الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اللِّبَاسِ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً فَيَكُونُ الْإِخْبَارُ بِهِ عَنِ النَّهَارِ حَقِيقِيًّا، وَالْمِنَّةُ فِي أَنَّ النَّهَارَ يَنْتَشِرُ فِيهِ النَّاسُ لِحَوَائِجِهِمْ وَاكْتِسَابِهِمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ بَعْثُ الْأَجْسَادِ بَعْدَ مَوْتِهَا فَيَكُونُ الْإِخْبَارُ عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيه البليغ.
[48- 50]
[سُورَة الْفرْقَان (25) : الْآيَات 48 إِلَى 50]
وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (49) وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَاّ كُفُوراً (50)
اسْتِدْلَالٌ عَلَى الِانْفِرَادِ بِالْخَلْقِ وَامْتِنَانٌ بِتَكْوِينِ الرِّيَاحِ وَالْأَسْحِبَةِ وَالْمَطَرِ. وَمُنَاسَبَةُ الِانْتِقَالِ مِنْ حَيْثُ مَا فِي الِاسْتِدْلَالِ الَّذِي قَبْلَهُ مِنْ ذِكْرِ حَالِ النُّشُورِ وَالِامْتِنَانِ بِهِ فَانْتَقَلَ إِلَى مَا فِي الرِّيَاحِ مِنَ النُّشُورِ بِذِكْرِ وَصْفِهَا بِأَنَّهَا نُشُرٌ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، أَوْ لِكَوْنِهَا كَذَلِكَ فِي الْوَاقِعِ عَلَى قِرَاءَةِ عَاصِمٍ. وَمَرْدُودُ الِاسْتِدْلَالِ قَصْرُ إِرْسَالِ الرِّيَاحِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى إِبْطَالًا لِادِّعَاءِ الشُّرَكَاءِ لَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ بِنَفْيِ الشَّرِكَةِ فِي التَّصَرُّفِ فِي هَذِهِ الْكَائِنَاتِ وَذَلِكَ مَا لَا يُنْكِرُهُ الْمُشْرِكُونَ كَمَا تَقَدَّمَ مِثْلُهُ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً [الْفرْقَان: 47] إِلَخْ..
وَأُطْلِقَ عَلَى تَكْوِينِ الرِّيَاحِ فِعْلُ أَرْسَلَ الَّذِي هُوَ حَقِيقَةٌ فِي بَعْثِ شَيْءٍ وَتَوْجِيهِهِ، لِأَنَّ حَرَكَةَ الرِّيَاحِ تُشْبِهُ السَّيْرَ. وَقَدْ شَاعَ اسْتِعْمَالُ الْإِرْسَالِ فِي إِطْلَاقِ الْعَنَانِ لِخَيْلِ السباق.
وَهَذَا الِاسْتِدْلَال بدقيق صنع اللَّهِ فِي تَكْوِينِ الرِّيَاحِ، فَالْعَامَّةُ يَعْتَبِرُونَ بِمَا هُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ
مُشَاهَدَتِهِمْ مِنْ ذَلِكَ، وَالْخَاصَّةُ يُدْرِكُونَ كَيْفِيَّةَ حُدُوثِ الرِّيَاحِ وَهُبُوبِهَا واختلافها، وَذَلِكَ ناشىء عَنِ الْتِقَاءِ حَرَارَةِ جَانِبٍ مِنَ الْجَوِّ بِبُرُودَةِ جَانِبٍ آخَرَ. ثُمَّ إِنَّ الرِّيَاحَ بِهُبُوبِهَا حَارَّةً مَرَّةً وَبَارِدَةً أُخْرَى تُكَوِّنُ الْأَسْحِبَةَ وَتُؤْذِنُ بِالْمَطَرِ فَلِذَلِكَ وُصِفَتْ بِأَنَّهَا نُشُرٌ بَيْنَ يَدَيِ الْمَطَرِ.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ أَرْسَلَ الرِّياحَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ الرِّيحَ
بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ عَلَى مَعْنَى الْجِنْسِ. وَالْقِرَاءَتَانِ مُتَّحِدَتَانِ فِي الْمَعْنَى، وَلَكِنْ غَلَبَ جَمْعُ الرِّيحِ فِي رِيحِ الْخَيْرِ وَإِفْرَادُ الرِّيحِ فِي رِيحِ الْعَذَابِ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَتَقَدَّمَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [164] .
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نُشُرًا بِنُونٍ فِي أَوَّلِهِ وَبِضَمَّتَيْنِ جَمْعَ نَشُورٍ كَرَسُولٍ وَرُسُلٍ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِضَمٍّ فَسُكُونٍ عَلَى تَخْفِيفِ الْحَرَكَةِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الشِّينِ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ، وَكُلُّهَا مِنَ النَّشْرِ وَهُوَ الْبَسْطُ كَمَا يُنْشَرُ الثَّوْبُ الْمَطْوِيُّ لِأَنَّ الرِّيَاحَ تَنْشُرُ السَّحَابَ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ بِبَاءٍ مُوَحَّدَةٍ وَسُكُونِ الشِّينِ جَمْعَ بَشُورٍ مِنَ التَّبْشِيرِ لِأَنَّهَا تُبَشِّرُ بِالْمَطَرِ. وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ نَشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [57] .
وَالِالْتِفَاتُ مِنَ الْغَيْبَة إِلَى التَّكَلُّم فِي قَوْلِهِ وَأَنْزَلْنا- لِنُحْيِيَ- ونُسْقِيَهُ- ولَقَدْ صَرَّفْناهُ لِلدَّاعِي الَّذِي قَدَّمْنَاهُ فِي قَوْلِهِ آنِفًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا [الْفرْقَان:
45، 46] .
وَالْمُرَادُ بِ رَحْمَتِهِ الْمَطَرُ لِأَنَّهُ رَحْمَةٌ لِلنَّاسِ وَالْحَيَوَانِ بِمَا يُنْبِتُهُ مِنَ الشَّجَرِ وَالْمَرْعَى.
وَجُمْلَةُ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً طَهُوراً عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةٍ أَرْسَلَ الرِّياحَ إِلَخْ، فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي حَيِّزِ الْقَصْرِ، أَيْ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا. وَضَمِيرُ أَنْزَلْنا الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ لِأَنَّ التَّكَلُّمَ أَلْيَقُ بِمَقَامِ الِامْتِنَانِ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى إِنْزَالِ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ عِنْدَ قَوْلِهِ: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [19] .
وَالطَّهُورُ بِفَتْحِ الطَّاءِ مِنْ أَمْثِلَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ كَمَا يُقَالُ: رَجُلٌ صَبُورٌ.
وَمَاءُ الْمَطَرِ بَالِغٌ مُنْتَهَى الطَّهَارَةِ إِذْ لَمْ يَخْتَلِطْ بِهِ شَيْءٌ يُكَدِّرُهُ أَوْ يُقَذِّرُهُ وَهُوَ فِي عِلْمِ الْكِيمْيَاءِ أَنْقَى الْمِيَاهِ لِخُلُوِّهِ عَنْ جَمِيعِ الْجَرَاثِيمِ فَهُوَ الصَّافِي حَقًّا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمَاءَ النَّازِلَ مِنَ السَّمَاءِ هُوَ بَالِغُ نِهَايَةِ الطَّهَارَةِ فِي جِنْسِهِ مِنَ الْمِيَاهِ وَوَصْفُ الْمَاءِ بِالطَّهُورِ يَقْتَضِي أَنَّهُ مُطَهِّرٌ لِغَيْرِهِ إِذِ الْعُدُولُ عَنْ صِيغَةِ فَاعِلٍ إِلَى صِيغَةِ فَعُولٍ لِزِيَادَةِ مَعْنًى فِي الْوَصْفِ، فَاقْتِضَاؤُهُ فِي
هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ مُطَهِّرٌ لِغَيْرِهِ اقْتِضَاءٌ الْتِزَامِيٌّ
لِيَكُونَ مُسْتَكْمِلًا وَصْفَ الطَّهَارَةِ الْقَاصِرَةِ وَالْمُتَعَدِّيَةِ، فَيَكُونَ ذِكْرُ هَذَا الْوَصْفِ إِدْمَاجًا لِمِنَّةٍ فِي أَثْنَاءِ المنن الْمَقْصُودَة، وَيكون كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ [الْأَنْفَال: 11] وَصَفَ الطَّهَارَةَ الذَّاتِيَّةَ وَتَطْهِيرَهُ، فَيَكُونُ هَذَا الْوَصْفُ إِدْمَاجًا وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ الْأَحَقُّ بِمَقَامِ الِامْتِنَانِ وَصْفُ الْمَاءِ بِالصَّفَاءِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.
وَالْبَلْدَةُ: الْأَرْضُ. وَوَصْفُهَا بِالْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ مَجَازَانِ لِلرَّيِّ وَالْجَفَافِ لِأَنَّ رَيَّ الْأَرْضِ يَنْشَأُ عَنْهُ النَّبَاتُ وَهُوَ يُشْبِهُ الْحَيَّ، وَجَفَافُ الْأَرْضِ يَجِفُّ بِهِ النَّبَاتُ فَيُشْبِهُ الْمَيِّتَ.
وَلِمَاءِ الْمَطَرِ خَاصِّيَّةُ الْإِحْيَاءِ لِكُلِّ أَرْضٍ لِأَنَّهُ لِخُلُوِّهِ مِنَ الْجَرَاثِيمِ وَمِنْ بَعْضِ الْأَجْزَاءِ الْمَعْدِنِيَّةِ وَالتُّرَابِيَّةِ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَيْهَا مِيَاهُ الْعُيُونِ وَمِيَاهُ الْأَنْهَارِ وَالْأَوْدِيَةِ كَانَ صَالِحًا بِكُلِّ أَرْضٍ وَبِكُلِّ نَبَاتٍ عَلَى اخْتِلَافِ طِبَاعِ الْأَرَضِينَ وَالْمَنَابِتِ.
وَالْبَلْدَةُ: الْبَلَدُ. وَالْبَلَدُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ مِثْلَ كَثِيرٍ مِنْ أَسْمَاءِ أَجْنَاسِ الْبِقَاعِ كَمَا قَالُوا: دَارٌ وَدَارَةٌ. وَوُصِفَتِ الْبَلْدَةُ بِمَيِّتٍ، وَهُوَ وَصْفٌ مُذَكِّرٌ لِتَأْوِيلِ بَلْدَةً بِمَعْنَى مَكَانٍ لِقَصْدِ التَّخْفِيفِ. وَقَالَ فِي «الْكَشَّافِ» مَا مَعْنَاهُ: إِنَّهُ لَمَّا دَلَّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الِاتِّصَافِ بِالْمَوْتِ وَلَمْ يَكُنْ جَارِيًا عَلَى أَمْثِلَةِ الْمُبَالَغَةِ نُزِّلَ مَنْزِلَةَ الِاسْمِ الْجَامِدِ (أَيْ فَلَمْ يُغَيَّرْ) . وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ اسْمُ الْمَيِّتِ، وَوَصْفُ الْبَلْدَةِ بِهِ وَصْفٌ عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ.
وَفِي قَوْلِهِ لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً إِيمَاءٌ إِلَى تَقْرِيبِ إِمْكَانِ الْبَعْثِ.
ونُسْقِيَهُ بِضَمِّ النُّونِ مُضَارِعُ أَسْقَى مِثْلَ الَّذِي بِفَتْحِ النُّونِ فَقِيلَ هُمَا لُغَتَانِ يُقَالُ:
أَسْقَى وَسَقَى. قَالَ تَعَالَى: قالَتا لَا نَسْقِي [الْقَصَص: 23] بِفَتْحِ النُّونِ. وَقِيلَ: سَقَى: أَعْطَى الشَّرَابَ، وَأَسْقَى: هَيَّأَ الْمَاءَ لِلشُّرْبِ. وَهَذَا الْقَوْلُ أَسَدُّ لِأَنَّ الْفُرُوقَ بَيْنَ مَعَانِي الْأَلْفَاظِ مِنْ مَحَاسِنِ اللُّغَةِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى هَيَّأْنَاهُ لِشُرْبِ الْأَنْعَامِ وَالْأَنَاسِيِّ فَكُلُّ مَنِ احْتَاجَ لِلشُّرْبِ شَرِبَ مِنْهُ سَوَاءٌ مَنْ شَرِبَ وَمَنْ لَمْ يَشْرَبْ.
وأَنْعاماً مَفْعُولٌ ثَانٍ لِ نُسْقِيَهُ. وَقَوْلُهُ: مِمَّا خَلَقْنا حَالٌ مِنْ أَنْعاماً وَأَناسِيَّ. و (مِنْ) تَبْعِيضِيَّةٌ. وَ (مَا) مَوْصُولَةٌ، أَيْ بَعْضَ مَا خَلَقْنَاهُ، وَالْمَوْصُولُ لِلْإِيمَاءِ إِلَى عِلَّةِ الْخَبَرِ، أَيْ نُسْقِيهِمْ لِأَنَّهُمْ مَخْلُوقَاتٌ. فَفَائِدَةُ هَذَا الْحَالِ الْإِشَارَةُ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ بِهَا لِأَنَّهَا خَلْقُهُ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ أَنْوَاعًا أُخْرَى مِنَ
الْخَلَائِقِ تُسْقَى بِمَاءِ السَّمَاءِ، وَلَكِنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى ذِكْرِ الْأَنْعَامِ وَالْأَنَاسِيِّ لِأَنَّهُمَا مَوْقِعُ الْمِنَّةِ، فَالْأَنْعَامُ بِهَا صَلَاحُ حَالِ الْبَادِينَ
بِأَلْبَانِهَا وَأَصْوَافِهَا وَأَشْعَارِهَا وَلُحُومِهَا، وَهِيَ تَشْرَبُ مِنْ مِيَاهِ الْمَطَرِ مِنَ الْأَحْوَاضِ وَالْغُدْرَانِ.
وَالْأَنَاسِيُّ: جَمْعُ إِنْسِيٍّ، وَهُوَ مُرَادِفُ إِنْسَانٍ. فَالْيَاءُ فِيهِ لَيْسَتْ لِلنَّسَبِ. وَجُمِعَ عَلَى فَعَالِيَّ مِثْلِ كُرْسِيِّ وَكَرَاسِيَّ. وَلَوْ كَانَتْ يَاؤُهُ نَسَبٌ لَجُمِعَ عَلَى أَنَاسِيَةٍ كَمَا قَالُوا: صَيْرَفِيٌّ وَصَيَارِفَةٌ. وَوُصِفَ الْأَنَاسِيُّ بِ كَثِيراً لِأَنَّ بَعْضَ الْأَنَاسِيِّ لَا يَشْرَبُونَ مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ وَهُمُ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ مِنْ مِيَاهِ الْأَنْهَارِ كَالنِّيلِ وَالْفُرَاتِ، وَالْآبَارِ وَالصَّهَارِيجِ، وَلِذَلِكَ وُصِفَ الْعَرَبُ بِأَنَّهُمْ بَنُو مَاءِ السَّمَاءِ. فَالْمِنَّةُ أَخَصُّ بِهِمْ، قَالَ زِيَادَةُ الْحَارِثِيُّ (1) :
وَنَحْنُ بَنُو مَاءِ السَّمَاءِ فَلَا نَرَى
…
لِأَنْفُسِنَا مِنْ دُونِ مَمْلَكَةٍ قَصْرًا (2)
وَفِي أَحَادِيثِ ذِكْرِ هَاجَرَ زَوْجِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ «فَتِلْكَ أُمُّكُمْ يَا بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ» يَعْنِي الْعَرَبَ. وَمَاءُ الْمَطَرِ لِنَقَاوَتِهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا صَالِحٌ بِأَمْعَاءِ كُلِّ النَّاسِ وَكُلِّ الْأَنْعَامِ دُونَ بَعْضِ مِيَاهِ الْعُيُونِ وَالْأَنْهَارِ.
وَوَصَفَ أَنَاسِيَّ وَهُوَ جَمْعٌ بِكَثِيرٍ وَهُوَ مُفْرَدٌ لِأَنَّ فَعِيلًا قَدْ يُرَادُ بِهِ الْمُتَعَدِّدُ مِثْلَ رَفِيقٍ وَكَذَلِكَ قَلِيلٌ قَالَ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا [الْأَعْرَاف: 86] .
وَتَقْدِيمُ ذِكْرُ الْأَنْعَامِ عَلَى الْأَنَاسِيِّ اقْتَضَاهُ نَسْجُ الْكَلَامِ عَلَى طَرِيقَةِ الْأَحْكَامِ فِي تَعْقِيبِهِ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا، وَلَوْ قُدِّمَ ذِكْرُ أَناسِيَّ لَتَفَكَّكَ النَّظْمُ. وَلَمْ يُقَدَّمْ ذِكْرُ النَّاسِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ فِي سُورَةِ النَّازِعَاتِ [33] لِانْتِفَاءِ الدَّاعِي لِلتَّقْدِيمِ فَجَاءَ عَلَى أَصْلِ التَّرْتِيبِ.
وَضَمِيرُ صَرَّفْناهُ عَائِدٌ إِلَى مَاءً طَهُوراً. وَالتَّصْرِيفُ: التَّغْيِيرُ. وَالْمُرَادُ هُنَا تَغْيِيرُ أَحْوَالِ الْمَاءِ، أَيْ مَقَادِيرِهِ وَمَوَاقِعِهِ.
وَتَوْكِيدُ الْجُمْلَةِ بِلَامِ الْقَسَمِ وَ (قَدْ) لِتَحْقِيقِ التَّعْلِيلِ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْمَطَرِ مُحَقَّقٌ لَا
(1) هُوَ من قضاعة، إسلامي مَاتَ قَتِيلا فِي خلَافَة مُعَاوِيَة، قَتله هدبة بن خثرم.
(2)
المملكة: التَّمَلُّك، أَي الْعِزَّة، وَهِي بِفَتْح الْمِيم وَاللَّام، وَالْقصر: الْغَايَة.
يَحْتَاجُ إِلَى التَّأْكِيدِ وَإِنَّمَا الشَّيْءُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عِلْمٌ بِهِ هُوَ أَنَّ مِنْ حِكْمَةِ تَصْرِيفِهِ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ يَذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ مَعَ نُزُولِهِ عَلَيْهِمْ وَفِي حَالَةِ إِمْسَاكِهِ عَنْهُمْ، لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَا يَقْدُرُ قَدْرَ النِّعْمَةِ إِلَّا عِنْدَ فَقْدِهَا فَيَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّبُّ الْوَاحِدُ الْمُخْتَارُ فِي خَلْقِ
الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ وَقَدْ كَانُوا لَا يَتَدَبَّرُونَ حِكْمَةَ الْخَالِقِ وَيُسْنِدُونَ الْآثَارَ إِلَى مُؤَثِّرَاتٍ وَهْمِيَّةٍ أَوْ صُورِيَّةٍ.
وَلَمَّا كَانَ التَّذَكُّرُ شَامِلًا لِشُكْرِ الْمُنْعِمِ عَلَيْهِمْ بِإِصَابَةِ الْمَطَرِ وَلِتَفَطُّنِ الْمَحْرُومِينَ إِلَى سَبَبِ حِرْمَانِهِمْ إِيَّاهُ لَعَلَّهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ، جِيءَ فِي التَّعْلِيلِ بِفِعْلِ لِيَذَّكَّرُوا لِيَكُونَ عِلَّةً لِحَالَتَيِ التَّصْرِيفِ بَيْنَهُمْ.
وَقَوْلُهُ: فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً تَرْكِيبٌ جَرَى بِمَادَّتِهِ وَهَيْئَتِهِ مَجْرَى الْمَثَلِ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ تَصْمِيمِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ عَلَى مَا بَعْدَ حَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي وُجُودَ الصَّارِفِ عَنِ الْمُسْتَثْنَى، أَيْ فَصَمَّمُوا عَلَى الْكُفُورِ لَا يَرْجِعُونَ عَنْهُ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ عُمُومِ أَشْيَاءٍ مُبْهَمَةٍ جُعِلَتْ كُلُّهَا مِمَّا تَعَلَّقَ بِهِ الْإِبَاءُ كَأَنَّ الْآبِينَ قَدْ عُرِضَتْ عَلَيْهِمْ- مِنَ النَّاسِ أَوْ مِنْ خَوَاطِرِهِمْ- أُمُورٌ وَرَاجَعُوا فَلَمْ يَقْبَلُوا مِنْهَا إِلَّا الْكُفُورَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ عَرْضٌ وَلَا إِبَاءٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ:[32] وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ أَلَا تَرَى أَنَّ ذَلِكَ اسْتُعْمِلَ هُنَا فِي مَقَامِ مُعَارَضَةِ الْمُشْرِكِينَ لِلتَّوْحِيدِ وَفِي سُورَةِ بَرَاءَةَ فِي مَقَامِ مُعَارَضَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ لِلْإِسْلَامِ. وَشِدَّةُ الْفَرِيقَيْنِ فِي كُفْرِهِمْ مَعْلُومَةٌ مَكْشُوفَةٌ وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الصّفّ: [8] : يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ.
وَالْكُفُورُ: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْكُفْرِ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ، أَيْ أَبَوْا إِلَّا الْإِشْرَاكَ بِاللَّهِ وَعَدَمَ التَّذَكُّرِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لِيَذَّكَّرُوا بِتَشْدِيدِ الذَّالِ وَتَشْدِيدِ الْكَافِ مُدْغَمَةً فِيهَا التَّاءُ وَأَصْلُهُ لِيَتَذَكَّرُوا. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِسُكُونِ الذَّالِ وَتَخْفِيفِ الْكَافِ مَضْمُومَةً، أَيْ لِيَذْكُرُوا مَا هُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ.
وَيُؤْخَذُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الْمَاءَ الْمُنَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ لَا يَخْتَلِفُ مِقْدَارُهُ وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ مَقَادِيرُ تَوْزِيعِهِ عَلَى مَوَاقِعِ الْقَطْرِ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَا عَامٌ أَقَلُّ مَطَرًا مِنْ عَامٍ وَلَكِنَّ