الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والْحَقُّ: الْخَالِصُ، كَقَوْلِكَ: هَذَا ذَهَبٌ حَقًّا. وَهُوَ الْمُلْكُ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُمَاثِلُهُ مُلْكٌ، لِأَنَّ حَالَةَ الْمُلْكِ فِي الدُّنْيَا مُتَفَاوِتَةٌ. وَالْمُلْكُ الْكَامِلُ إِنَّمَا هُوَ لِلَّهِ، وَلَكِنَّ الْعُقُولَ قَدْ لَا تَلْتَفِتُ إِلَى مَا فِي الْمُلُوكِ مِنْ نَقْصٍ وَعَجْزٍ وَتَبْهَرُهُمْ بَهْرَجَةُ تَصَرُّفَاتِهِمْ وَعَطَايَاهُمْ فَيَنْسَوْنَ الْحَقَائِقَ، فَأَمَّا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَالْحَقَائِقُ مُنْكَشِفَةٌ وَلَيْسَ ثَمَّةَ مِنْ يَدَّعِي شَيْئًا مِنَ التَّصَرُّفِ،
وَفِي الْحَدِيثِ: «ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ: أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ»
. وَوُصِفَ الْيَوْمُ بِعَسِيرٍ بِاعْتِبَارِ مَا فِيهِ مِنْ أُمُورٍ عَسِيرَةٍ عَلَى الْمُشْرِكِينَ.
وَتَقْدِيمُ عَلَى الْكافِرِينَ لِلْحَصْرِ. وَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، أَيْ دون الْمُؤمنِينَ.
[27- 29]
[سُورَة الْفرْقَان (25) : الْآيَات 27 إِلَى 29]
وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يَا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (29)
هَذَا هُوَ ذَلِكَ الْيَوْمُ أُعِيدَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ حَالٍ آخَرَ مِنْ أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ فِيهِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ حَالِ بَعْضِ الْمُشْرِكِينَ الْمَقْصُودِ مِنَ الْآيَةِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الظَّالِمُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلِاسْتِغْرَاقِ. وَالْمُرَادُ بِالظُّلْمِ الشِّرْكُ فَيَعُمُّ جَمِيعَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا بَعْدَ ظُهُورِ الدَّعْوَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا إِعْلَامًا بِمَا لَا تَخْلُو عَنْهُ مِنْ صُحْبَةِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ وَإِغْرَاءِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا عَلَى مُنَاوَاةِ الْإِسْلَامِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْعَهْدِ الْمَخْصُوصِ. وَالْمُرَادُ بِالظُّلْمِ الِاعْتِدَاءُ الْخَاصُّ الْمَعْهُودُ مِنْ
قِصَّةٍ مُعَيَّنَةٍ وَهِيَ قِصَّةُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ وَمَا أَغْرَاهُ بِهِ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ.
قَالَ الْوَاحِدِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَغَيْرِهِ: كَانَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ خَلِيلًا لِأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَكَانَ عُقْبَةُ لَا يَقْدُمُ مِنْ سَفَرٍ إِلَّا صَنَعَ طَعَامًا وَدَعَا إِلَيْهِ أَشْرَافَ قَوْمِهِ، وَكَانَ يُكْثِرُ مُجَالَسَةَ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم، فَقَدِمَ مِنْ بَعْضِ أَسْفَارِهِ فَصَنَعَ طَعَامًا وَدَعَا رَسُولَ اللَّهِ [صلى الله عليه وسلم] فَلَمَّا قَرَّبُوا الطَّعَامَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ [صلى الله عليه وسلم] :
مَا أَنَا بِآكِلٍ مِنْ طَعَامِكَ حَتَّى تَشْهَدَ أَنْ لَا
إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ عُقْبَةُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ مِنْ طَعَامِهِ. وَكَانَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ غَائِبًا فَلَمَّا قَدِمَ أُخْبِرَ بِقَضِيَّتِهِ، فَقَالَ: صَبَأْتَ يَا عُقْبَةُ، قَالَ: وَاللَّهِ مَا صَبَأْتُ وَلَكِنْ دَخَلَ عَلَيَّ رَجُلٌ فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ مِنْ طَعَامِي حَتَّى أَشْهَدَ لَهُ، فَاسْتَحْيَيْتُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ بَيْتِي وَلَمْ يَطْعَمْ، فَشَهِدْتُ لَهُ فَطَعِمَ، فَقَالَ أُبَيٌّ: مَا أَنَا بِالَّذِي أَرْضَى عَنْكَ أَبَدًا إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُ فَتَبْصُقَ فِي وَجْهِهِ، فَكَفَرَ عُقْبَةُ وَأَخَذَ فِي امْتِثَالِ مَا أَمَرَهُ بِهِ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ
، فَيَكُونُ المُرَاد ب (فلَان) الْكِنَايَةَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ فَخُصُوصُهُ يَقْتَضِي لِحَاقَ أَمْثَالِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَطَاعُوا أَخِلَّتَهُمْ فِي الشِّرْكِ وَلَمْ يَتَّبِعُوا سَبِيلَ الرَّسُولِ، وَلَا يَخْلُو أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَنْ خَلِيلٍ مُشْرِكٍ مِثْلِهِ يَصُدُّهُ عَنْ مُتَابَعَةِ الْإِسْلَامِ إِذا همّ بِهِ وَيُثَبِّتُهُ عَلَى دِينِ الشِّرْكِ فَيَتَنَدَّمُ يَوْمَ الْجَزَاءِ عَلَى طَاعَتِهِ وَيُذْكُرُهُ بِاسْمِهِ.
وَالْعَضُّ: الشَّدُّ بِالْأَسْنَانِ عَلَى الشَّيْءِ لِيُؤْلِمَهُ أَوْ لِيُمْسِكَهُ، وَحَقُّهُ التَّعْدِيَةُ بِنَفْسِهِ إِلَّا أَنَّهُ كَثُرَتْ تَعْدِيَتُهُ بِ عَلى لِإِفَادَةِ التَّمَكُّنِ مِنَ الْمَعْضُوضِ إِذَا قَصَدُوا عَضًّا شَدِيدًا كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
وَالْعَضُّ عَلَى الْيَدِ كِنَايَةٌ عَنِ النَّدَامَةِ لِأَنَّهُمْ تَعَارَفُوا فِي بَعْضِ أَغْرَاضِ الْكَلَامِ أَنْ يَصْحَبُوهَا بِحَرَكَاتٍ بِالْجَسَدِ مِثْلِ التَّشَذُّرِ، وَهُوَ رفع الْيَد عِنْد كَلَامِ الْغَضَبِ قَالَ، لَبِيدٌ:
غُلْبٌ تَشَذَّرُ بِالدَّخُولِ كَأَنَّهُمْ
…
جِنُّ الْبَدِيِّ رَوَاسِيًا أَقْدَامُهَا
وَمِثْلِ وَضْعِ الْيَدِ عَلَى الْفَمِ عِنْدَ التَّعَجُّبِ. قَالَ تَعَالَى: فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ [إِبْرَاهِيم: 9] . وَمِنْهُ فِي النَّدَمِ قَرْعُ السِّنِّ بِالْأُصْبُعِ، وَعَضُّ السَّبَّابَةِ، وَعَضُّ الْيَدِ. وَيُقَالُ: حَرَّقَ أَسْنَانَهُ وَحَرَّقَ الْأُرَّمَ (بِوَزْنِ رُكَّعٍ) الْأَضْرَاسَ أَوْ أَطْرَافَ الْأَصَابِعِ، وَفِي الْغَيْظِ عَضُّ الْأَنَامِلِ قَالَ تَعَالَى: عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [119] ، وَكَانَتْ كِنَايَاتٍ بِنَاءً عَلَى مَا يُلَازِمُهَا فِي الْعُرْفِ مِنْ مَعَانٍ نَفْسِيَّةٍ، وَأَصْلُ نَشْأَتِهَا عَنْ تَهَيُّجِ الْقُوَّةِ الْعَصَبِيَّةِ مِنْ جَرَّاءِ غَضَبٍ أَوْ تَلَهُّفٍ.
وَالرَّسُولُ: هُوَ الْمَعْهُودُ وَهُوَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم.
وَاتِّخَاذُ السَّبِيلِ: أَخْذُهُ، وَأَصْلُ الْأَخْذِ: التَّنَاوُلُ بِالْيَدِ، فَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى قَصْدِ السَّيْرِ فِيهِ قَالَ تَعَالَى: وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ [الْكَهْف: 63] .
ومَعَ الرَّسُولِ أَيْ مُتَابِعًا لِلرَّسُولِ كَمَا يُتَابِعُ الْمُسَافِرُ دَلِيلًا يَسْلُكُ بِهِ أَحْسَنَ الطُّرُقِ وَأَفْضَاهَا إِلَى الْمَكَانِ الْمَقْصُودِ. وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِفِعْلِ الِاتِّبَاعِ وَنَحْوِهِ بِأَنْ يُقَالَ: يَا لَيْتَنِي اتَّبَعْتُ الرَّسُولَ، إِلَى هَذَا التَّرْكِيبِ الْمُطْنَبِ لِأَنَّ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ تَمْثِيلَ هَيْئَةِ الِاقْتِدَاءِ بِهَيْئَةِ مُسَايِرَةِ الدَّلِيلِ تَمْثِيلًا مُحْتَوِيًا عَلَى تَشْبِيهِ دَعْوَةِ الرَّسُولِ بِالسَّبِيلِ، وَمُتَضَمِّنًا تَشْبِيهَ مَا يَحْصُلُ عَنْ سُلُوكِ ذَلِكَ السَّبِيلِ مِنَ النَّجَاةِ بِبُلُوغِ السَّائِرِ إِلَى الْمَوْضِعِ الْمَقْصُودِ، فَكَانَ حُصُولُ هَذِهِ الْمَعَانِي صَائِرًا بِالْإِطْنَابِ إِلَى إِيجَازٍ، وَأَمَّا لَفْظُ الْمُتَابَعَةِ فَقَدْ شَاعَ إِطْلَاقُهُ عَلَى الِاقْتِدَاءِ فَهُوَ غَيْرُ مُشْعِرٍ بِهَذَا التَّمْثِيلِ. وَعَلِمَ أَنَّ هَذَا السَّبِيلَ سَبِيلُ نَجَاحِ مَنْ تَمَنَّاهُ لِأَنَّ التَّمَنِّيَ طلب الْأَمر المحبوب الْعَزِيزِ الْمَنَالِ.
وَيَا لَيْتَنِي نِدَاءٌ لِلْكَلَامِ الدَّالِّ عَلَى التَّمَنِّي بِتَنْزِيلِ الْكَلِمَةِ مَنْزِلَةَ الْعَاقِلِ الَّذِي يُطْلَبُ حُضُورُهُ لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إِلَيْهِ فِي حَالَةِ النَّدَامَةِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: هَذَا مَقَامُكِ فَاحْضُرِي، عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ: يَا حَسْرَتَنا عَلى مَا فَرَّطْنا فِيها فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [31] . وَهَذَا النِّدَاءُ يَزِيدُ الْمُتَمَنِّيَ اسْتِبْعَادًا لِلْحُصُولِ.
وَكَذَلِكَ قَوْله: يَا وَيْلَتى هُوَ تَحَسُّرٌ بِطْرِيقِ نِدَاءِ الْوَيْلِ. وَالْوَيْلُ: سُوءُ الْحَالِ، وَالْأَلِفُ عِوَضٌ عَنْ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، وَهُوَ تَعْوِيضٌ مَشْهُورٌ فِي نِدَاءِ الْمُضَافِ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْوَيْلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [79] . وَعَلَى يَا وَيْلَتَنا فِي قَوْلِهِ: يَا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [49] .
وَأَتْبَعَ التَّحَسُّرَ بِتَمَنِّي أَنْ لَا يَكُونَ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا.
وَجُمْلَةُ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا بَدَلٌ مِنْ جُمْلَةِ لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا بَدَلَ اشْتِمَالٍ لِأَنَّ اتِّبَاعَ سَبِيلِ الرَّسُولِ يَشْتَمِلُ عَلَى نَبْذِ خُلَّةِ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِهِ فَتَمَنِّي وُقُوعِ أَوَّلِهِمَا يَشْتَمِلُ عَلَى تَمَنِّي وُقُوعِ الثَّانِي.
وَجُمْلَةُ (يَا وَيْلَتَا) مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا وَجُمْلَةِ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا.
وَ (فُلَانٌ) : اسْمٌ يُكَنِّي عَمَّنْ لَا يُذْكَرُ اسْمُهُ الْعَلَمُ، كَمَا يُكَنَّى بِ (فُلَانَةٍ) عَمَّنْ لَا يُرَادُ
ذِكْرُ اسْمِهَا الْعَلَمِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي الْحِكَايَةِ أَمْ فِي غَيْرِهَا. قَالَهُ ابْنُ السِّكِّيتِ وَابْنُ مَالِكٍ خِلَافًا لِابْنِ السَّرَّاجِ وَابْنِ الْحَاجِبِ فِي اشْتِرَاطِ وُقُوعِهِ فِي حِكَايَةٍ بِالْقَوْلِ، فَيُعَامَلُ (فُلَانٌ) مُعَامَلَةَ الْعَلَمِ الْمَقْرُونِ بِالنُّونِ الزَّائِدَةِ و (فُلَانَةٌ) مُعَامَلَةَ الْعَلَمِ الْمُقْتَرِنِ بِهَاءِ التَّأْنِيثِ، وَقَدْ جَمَعَهُمَا قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَلَا قَاتَلَ اللَّهُ الْوُشَاةَ وَقَوْلَهُمْ
…
فُلَانَةُ أَضْحَتْ خُلَّةً لِفُلَانِ
أَرَادَ نَفْسَهُ وَحَبِيبَتَهُ.
وَقَالَ الْمَرَّارُ الْعَبْسِيُّ:
وَإِذَا فُلَانٌ مَاتَ عَنْ أُكْرُومَةٍ
…
دَفَعُوا مَعَاوِزَ فَقْدِهِ بِفُلَانِ
أَرَادَ: إِذَا مَاتَ مَنْ لَهُ اسْمٌ مِنْهُمْ أَخْلَفُوهُ بِغَيْرِهِ فِي السُّؤْدُدِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَعْنِ بْنِ أَوْسٍ:
وَحَتَّى سَأَلْتُ الْقَرْضَ مِنْ كُلِّ ذِي
…
الْغِنَى وَرَدَّ فُلَانٌ حَاجَتِي وَفُلَانُ
وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ فِي «نَوَادِرِهِ» : أَنْشَدَنِي الْمُفَضِّلُ لِرَجُلٍ مِنْ ضَبَّةَ هَلَكَ مُنْذُ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ سَنَةٍ، أَيْ فِي أَوَاسِطِ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ لِلْهِجْرَةِ:
إِنَّ لَسَعِدٍ عِنْدَنَا دِيوَانَا
…
يُخْزِي فَلَانًا وَابْنَهُ فُلَانَا
وَالدَّاعِي إِلَى الْكِنَايَةِ بِفُلَانٍ إِمَّا قَصْدُ إِخْفَاءِ اسْمِهِ خِيفَةً عَلَيْهِ أَوْ خِيفَةً مِنْ أَهْلِهِمْ أَوْ لِلْجَهْلِ بِهِ، أَوْ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ لِذِكْرِهِ، أَوْ لِقَصْدِ نَوْعِ مَنْ لَهُ اسْمٌ عَلَمٌ. وَهَذَانِ الْأَخِيرَانِ هُمَا اللَّذَانِ يَجْرِيَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِنْ حُمِلَتْ عَلَى إِرَادَةِ خُصُوصِ عُقْبَةَ وَأُبَيٍّ أَوْ حُمِلَتْ عَلَى إِرَادَةِ كُلِّ مُشْرِكٍ لَهُ خَلِيلٌ صَدَّهُ عَنِ اتِّبَاعِ الْإِسْلَامِ.
وَإِنَّمَا تَمَنَّى أَنْ لَا يَكُونَ اتَّخَذَهُ خَلِيلًا دُونَ تَمَنِّي أَنْ يَكُونَ عَصَاهُ فِيمَا سَوَّلَ لَهُ قَصْدًا لِلِاشْمِئْزَازِ مَنْ خُلَّتِهِ مِنْ أَصِلِهَا إِذْ كَانَ الْإِضْلَالُ مِنْ أَحْوَالِهَا.
وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ شَأْنَ الْخُلَّةِ الثِّقَةُ بِالْخَلِيلِ وَحَمْلُ مَشُورَتِهِ عَلَى النُّصْحِ فَلَا يَنْبَغِي
أَنْ يَضَعَ الْمَرْءُ خُلَّتَهُ إِلَّا حَيْثُ يُوقِنُ بِالسَّلَامَةِ مِنْ إِشَارَاتِ السُّوءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا [آل عمرَان: 118] فَعَلَى مَنْ يُرِيدُ اصْطِفَاءَ خَلِيلٍ أَنْ يَسِيرَ سِيرَتَهُ فِي خُوَيِّصَّتِهِ فَإِنَّهُ سَيَحْمِلُ مَنْ يَخَالُّهِ عَلَى مَا يَسِيرُ بِهِ لِنَفْسِهِ، وَقَدْ قَالَ خَالِدُ بْنُ زُهَيْرٍ وَهُوَ ابْنُ أُخْتِ أَبِي ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيِّ:
فَأَوَّلُ رَاضٍ سُنَّةً مَنْ يَسِيرُهَا وَهَذَا عِنْدِي هُوَ مَحْمِلُ
قَوْلِ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا غير ربّي لَا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا»
فَإِنَّ مَقَامَ النُّبُوءَةِ يَسْتَدْعِي مِنَ الْأَخْلَاقِ مَا هُوَ فَوْقَ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ الْمُتَعَارَفَةِ فِي النَّاسِ فَلَا يَلِيقُ بِهِ إِلَّا مُتَابَعَةُ مَا لِلَّهِ مِنَ الْكَمَالَاتِ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ وَلِهَذَا قَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ. وَعَلِمْنَا بِهَذَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَفْضَلُ الْأُمَّةِ مَكَارِمَ أَخْلَاقٍ بَعْدَ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّ النَّبِيءَ جَعَلَهُ الْمُخَيَّرَ لِخُلَّتِهِ لَوْ كَانَ مُتَّخِذًا خَلِيلًا غَيْرَ اللَّهِ.
وَجُمْلَةُ لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي تَعْلِيلِيَّةٌ لِتَمَنِّيهِ أَنْ لَا يَكُونَ اتَّخَذَ فُلَانًا خَلِيلًا بِأَنَّهُ قَدْ صَدَرَ عَنْ خُلَّتِهِ أَعْظَمُ خُسْرَانٍ لِخَلِيلِهِ إِذْ أَضَلَّهُ عَنِ الْحَقِّ بَعْدَ أَنْ كَادَ يَتَمَكَّنُ مِنْهُ.
وَقَوْلُهُ: أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ مَعْنَاهُ سَوَّلَ لِيَ الِانْصِرَافَ عَنِ الْحَقِّ. وَالضَّلَالُ: إِضَاعَةُ الطَّرِيقِ وَخَطَؤُهُ بِحَيْثُ يَسْلُكُ طَرِيقًا غَيْرَ الْمَقْصُودِ فَيَقَعُ فِي غَيْرِ الْمَكَانِ الَّذِي أَرَادَهُ، وَإِنَّمَا وَقَعَ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ أَوْ فِي مَسْبَعَةٍ. وَيُسْتَعَارُ الضَّلَالُ لِلْحِيَادِ عَنِ الْحَقِّ وَالرُّشْدِ إِلَى الْبَاطِلِ وَالسَّفَهِ كَمَا يُسْتَعَارُ ضِدُهُ وَهُوَ الْهُدَى (الَّذِي هُوَ إِصَابَةُ الطَّرِيقِ) لِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ حَتَّى تَسَاوَى الْمَعْنَيَانِ الْحَقِيقِيَّانِ وَالْمَعْنَيَانِ الْمَجَازِيَّانِ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَلِذَلِكَ سَمَّوُا الدَّلِيلَ الَّذِي يَسْلُكُ بِالرَّكْبِ الطَّرِيقَ الْمَقْصُودَ هَادِيًا.
وَالْإِضْلَالُ مُسْتَعَارٌ هُنَا لِلصَّرْفِ عَنِ الْحَقِّ لِمُنَاسَبَةِ اسْتِعَارَةِ السَّبِيلِ لِهَدْيِ الرَّسُولِ وَلَيْسَ مُسْتَعْمَلًا هُنَا فِي الْمَعْنَى الَّذِي غَلَبَ عَلَى الْبَاطِلِ بِقَرِينَةِ تَعْدِيَتِهِ بِحَرْفِ عَنِ فِي قَوْلِهِ: عَنِ الذِّكْرِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ الْإِضْلَالُ هُوَ تَسْوِيلَ الضَّلَالِ لَمَا احْتَاجَ إِلَى تَعْدِيَتِهِ وَلَكِنْ أُرِيدَ هُنَا مُتَابَعَةُ التَّمْثِيلِ السَّابِقِ. فَفِي قَوْلِهِ: أَضَلَّنِي مَكْنِيَّةٌ تَقْتَضِي تَشْبِيهَ الذِّكْرِ بِالسَّبِيلِ الْمُوَصِّلِ إِلَى الْمَنْجَى، وَإِثْبَاتُ الْإِضْلَالِ عَنْهُ تَخْيِيلٌ كَإِثْبَاتِ الْأَظْفَارِ لِلْمَنِيَّةِ، فَهَذِهِ نُكَتٌ مِنْ بَلَاغَةِ نَظْمِ الْآيَةِ.
والذِّكْرِ: هُوَ الْقُرْآنُ، أَيْ نَهَانِي عَنِ التَّدَبُّرِ فِيهِ وَالِاسْتِمَاعِ لَهُ بَعْدَ أَنْ قَارَبْتُ فَهْمَهُ.
وَالْمَجِيءُ فِي قَوْلِهِ: إِذْ جاءَنِي مُسْتَعْمَلٌ فِي إِسْمَاعِهِ الْقُرْآنَ فَكَأَنَّ الْقُرْآنَ جَاءٍ حَلَّ عِنْدَهُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: أَتَانِي نَبَأُ كَذَا، قَالَ النَّابِغَةُ:
أَتَانِي- أَبَيْتَ اللَّعْنَ- أَنَّكَ لُمْتَنِي فَإِذَا حُمِلَ الظَّالِمُ فِي قَوْلِهِ: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ عَلَى مُعَيَّنٍ وَهُوَ عُقْبَةُ بْنُ
أَبِي مُعَيْطٍ فَمَعْنَى مَجِيءِ الذِّكْرِ إِيَّاهُ أَنَّهُ كَانَ يَجْلِسُ إِلَى النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم وَيَأْنَسُ إِلَيْهِ حَتَّى صَرَفَهُ عَنْ ذَلِكَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ وَحَمَلَهُ عَلَى عَدَاوَتِهِ وَأَذَاتِهِ، وَإِذَا حُمِلَ الظَّالِمُ عَلَى الْعُمُومِ فَمَجِيءُ الذِّكْرِ هُوَ شُيُوعُ الْقُرْآنِ بَيْنَهُمْ، وَإِمْكَانُ اسْتِمَاعِهِمْ إِيَّاهُ. وَإِضْلَالُ خِلَّانِهِمْ إِيَّاهُمْ صَرْفُ كُلِّ وَاحِدٍ خَلِيلَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَتَعَاوُنُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِي ذَلِكَ.
وَقِيلَ: الذِّكْرِ: كَلِمَةُ الشَّهَادَةِ، بِنَاءً عَلَى تَخْصِيصِ الظَّالِمِ بِعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَتَأْتِي فِي ذَلِكَ الْوُجُوهُ الْمُتَقَدِّمَةُ، فَإِنَّ كَلِمَةَ الشَّهَادَةِ لَمَّا كَانَتْ سَبَبَ النَّجَاةِ مُثِّلَتْ بِسَبِيلِ الرَّسُولِ الْهَادِي، وَمُثِّلَ الصَّرْفُ عَنْهَا بِالْإِضْلَالِ عَنِ السَّبِيلِ.
وإِذْ ظَرْفٌ لِلزَّمَنِ الْمَاضِي، أَيْ بَعْدَ وَقْتٍ جَاءَنِي فِيهِ الذِّكْرُ، وَالْإِتْيَانُ بِالظَّرْفِ هُنَا دُونَ أَنْ يُقَالَ: بَعْدَ مَا جَاءَنِي، أَوْ بَعْدَ أَنْ جَاءَنِي، لِلْإِشَارَةِ إِلَى شِدَّةِ التَّمَكُّنِ مِنَ الذِّكْرِ لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَقَرَّ فِي زَمَنٍ وَتَحَقَّقَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ [التَّوْبَة: 115] أَيْ تَمَكَّنَ هَدْيُهُ مِنْهُمْ.
وَجُمْلَةُ وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا تَذْيِيلٌ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لَا مِنْ كَلَامِ الظَّالِمِ تَنْبِيهًا لِلنَّاسِ عَلَى أَنَّ كُلَّ هَذَا الْإِضْلَالِ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَهُوَ الَّذِي يُسَوِّلُ لِخَلِيلِ الظَّالِمِ إِضْلَالَ خَلِيلِهِ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ خَذُولُ الْإِنْسَانِ، أَيْ مَجْبُولٌ عَلَى شِدَّةِ خَذْلِهِ.
وَالْخَذْلُ: تَرْكُ نَصْرِ الْمُسْتَنْجِدِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى نَصْرِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [160] .
فَإِذَا أَعَانَ عَلَى الْهَزِيمَةِ فَهُوَ أَشَدُّ الْخَذْلِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ صِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي