الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَ (مَا) مَوْصُولَةٌ، ماصدقها الْعَذَابُ الْمُتَوَعَّدُونَ بِهِ. وَالْبَاءُ فِي بِهِ لِلسَّبَبِيَّةِ. وَهُوَ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ هُوَ صِفَةٌ لِمَفْعُولٍ مُطْلَقٍ. وَالتَّقْدِيرُ: الَّذِي يَسْتَهْزِئُونَ اسْتِهْزَاءً بِسَبَبِهِ، أَيْ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ وُقُوعَهُ. وَهَذَا اسْتِعْمَالٌ فِي مِثْلِهِ. وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ، مِنْ ذَلِكَ مَا فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ، وَلَيْسَتِ الْبَاءُ لتعدية فعل يَسْتَهْزِؤُنَ وَقُدِّمَ الْمَجْرُورُ عَلَى عَامِلِ مَوْصُوفِهِ لِلرِّعَايَةِ على الفاصلة.
[35]
[سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 35]
وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَاّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35)
عَطْفُ قِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ لِحِكَايَةِ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ شُبُهَاتِهِمْ وَمُكَابَرَتِهِمْ وَبَابٌ مِنْ أَبْوَابِ تَكْذِيبِهِمْ.
وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُحَاوِلُونَ إِفْحَامَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ، وَإِنَّهُ الْقَادِرُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى آلِهَتِهِمْ، وَإِنَّهُ لَا يَرْضَى بِأَنْ يُعْبَدَ مَا سِوَاهُ، وَإِنَّهُ يَنْهَاهُمْ عَنِ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَنَحْوِهِمَا، فَحَسِبُوا أَنَّهُمْ خَصَمُوا النَّبِيءَ صلى الله عليه وسلم وَحَاجُّوهُ فَقَالُوا لَهُ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ لَا نَعْبُدَ أَصْنَامًا لَمَا أَقْدَرَنَا عَلَى عِبَادَتِهَا، وَلَوْ شَاءَ أَنْ لَا نُحَرِّمَ مَا حَرَّمْنَا مِنْ نَحْوِ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ لَمَا أَقَرَّنَا عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ. وَذَلِكَ قَصْدُ إِفْحَامٍ وَتَكْذِيبٍ.
وَهَذَا رَدَّهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِتَنْظِيرِ أَعْمَالِهِمْ بِأَعْمَالِ الْأُمَمِ الَّذِينَ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ فَلَوْ كَانَ اللَّهُ يَرْضَى بِمَا عَمِلُوهُ لَمَا عَاقَبَهُمْ بِالِاسْتِئْصَالِ، فَكَانَتْ عَاقِبَتُهُمْ نُزُولُ الْعَذَابِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، ثُمَّ بِقَطْعِ الْمُحَاجَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ، أَيْ وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ الرُّسُلِ- عليهم السلام الْمُنَاظَرَةُ مَعَ الْأُمَّةِ.
وَقَالَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [148] سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا، فَسَمَّى قَوْلَهُمْ هَذَا تَكْذِيبًا كَتَكْذِيبِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ التَّكْذِيبُ وَتَعْضِيدُ تَكْذِيبِهِمْ بِحُجَّةٍ أَسَاءُوا الْفَهْمَ فِيهَا، فَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّ اللَّهَ يَتَوَلَّى تَحْرِيكَ النَّاسِ لِأَعْمَالِهِمْ كَمَا يُحَرِّكُ صَاحِبُ خَيَالِ الظِّلِّ وَمُحَرِّكُ اللُّعَبِ أَشْبَاحَهُ وَتَمَاثِيلَهُ، وَذَلِكَ جَهْلٌ مِنْهُمْ بِالْفَرْقِ بَيْنَ تَكْوِينِ الْمَخْلُوقَاتِ وَبَيْنَ مَا يَكْسِبُونَهُ بِأَنْفُسِهِمْ، وَبِالْفَرْقِ بَيْنَ أَمْرِ التَّكْذِيبِ وَأَمْرِ التَّكْلِيفِ، وَتَخْلِيطٌ بَيْنَ الرِّضَى وَالْإِرَادَةِ، وَلَوْلَا هَذَا التَّخْلِيطُ لَكَانَ قَوْلُهُمْ إِيمَانًا.
وَالْإِشَارَةُ بِ كَذلِكَ إِلَى الْإِشْرَاكِ وَتَحْرِيمِ أَشْيَاءَ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ، أَيْ كَفِعْلِ هَؤُلَاءِ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَهُمُ الْمَذْكُورُونَ فِيمَا تَقَدَّمَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [سُورَة النَّحْل: 26] وَبِقَوْلِهِ: ذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ
[سُورَة النَّحْل:
33] . وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُمْ فَعَلُوا كَفِعْلِهِمْ فَكَانَتْ عَاقِبَتُهُمْ مَا عَلِمْتُمْ، فَلَوْ كَانَ فِعْلُهُمْ مُرْضِيًا لِلَّهِ لَمَا أَهْلَكَهُمْ، فَهَلَّا اسْتَدَلُّوا بِهَلَاكِهِمْ عَلَى أَنَّ اللَّهَ غَيْرُ رَاضٍ بِفِعْلِهِمْ، فَإِنَّ دَلَالَةَ الِانْتِقَامِ أَظْهَرُ مِنْ دَلَالَةِ الْإِمْلَاءِ، لِأَنَّ دَلَالَةَ الِانْتِقَامِ وُجُودِيَّةٌ وَدَلَالَةُ الْإِمْهَالِ عَدَمِيَّةٌ.
وَضَمِيرُ نَحْنُ تَأْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ فِي عَبَدْنا. وَحَصَلَ بِهِ تَصْحِيحُ الْعَطْفِ عَلَى ضَمِيرِ الرَّفْعِ الْمُتَّصِلِ. وَإِعَادَةُ حَرْفِ النَّفْيِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا آباؤُنا لِتَأْكِيدِ مَا النَّافِيَةِ.
وَقَدْ فُرِّعَ عَلَى ذَلِكَ قَطْعُ الْمُحَاجَّةِ مَعَهُمْ وَإِعْلَامُهُمْ أَنَّ الرُّسُلَ- عليهم السلام مَا عَلَيْهِمْ إِلَّا الْبَلَاغُ وَمِنْهُمْ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم فَاحْذَرُوا أَنْ تَكُونَ عَاقِبَتُكُمْ عَاقِبَةَ أَقْوَامِ الرُّسُلِ السَّالِفِينَ.
وَلَيْسَ الرُّسُلُ بِمُكَلَّفِينَ بِإِكْرَاهِ النَّاسِ عَلَى الْإِيمَانِ حَتَّى تَسْلُكُوا مَعَهُمُ التَّحَكُّكَ بِهِمْ وَالْإِغَاظَةَ لَهُمْ.
وَالْبَلَاغُ اسْمُ مَصْدَرِ الْإِبْلَاغِ. وَالْمُبِينُ: الْمُوَضِّحُ الصَّرِيحُ.
وَالِاسْتِفْهَامُ بِ (هَلْ) إِنْكَارِيٌّ بِمَعْنَى النَّفْيِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ الِاسْتِثْنَاءُ عَقِبَهُ.