الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالتَّأْكِيدُ بِ إِنَّ مُنَاسِبٌ لِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ عَلَى الَّذِينَ لَمْ يَرَوْا تِلْكَ الْآيَاتِ، فَأَكَّدَتِ الْجُمْلَةُ الدَّالَّةُ عَلَى انْتِفَاعِ الْمُؤْمِنِينَ بِتِلْكَ الدَّلَالَةِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ مُوَجَّهٌ لِلَّذِينِ لَمْ يَهْتَدُوا بِتِلْكَ الدَّلَالَةِ، فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يُنْكِرُ أَنَّ فِي ذَلِكَ دَلَالَةً لِلْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَنْظُرُونَ بِمِرْآةِ أَنْفُسِهِمْ.
وَبَيْنَ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ عَدَمَ رُؤْيَتِهِمْ تَسْخِيرَ الطَّيْرِ وَبَيْنَ إِثْبَاتِ رُؤْيَةِ الْمُؤْمِنِينَ لِذَلِكَ مُحَسِّنُ الطباق. وَبَين نفي عدم رُؤْيَة الْمُشْركين وتأكيد إِثْبَات رُؤْيَة الْمُؤمنِينَ لذَلِك محسّن الطِّبَاقِ أَيْضًا. وَبَيْنَ ضَمِيرِ يَرَوْا وَقَوْلِهِ: «قَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» التَّضَادُّ أَيْضًا، فَحَصَلَ الطِّبَاقُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. وَهَذَا أَبْلَغُ طِبَاقٍ جَاءَ مَحْوِيًّا لِلْبَيَانِ.
وَجَمْعُ الْآيَاتِ لِأَنَّ فِي الطَّيْرِ دَلَائِلَ مُخْتَلِفَةً: مِنْ خِلْقَةِ الْهَوَاءِ، وَخِلْقَةِ أَجْسَادِ الطَّيْرِ مُنَاسِبَةً لِلطَّيَرَانِ فِي الْهَوَاءِ، وَخَلْقِ الْإِلْهَامَ لِلطَّيْرِ بِأَنْ يَسْبَحَ فِي الْجَوِّ، وَبِأَنْ لَا يَسْقُطَ إِلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِرَادَتِهِ. وَخُصَّتِ الْآيَاتُ بِالْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمْ بِخُلُقِ الْإِيمَانِ قَدْ أَلِفُوا إِعْمَالَ تَفْكِيرِهِمْ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ، بِخِلَافِ أَهْلِ الْكُفْرِ فَإِنَّ خُلُقَ الْكُفْرِ مَطْبُوعٌ عَلَى النُّفْرَةِ مِنَ الِاقْتِدَاءِ بِالنَّاصِحِينَ وَعَلَى مُكَابَرَة الحقّ.
[80]
[سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 80]
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (80)
هَذَا مِنْ تَعْدَادِ النِّعَمِ الَّتِي أَلْهَمَ اللَّهُ إِلَيْهَا الْإِنْسَانَ، وَهِيَ نِعْمَةُ الْفِكْرِ بِصُنْعِ الْمَنَازِلِ الْوَاقِيَةِ وَالْمُرَفَّهَةِ وَمَا يُشْبِهُهَا مِنَ الثِّيَابِ وَالْأَثَاثِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً [سُورَة النَّحْل: 78] . وَكُلُّهَا مِنَ الْأَلْطَافِ الَّتِي أَعَدَّ اللَّهُ لَهَا عَقْلَ الْإِنْسَانِ وَهَيَّأَ لَهُ وَسَائِلَهَا.
وَهَذِهِ نِعْمَةُ الْإِلْهَامِ إِلَى اتِّخَاذِ الْمَسَاكِنِ وَذَلِكَ أَصْلُ حِفْظِ النَّوْعِ مِنْ غَوَائِلِ حَوَادِثِ الْجَوِّ مِنْ شِدَّةِ بَرْدٍ أَوْ حَرٍّ وَمِنْ غَوَائِلِ السِّبَاعِ وَالْهَوَامِ. وَهِيَ أَيْضًا أَصْلُ الْحَضَارَةِ وَالتَّمَدُّنِ لِأَنَّ الْبُلْدَانَ وَمَنَازِلَ الْقَبَائِلِ تَتَقَوَّمُ مِنِ اجْتِمَاعِ الْبُيُوتِ. وَأَيْضًا تَتَقَوَّمُ مِنْ مُجْتَمَعِ الْحُلَلِ وَالْخِيَامِ.
وَالْقَوْلُ فِي نَظْمِ جُمْلَةِ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ كَالْقَوْلِ فِي الَّتِي قَبْلَهَا.
وَبُيُوتٌ: يَجُوزُ فِيهِ ضَمُّ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرُهَا، وَهُوَ جَمْعُ بَيْتٍ. وَضَمُّ الْمُوَحَّدَةِ هُوَ الْقِيَاسُ لِأَنَّهُ عَلَى وَزْنِ فُعُولٌ، وَهُوَ مُطَّرِدٌ فِي جَمْعِ فَعْلٍ- بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ-. وَأَمَّا لُغَةُ- كَسْرِ الْبَاءِ- فَلِمُنَاسَبَةِ وُقُوعِ الْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ بَعْدَ الْمُوَحَّدَةِ الْمَضْمُومَةِ، لِأَنَّ الِانْتِقَالَ مِنْ حَرَكَةِ الضَّمِّ إِلَى النُّطْقِ بِالْيَاءِ ثَقِيلٌ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَكْثَرُ النَّحْوِيِّينَ لَا يَعْرِفُونَ الْكَسْرَ (أَيْ لَا يَعْرِفُونَهُ لُغَةً) وَبَيَّنَ أَبُو عَلِيٍّ جَوَازَهُ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَبِالْكَسْرِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ. وَقَرَأَهَا بِالضَّمِّ أَبُو عَمْرٍو وَوَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ.
وَالْبَيْتُ: مَكَانٌ يُجْعَلُ لَهُ بِنَاءٌ وَفُسْطَاطٌ يُحِيطُ بِهِ يُعَيِّنُ مَكَانَهُ لِيَتَّخِذَهُ جَاعِلُهُ مَقَرًّا يَأْوِي إِلَيْهِ وَيَسْتَكِنُّ بِهِ مِنَ الْحَرِّ وَالْقَرِّ. وَقَدْ يَكُونُ مُحِيطُهُ مِنْ حَجَرٍ وَطِينٍ وَيُسَمَّى جِدَارًا، أَوْ مِنْ أَخْشَابٍ أَوْ قَصَبٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَتُسَمَّى أَيْضًا الْأَخْصَاصُ. وَيُوضَعُ فَوْقَ مُحِيطِهِ غِطَاءٌ سَاتِرٌ مِنْ أَعْلَاهُ يُسَمَّى السَّقْفُ، يُتَّخَذُ مِنْ أَعْوَادٍ وَيُطَيَّنُ عَلَيْهَا، وَهَذِهِ بُيُوتُ أَهْلِ الْمُدُنِ وَالْقُرَى.
وَقَدْ يَكُونُ الْمُحِيطُ بِالْبَيْتِ مُتَّخَذًا مِنْ أَدِيمٍ مَدْبُوغٍ وَيُسَمَّى الْقُبَّةَ، أَوْ مِنْ أَثْوَابٍ تُنْسَجُ مِنْ وَبَرٍ أَوْ شَعْرٍ أَوْ صُوفٍ وَيُسَمَّى الْخَيْمَةَ أَوِ الْخِبَاءَ، وَكُلُّهَا يَكُونُ بِشَكْلٍ قَرِيبٍ مِنَ الْهَرَمِيِّ تَلْتَقِي شُقَّتَاهُ أَوْ شُقَقُهُ مِنْ أَعْلَاهُ مُعْتَمِدَةً عَلَى عَمُودٍ وَتَنْحَدِرُ مِنْهُ مُتَّسِعَةً عَلَى شَكْلٍ مَخْرُوطٍ.
وَهَذِهِ بُيُوتُ الْأَعْرَابِ فِي الْبَوَادِي أَهْلِ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ يَتَّخِذُونَهَا لِأَنَّهَا أَسْعَدُ لَهُمْ فِي انْتِجَاعِهِمْ، فَيَنْقُلُونَهَا مَعَهُمْ إِذَا انْتَقَلُوا
يَتَتَبَّعُونَ مَوَاقِعَ الْكَلَأِ لِأَنْعَامِهِمْ وَالْكَمْأَةِ لِعَيْشِهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْبَيْتِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [125] .
وجَعَلَ هُنَا بِمَعْنَى أَوْجَدَ، فَتَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ.
وَالسَّكَنُ: اسْمٌ بِمَعْنَى الْمَسْكُونِ. وَالسُّكْنَى: مَصْدَرُ سَكَنَ فُلَانٌ الْبَيْتَ، إِذَا جَعَلَهُ مَقَرًّا لَهُ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ السُّكُونِ، أَيِ الْقَرَارِ.
وَانْتَصَبَ قَوْلُهُ تَعَالَى: سَكَناً عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِ جَعَلَ.
وَقَوْلُهُ: مِنْ بُيُوتِكُمْ بَيَانٌ لِلسَّكَنِ، فَتَكُونُ مِنْ بَيَانِيَّةٌ، أَوْ تُجْعَلُ ابْتِدَائِيَّةً وَيَكُونُ الْكَلَامُ مِنْ قَبِيلِ التَّجْرِيدِ بِتَنْزِيلِ الْبُيُوتِ مَنْزِلَةَ شَيْءٍ آخَرَ غَيْرِ السَّكَنِ، كَقَوْلِهِمْ: لَئِنْ لَقِيتَ فُلَانًا لَتَلْقَيَنَّ مِنْهُ بَحْرًا. وَأَصْلُ التَّرْكِيبِ: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ بُيُوتَكُمْ سَكَنًا.
وَقِيلَ: إِنَّ سَكَناً مَصْدَرٌ وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ، وَعَلَيْهِ فَيَكُونُ الِامْتِنَانُ بِالْإِلْهَامِ الَّذِي
دَلَّ عَلَيْهِ السُّكُونُ، وَتَكُونُ مِنْ ابْتِدَائِيَّةً، لِأَنَّ أَوَّلَ السُّكُونِ يَقَعُ فِي الْبُيُوتِ.
وَشَمِلَ الْبُيُوتُ هُنَا جَمِيعَ أَصْنَافِهَا.
وَخُصَّ بِالذِّكْرِ الْقِبَابُ وَالْخِيَامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً لِأَنَّ الْقِبَابَ مَنْ أَدَمٍ، وَالْخِيَامَ مِنْ مَنْسُوجِ الْأَوْبَارِ وَالْأَصْوَافِ وَالْأَشْعَارِ، وَهِيَ نَاشِئَةٌ مِنَ الْجِلْدِ، لِأَنَّ الْجِلْدَ هُوَ الْإِهَابُ بِمَا عَلَيْهِ، فَإِذَا دُبِغَ وَأُزِيلَ مِنْهُ الشَّعْرُ فَهُوَ الْأَدِيمُ.
وَهَذَا امْتِنَانٌ خَاصٌّ بِالْبُيُوتِ الْقَابِلَةِ لِلِانْتِقَالِ وَالِارْتِحَالِ، وَالْبَشَرُ كُلُّهُمْ لَا يَعْدُونَ أَنْ يَكُونُوا أَهْلَ قُرًى أَوْ قَبَائِلَ رُحَّلًا.
وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِي تَسْتَخِفُّونَها لِلْوِجْدَانِ، أَيْ تَجِدُونَهَا خَفِيفَةً، أَيْ خَفِيفَةَ الْمَحْمَلِ حِينَ تَرْحَلُونَ، إِذْ يَسْهُلُ نَقْضُهَا مِنْ مَوَاضِعِهَا وَطَيُّهَا وَحَمْلُهَا عَلَى الرَّوَاحِلِ، وَحِينَ تُنِيخُونَ إِنَاخَةَ الْإِقَامَةِ فِي الْمَوْضِعِ الْمُنْتَقَلِ إِلَيْهِ فَيَسْهُلُ ضَرْبُهَا وَتَوْثِيقُهَا فِي الْأَرْضِ.