الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذِكْرِهِ أَنَّ نُزُولَ هَذِهِ السُّورَةِ كَانَ فِي وَقْتٍ تَآمَرَ فِيهِ الْمُشْرِكُونَ عَلَى الْإِيقَاعِ بِالنَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ التَّآمُرُ
الَّذِي حَكَاهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [الْأَنْفَال: 30] فَضَرَبَ اللَّهُ لَهُمْ مَثَلًا بِتَآمُرِ الرَّهْطِ مِنْ قَوْمِ صَالِحٍ عَلَيْهِ وَمَكْرِهِمْ وَكَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ، وَلِذَلِكَ تَرَى بَيْنَ الْآيَتَيْنِ تُشَابُهًا وَتَرَى تَكْرِيرَ ذِكْرِ مَكْرِهِمْ وَمَكْرِ اللَّهِ بِهِمْ، وَذِكْرِ أَنَّ فِي قِصَّتِهِمْ آيَةً لقوم يعلمُونَ.
[50- 53]
[سُورَة النَّمْل (27) : الْآيَات 50 إِلَى 53]
وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (53)
سَمَّى اللَّهُ تَآمُرَهُمْ مَكْرًا لِأَنَّهُ كَانَ تَدْبِيرَ ضُرٍّ فِي خَفَاءٍ. وَأَكَّدَ مَكْرَهُمْ بِالْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى قُوَّتِهِ فِي جِنْسِ الْمَكْرِ، وَتَنْوِينِهِ لِلتَّعْظِيمِ.
وَالْمَكْرُ الَّذِي أُسْنِدَ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ مَكْرٌ مَجَازِيٌّ. اسْتُعِيرَ لَفْظُ الْمَكْرِ لِمُبَادَرَةِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِاسْتِئْصَالِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ تَبْيِيتِ صَالِحٍ وَأَهْلِهِ، وتأخيره استئصالهم إِلَى الْوَقْتُ الَّذِي تَآمَرُوا فِيهِ عَلَى قَتْلِ صَالِحٍ لِشَبَهِ فِعْلِ اللَّهِ ذَلِكَ بِفِعْلِ الْمَاكِرِ فِي تَأْجِيلِ فِعْلٍ إِلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ، مَعَ عَدَمِ إِشْعَارِ مَنْ يُفْعَلُ بِهِ.
وَأُكِّدَ مَكْرُ اللَّهِ وَعُظِّمَ كَمَا أُكِّدَ مَكْرُهُمْ وَعُظِّمَ، وَذَلِكَ بِمَا يُنَاسِبُ جِنْسَهُ، فَإِنَّ عَذَابَ اللَّهِ لَا يُدَانِيهِ عَذَابُ النَّاسِ فَعَظِيمُهُ أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ مَا يُقَدِّرُهُ النَّاسُ.
وَالْمُرَادُ بِالْمَكْرِ الْمُسْنَدِ إِلَى الْجَلَالَةِ هُوَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ جُمْلَةُ: أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ الْآيَةَ.
وَفِي قَوْلِهِ: وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ تَأْكِيدٌ لِاسْتِعَارَةِ الْمَكْرِ لِتَقْدِيرِ الِاسْتِئْصَالِ فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَرْشِيحٌ لِلِاسْتِعَارَةِ وَلَا تَجْرِيدٌ.
وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: فَانْظُرْ لِلنَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم. وَاقْتِرَانُهُ بِفَاءِ التَّفْرِيعِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ
الِاعْتِبَارَ بِمَكْرِ اللَّهِ بِهِمْ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ سَوْقِ الْقِصَّةِ تَعْرِيضًا بِأَنَّ عَاقِبَةَ أَمْرِهِ مَعَ قُرَيْشٍ أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ كَيْدَهُمْ وَيَنْصُرَهُ عَلَيْهِمْ، وَفِي ذَلِكَ تَسْلِيَةٌ لَهُ عَلَى مَا يُلَاقِيهِ مِنْ قَوْمِهِ.
وَالنَّظَرُ: نَظَرٌ قَلْبِيٌّ، وَقد علق عَن الْمَفْعُولَيْنِ بِالِاسْتِفْهَامِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَنَّا دَمَّرْناهُمْ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِمَا
يُثِيرُهُ الِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ مِنْ سُؤَالٍ عَنْ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ. وَالتَّأْكِيدُ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ وَخَلَفٌ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ فَيَكُونُ الْمَصْدَرُ بَدَلًا مِنْ عاقِبَةُ. وَالتَّأْكِيدُ أَيْضًا لِلِاهْتِمَامِ.
وَضَمِيرُ الْغَيْبَةِ فِي دَمَّرْناهُمْ لِلرَّهْطِ. وَعُطِفَ قَوْمَهُمْ عَلَيْهِمْ لِمُوَافَقَةِ الْجَزَاءِ لِلْمَجْزِيِّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُمْ مَكَرُوا بِصَالِحٍ وَأَهْلِهِ فَدَمَّرَهُمُ اللَّهُ وَقَوْمَهُمْ.
وَالتَّدْمِيرُ: الْإِهْلَاكُ الشَّدِيدُ، وَتَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ مِنْهَا فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ.
وَالْقِصَّةُ تَقَدَّمَتْ. وَتَقَدَّمَ إِنْجَاءُ صَالِحٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ وَمَنْ مَعَهُ إِلَى أَرْضِ فِلَسْطِينَ حِينَ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِتَمَتُّعٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ.
وَتَفْرِيعُ قَوْلِهِ: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً عَلَى جُمْلَةِ: دَمَّرْناهُمْ لِتَفْرِيعِ الْإِخْبَارِ.
وَالْإِشَارَةُ مُنْصَرِفَةٌ إِلَى مَعْلُومٍ غَيْرِ مُشَاهَدٍ لِأَنَّ تَحَقُّقَهُ يَقُومُ مَقَامَ حُضُورِهِ فَإِنَّ دِيَارَ ثَمُودَ مَعْلُومَةٌ لِجَمِيعِ قُرَيْشٍ وَهِيَ فِي طَرِيقِهِمْ فِي مَمَرِّهِمْ إِلَى الشَّامِ.
وَانْتَصَبَ خاوِيَةً عَلَى الْحَالِ. وَعَامِلُهَا مَا فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهذا بَعْلِي شَيْخاً وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ هُودٍ [72] .
وَالْخَاوِيَةُ: الْخَالِيَةُ، وَمَصْدَرُهُ الْخَوَاءُ، أَيْ فَالْبُيُوتُ بَاقٍ بَعْضُهَا فِي الْجِبَالِ لَا سَاكِنَ بِهَا.
وَالْبَاءُ فِي بِما ظَلَمُوا لِلسَّبَبِيَّةِ، وَ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ كَانَ خَوَاؤُهَا بِسَبَبِ ظُلْمِهِمْ.
وَالظُّلْمُ: الشِّرْكُ وَتَكْذِيبُ رَسُولِهِمْ، فَذَلِكَ ظُلْمٌ فِي جَانِبِ اللَّهِ لِأَنَّهُ اعْتِدَاءٌ عَلَى حَقِّ وَحْدَانِيَّتِهِ، وَظُلْمٌ لِلرَّسُولِ بِتَكْذِيبِهِ وَهُوَ الصَّادِقُ.
وَلَمَّا خَصَّ اللَّهُ عَمَلَهُمْ بِوَصْفِ الظُّلْمِ مِنْ بَيْنِ عِدَّةِ أَحْوَالٍ يَشْتَمِلُ عَلَيْهَا كُفْرُهُمْ
كَالْفَسَادِ كَانَ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ لِلظُّلْمِ أَثَرًا فِي خَرَابِ بِلَادِهِمْ. وَهَذَا مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: أَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَنَّ الظُّلْمَ يُخَرِّبُ الْبُيُوتَ وَتَلَا: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا. وَهَذَا مِنْ أُسْلُوبِ أَخْذِ كُلِّ مَا يُحْتَمَلُ مِنْ مَعَانِي الْكَلَامِ فِي الْقُرْآنِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ التَّاسِعَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ.
وَنَزِيدُهُ هُنَا مَا لَمْ يَسْبِقْ لَنَا فِي نَظَائِرِهِ، وَهُوَ أَنَّ الْحَقَائِقَ الْعَقْلِيَّةَ لَمَّا كَانَ قِوَامَ مَاهِيَّاتِهَا حَاصِلًا فِي الْوُجُودِ الذِّهْنِيِّ كَانَ بَيْنَ كَثِيرٍ مِنْهَا انْتِسَابٌ وَتَقَارُبٌ يُرَدُّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ
بِاخْتِلَافِ الِاعْتِبَارِ. فَالشِّرْكُ مَثَلًا حَقِيقَةٌ مَعْرُوفَةٌ يَكُونُ بِهَا جِنْسًا عَقْلِيًّا وَهُوَ بِالنَّظَرِ إِلَى مَا يَبْعَثُ عَلَيْهِ وَمَا يَنْشَأُ عَنْهُ يَنْتَسِبُ إِلَى حَقَائِقَ أُخْرَى مِثْلُ الظُّلْمِ، أَيْ الِاعْتِدَاءُ عَلَى النَّاسِ بِأَخْذِ حُقُوقِهِمْ فَإِنَّهُ مِنْ أَسْبَابِهِ، وَمِثْلُ الْفِسْقِ فَإِنَّهُ مِنْ آثَارِهِ، وَكَذَلِكَ التَّكْذِيبُ فَإِنَّهُ مِنْ آثَارِهِ أَيْضًا: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ [المزمل: 11]، وَمِثْلُ الْكِبْرِ وَمِثْلُ الْإِسْرَافِ فَإِنَّهُمَا مِنْ آثَارِهِ أَيْضًا: فَمِنْ أَسَالِيبِ الْقُرْآنِ أَنْ يُعَبِّرَ عَنِ الشِّرْكِ بِأَلْفَاظِ هَذِهِ الْحَقَائِقِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ جَامِعٌ عِدَّةَ فَظَائِعَ، وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى انْتِسَابِهِ إِلَى هَذِهِ الْأَجْنَاسِ، وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنُونَ فَسَادَ هَذِهِ الْحَقَائِقِ مِنْ حَيْثُ هِيَ فَيُعَبِّرُ عَنْهُ هُنَا بِالظُّلْمِ وَهُوَ كَثِيرٌ لِيَعْلَمَ السَّامِعُ أَنَّ جِنْسَ الظُّلْمِ قَبِيحٌ مَذْمُومٌ، نَاهِيكَ أَنَّ الشِّرْكَ مِنْ أَنْوَاعِهِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ [غَافِر: 28] أَيْ هُوَ مُتَأَصِّلٌ فِي الشِّرْكِ وَإِلَّا فَإِنَّ اللَّهَ هَدَى كَثِيرًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ وَالْكَاذِبِينَ بِالتَّوْبَةِ، وَمِنْ قَوْلِهِ: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر: 60] وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَجُمْلَةُ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمَلِ الْمُتَعَاطِفَةِ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنْ عَاقِبَةِ مَكْرِهِمْ. وَالْآيَةُ: الدَّلِيلُ عَلَى انْتِصَارِ اللَّهِ لِرُسُلِهِ.
وَاللَّامُ فِي لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ لَامُ التَّعْلِيلِ يَعْنِي آيَةً لِأَجْلِهِمْ، أَيْ لِأَجْلِ إِيمَانِهِمْ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ سَبَقَتْ إِلَيْهِمْ هَذِهِ الْمَوْعِظَةُ إِنْ لَمْ يَتَّعِظُوا بِهَا فَهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ.
وَفِي ذِكْرِ كَلِمَةِ (قَوْمٍ) إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ مَنْ يَعْتَبِرُ بِهَذِهِ الْآيَةِ مُتَمَكِّنٌ فِي الْعَقْلِ حَتَّى كَانَ الْعَقْلُ مِنْ صِفَتِهِ الْقَوْمِيَّةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ