ رَبُّهُمْ لَا غَيْرُهُ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُنْعِمُ.
وَمَوْقِعُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ هُنَا أَنَّهُ لَمَّا أَبْطَلَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ وُجُودَ إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ (أَحَدُهُمَا فِعْلُهُ الْخَيْرُ وَالْآخَرُ فِعْلُهُ الشَّرُّ) أَعْقَبَهُ هُنَا بِأَنَّ الْخَيْرَ وَالضُّرَّ مِنْ تَصَرُّفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ يُعْطِي النِّعْمَةَ وَهُوَ كَاشِفُ الضُّرِّ.
وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ مَا لَابَسَكُمْ وَاسْتَقَرَّ عِنْدَكُمْ، ومِنْ نِعْمَةٍ لِبَيَانِ إِبْهَامِ مَا الْمَوْصُولَةِ.
و (مِنْ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمِنَ اللَّهِ ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ وَاصِلَةٌ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ، أَيْ مِنْ عَطَاءِ اللَّهِ، لِأَنَّ النِّعْمَةَ لَا تَصْدُرُ عَنْ ذَاتِ اللَّهِ وَلَكِنْ عَنْ صِفَةِ قُدْرَتِهِ أَوْ عَنْ صِفَةِ فِعْلِهِ عِنْدَ مُثْبِتِي صِفَاتِ الْأَفْعَالِ. وَلَمَّا كَانَ مَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ مُفِيدًا لِلْعُمُومِ كَانَ الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُغْنِيًا عَنِ الْإِتْيَانِ بِصِيغَةِ قَصْرٍ.
وثُمَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ لِلتَّرَاخِي الرُّتَبِي كَمَا هُوَ شَأْنُهَا الْغَالِبُ فِي عَطْفِهَا الْجُمَلَ، لِأَنَّ اللَّجَأَ إِلَى اللَّهِ عِنْدَ حُصُولِ الضُّرِّ أَعْجَبُ إِخْبَارًا مِنَ الْإِخْبَارِ
بِأَنَّ النِّعَمَ كُلَّهَا مِنَ اللَّهِ، وَمَضْمُونُ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ أَبْعَدُ فِي النَّظَرِ مِنْ مَضْمُونِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا.
وَالْمَقْصُودُ: تَقْرِيرُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ مُدَبِّرُ أَسْبَابِ مَا بِهِمْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ يَخْلُقُ إِلَّا هُوَ، وَإِنَّهُمْ لَا يَلْتَجِئُونَ إِلَّا إِلَيْهِ إِذَا أَصَابَهُمْ ضُرٌّ، وَهُوَ ضِدُّ النِّعْمَةِ.