الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سُورَة النَّمْل (27) : آيَة 4]
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4)
لَا مَحَالَةَ يُثِيرُ كَوْنُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ هُدًى وَبُشْرَى لِلَّذِينِ يُوقِنُونَ بِالْآخِرَةِ سُؤَالًا فِي نَفْسِ السَّامِعِ عَنْ حَالِ أَضْدَادِهِمُ الَّذِينَ لَا يوقنون بِالآخِرَة لماذَا لَا يَهْتَدُونَ بِهَدْيِ هَذَا الْكِتَابِ الْبَالِغِ حَدًّا عَظِيمًا فِي التَّبَيُّنِ وَالْوُضُوحِ. فَلَا جَرَمَ أَنْ يَصْلُحَ الْمَقَامُ لِلْإِخْبَارِ عَمَّا صَرَفَ هَؤُلَاءِ الْأَضْدَادَ عَنِ الْإِيمَانِ بِالْحَيَاةِ الْآخِرَةِ فَوَقَعَ هَذَا الِاسْتِئْنَافُ الْبَيَانِيُّ لِبَيَانِ سَبَبِ اسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى ضَلَالِهِمْ. ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يعلم خبث طواياهم فَحَرَمَهُمُ التَّوْفِيقَ وَلَمْ يَصْرِفْ إِلَيْهِمْ عِنَايَةً تَنْشُلُهُمْ مِنْ كَيْدِ الشَّيْطَانِ لِحِكْمَةٍ عَلِمَهَا اللَّهُ مَنْ حَال مَا جبلت عَلَيْهِ نُفُوسُهُمْ، فَوَقَعَ هَذَا الِاسْتِئْنَافُ بِتَوَابِعِهِ مَوْقِعَ الِاعْتِرَاضِ بَيْنَ أَخْبَارِ التَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ بِمَا سَبَقَ، وَالتَّنْوِيهِ بِهِ بِمَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ [النَّمْل: 6] .
وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ لِأَنَّهُ بِحَيْثُ يَلْتَبِسُ عَلَى النَّاسِ سَبَبُ افْتِرَاقِ النَّاسِ فِي تَلَقِّي الْهُدَى بَيْنَ مُبَادِرٍ وَمُتَقَاعِسٍ وَمُصِرٍّ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ فِي الضَّلَالِ. وَمَجِيءُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ مَوْصُولا يومىء إِلَى أَنَّ الصِّلَةَ عِلَّةٌ فِي الْمُسْنَدِ.
وَتَزْيِينُ تِلْكَ الْأَعْمَالِ لَهُمْ: تَصَوُّرُهُمْ إِيَّاهَا فِي نُفُوسِهِمْ زَيْنًا، وَإِسْنَادُ التَّزْيِينِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى يَرْجِعُ إِلَى أَمْرِ التَّكْوِينِ، أَيْ خُلِقَتْ نُفُوسُهُمْ وَعُقُولُهُمْ قَابِلَةً لِلِانْفِعَالِ وَقَبُولِ مَا ترَاهُ
من مساوئ الِاعْتِقَادَاتِ وَالْأَعْمَالِ الَّتِي اعْتَادُوهَا، فَإِضَافَةُ أَعْمَالٍ إِلَى ضَمِيرِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يَقْتَضِي أَنَّ تِلْكَ الْأَعْمَالَ هِيَ أَعْمَالُ الْإِشْرَاكِ الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ فَهُمْ لِإِلْفِهِمْ إِيَّاهَا وَتَصَلُّبِهِمْ فِيهَا صَارُوا غَيْرَ قَابِلِينَ لِهَدْيِ هَذَا الْكِتَابِ الَّذِي جَاءَتْهُمْ آيَاتُهُ.
وَقَدْ أَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى مَعْنًى دَقِيقٍ جِدًّا وَهُوَ أَنَّ تَفَاوُتَ النَّاسِ فِي قَبُولِ الْخَيْرِ كَائِنٌ بِمِقْدَارِ رُسُوخِ ضِدِّ الْخَيْرِ فِي نُفُوسِهِمْ وَتَعَلُّقِ فِطْرَتِهِمْ بِهِ. وَذَلِكَ مِنْ جَرَّاءِ مَا طَرَأَ عَلَى سَلَامَةِ الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ النَّاسَ عَلَيْهَا مِنَ التَّطَوُّرِ إِلَى الْفَسَادِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [التِّين: 5، 6] الْآيَةَ. فَمُبَادَرَةُ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه إِلَى الْإِيمَانِ بِالنَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم أَمَارَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ فَطَرَهُ بِنَفْسٍ وَعَقْلٍ بَرِيئَيْنِ مِنَ التَّعَلُّقِ بِالشَّرِّ مُشْتَاقَيْنِ
إِلَى الْخَيْرِ حَتَّى إِذَا لَاحَ لَهُمَا تَقَبَّلَاهُ.
وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ «مَا زَالَ أَبُو بَكْرٍ بِعَيْنِ الرِّضَى مِنَ الرَّحْمَنِ» .
وَقَدْ أَوْمَأَ جَعْلُ صِلَةِ الْمَوْصُولِ مُضَارِعًا إِلَى أَنَّ الْحُكْمَ مَنُوطٌ بِالِاسْتِمْرَارِ عَلَى عَدَمِ الْإِيمَانِ، وَأَوْمَأَ جَعْلُ الْخَبَرِ مَاضِيًا فِي قَوْلِهِ: زَيَّنَّا إِلَى أَنَّ هَذَا التَّزْيِينَ حُكْمٌ سَبَقَ وَتَقَرَّرَ مِنْ قَبْلُ، وَحَسْبُكَ أَنَّهُ مِنْ آثَارِ التَّكْوِينِ بِحَسَبِ مَا طَرَأَ عَلَى النُّفُوسِ مِنَ الْأَطْوَارِ.
فَإِسْنَادُ تَزْيِينِ أَعْمَالِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى اللَّهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا مِثْلُ قَوْلِهِ: كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [108] لَا يُنَافِي إِسْنَادَ ذَلِكَ إِلَى الشَّيْطَانِ فِي قَوْلِهِ الْآتِي وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ [النَّمْل: 24] فَإِنَّ وَسْوَسَةَ الشَّيْطَانِ تَجِدُ فِي نُفُوسِ أُولَئِكَ مَرْتَعًا خِصْبًا وَمَنْبَتًا لَا يَقْحَلُ فَاللَّهُ تَعَالَى مُزَيِّنٌ لَهُمْ بِسَبَبِ تَطَوُّرِ جِبِلَّةِ نُفُوسِهِمْ مِنْ أَثَرِ ضَعْفِ سَلَامَةِ الْفِطَرِ عِنْدَهُمْ، وَالشَّيْطَانُ مُزَيِّنٌ لَهُمْ بِالْوَسْوَسَةِ الَّتِي تَجِدُ قُبُولًا فِي نُفُوسِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُ قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص: 82، 83] وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ [الْحجر: 42] وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [7] .
وَفُرِّعَ عَلَى تَزْيِينِ أَعْمَالِهِمْ لَهُمْ أَنَّهُمْ فِي عَمَهٍ مُتَمَكِّنٍ مِنْهُمْ بِصَوْغِ الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِذَلِكَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ. وَأَفَادَتْ صِيغَةُ الْمُضَارِعِ أَنَّ الْعَمَهَ متجدد مُسْتَمر فيهم، أَيْ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ إِلَى اهْتِدَاءٍ لِأَنَّهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى صَوَابٍ.
وَالْعَمَهُ: الضَّلَالُ عَنِ الطَّرِيقِ بِدُونِ اهْتِدَاءٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [15] . وَفِعْلُهُ كَمَنَعَ وَفَرِحَ.
فَضَمِيرُ هُمْ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ بِمُرَاعَاةِ هَذَا الْعُنْوَانِ لَا بِذَوَاتِهِمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الِاسْتِمْرَارَ مُتَفَاوِتُ الِامْتِدَادِ فَمِنْهُ أَشَدُّهُ وَهُوَ الَّذِي يَمْتَدُّ بِصَاحِبِهِ إِلَى الْمَوْتِ، وَمِنْهُ دُونُ ذَلِكَ. وَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ تَزْيِينِ الْكُفْرِ فِي نُفُوسِهِمْ تَزْيِينًا