الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عُسْرٌ. وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الظَّنُّ كَمَا فِي قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشُّعَرَاء: 82] ، فَهَذَا الْإِطْلَاقُ تَأَدُّبٌ مَعَ اللَّهِ لِأَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ. وَعَلَّلُوا ذَلِكَ الطَّمَعَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ بِتَصْدِيقِ مُوسَى عليه السلام، وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى رُسُوخِ إِيمَانِهِمْ بِاللَّه ووعده.
[52]
[سُورَة الشُّعَرَاء (26) : آيَة 52]
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52)
هَذِهِ قَصَّةٌ أُخْرَى مِنْ أَحْوَالِ مُوسَى فِي دَعْوَةِ فِرْعَوْنَ، فَالْوَاوُ لِعَطْفِ الْقِصَّةِ وَلَا تُفِيدُ قُرْبَ الْقِصَّةِ مِنَ الْقِصَّةِ، فَقَدْ لَبِثَ مُوسَى زَمَنًا يُطَالِبُ فِرْعَوْنَ بِإِطْلَاقِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِيَخْرُجُوا مِنْ مِصْرَ، وَفِرْعَوْنُ يُمَاطِلُ فِي ذَلِكَ حَتَّى رَأَى الْآيَاتِ التِّسْعَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وَنَظِيرُ بَعْضِ هَذِهِ الْآيَةِ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ طه. وَزَادَتْ هَذِهِ بِقَوْلِهِ: إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ، أَيْ أَعْلَمَ اللَّهُ مُوسَى أَنَّ فِرْعَوْنَ سَيَتْبَعُهُمْ بِجُنْدِهِ كَمَا فِي آيَةِ سُورَةِ طَه. وَالْقَصْدُ مِنْ إِعْلَامِهِ بِذَلِكَ تَشْجِيعُهُ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ أَسْرِ بِهَمْزَةِ وَصْلٍ فِعْلَ أَمْرٍ مِنْ (سَرَى) وَبِكَسْرِ نُونِ
أَنْ. لِأَجْلِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِهَمْزَةِ قَطْعٍ وَسُكُونِ نُونِ (أَنْ) وَفِعْلَا سَرَى وَأَسْرَى مُتَّحِدَانِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى [الْإِسْرَاء: 1] .
[53- 56]
[سُورَة الشُّعَرَاء (26) : الْآيَات 53 إِلَى 56]
فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (53) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (56)
ظَاهِرُ تَرْتِيبِ الْجُمَلِ يَقْتَضِي أَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ عَلَى جُمْلَةِ: وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى [الشُّعَرَاء: 52] وَأَنَّ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ: فَأَسْرَى مُوسَى وَخَرَجَ بِهِمْ فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ حَاشِرِينَ، أَيْ لَمَّا خَرَجَ بَنُو إِسْرَائِيلَ خَشِيَ فِرْعَوْنُ أَنْ يَنْتَشِرُوا فِي مَدَائِنِ مِصْرَ فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ شُرَطًا يَحْشُرُونَ النَّاسَ لِيَلْحَقُوا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَيَرُدُّوهُمْ إِلَى الْمَدِينَةِ قَاعِدَةِ الْمُلْكِ.
والْمَدائِنِ: جَمْعُ مَدِينَةٍ، أَيِ الْبَلَدُ الْعَظِيمُ. وَمَدَائِنُ الْقُطْرِ الْمِصْرِيِّ يَوْمَئِذٍ كَثِيرَةٌ.
مِنْهَا (مَانُوفِرَى أَوْ مَنْفِيسُ) هِيَ الْيَوْمَ مَيِتْ رَهِينَةٍ بِالْجِيزَةِ وَ (تِيبَةُ أَوْ طِيبَةُ) هِيَ
بِالْأُقْصُرِ وَ (أَبُودُو) وَتُسَمَّى الْيَوْمَ الْعَرَابَةَ الْمَدْفُونَةَ، وَ (أَبُو) وَهِيَ (بُو) وَهِيَ إِدْنُو، وَ (أَوْنُ رَمِيسَي) ، وَ (أَرْمِنْتُ) وَ (سَنَى) وَهِيَ أَسَنَاءُ وَ (سَاوَرَتْ) وَهِيَ السِّيُوطُ، وَ (خَمُونُو) وَهِيَ الْأَشْمُونِيِّينَ، وَ (بَامَازِيتُ) وَهِيَ الْبَهْنَسَا، وَ (خِسْوُو) وَهِيَ سَخَا، وَ (كَارِيَينَا) وَهِيَ سَدُّ أَبِي قَيْرَةَ، وَ (سُودُو) وَهِيَ الْفَيُّومُ، وَ (كُويتي) وَهِيَ قِفْطُ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمَدائِنِ لِلِاسْتِغْرَاقِ، أَيْ فِي مَدَائِنِ الْقُطْرِ الْمِصْرِيِّ، وَهُوَ اسْتِغْرَاقٌ عُرْفِيٌّ، أَيِ الْمَدَائِنُ الَّتِي لِحُكْمِ فِرْعَوْنَ أَوِ الْمَظْنُونُ وُقُوعُهَا قُرْبَ طَرِيقِهِمْ. وَكَانَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ لَا يَعْلَمُونَ أَيْنَ اتَّجَهَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فَأَرَادَ أَنْ يَتَعَرَّضَ لَهُمْ فِي كُلِّ طَرِيقٍ يَظُنُّ مُرُورَهُمْ بِهِ. وَكَانَ لَا يَدْرِي لَعَلَّهُمْ تَوَجَّهُوا صَوْبَ الشَّامِ، أَوْ صَوْبَ الصَّحْرَاءِ الْغَرْبِيَّةِ، وَمَا كَانَ يَظُنُّ أَنهم يقصدون شاطىء الْبَحْرِ الْأَحْمَرِ بَحْرِ «الْقُلْزُمِ» وَكَانَ يَوْمَئِذٍ يُسَمَّى بَحْرَ «سُوفَ» .
وَجُمْلَةُ إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ مَقُولٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ لِأَنَّ حاشِرِينَ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى النِّدَاءِ، أَيْ يَقُولُونَ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ.
وَالْإِشَارَةُ بِ هؤُلاءِ إِلَى حَاضِرٍ فِي أَذْهَانِ النَّاسِ لِأَنَّ أَمْرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ شَاعَ فِي أَقْطَارِ مِصْرَ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ الَّتِي بَيْنَ جَمْعِ السَّحَرَةِ وَبَيْنَ خُرُوجِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَيْسَتِ الْإِشَارَةُ لِلسَّحَرَةِ خَاصَّةً إِذْ لَا يَلْتَئِمُ ذَلِكَ مَعَ الْقِصَّةِ.
وَفِي اسْمِ الْإِشَارَةِ إِيمَاءٌ إِلَى تَحْقِيرٍ لِشَأْنِهِمْ أَكَّدَهُ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُمْ شِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ.
وَالشِّرْذِمَةُ: الطَّائِفَةُ الْقَلِيلَةُ مِنَ النَّاسِ، هَكَذَا فَسَّرَهُ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ، فَإِتْبَاعُهُ بِوَصْفِ قَلِيلُونَ لِلتَّأْكِيدِ لِدَفْعِ احْتِمَالِ اسْتِعْمَالِهَا فِي تَحْقِيرِ الشَّأْنِ أَوْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جُنُودِ فِرْعَوْنَ، فَقَدْ كَانَ عَدَدُ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ خَرَجُوا سِتَّمِائَةَ أَلْفٍ، هَكَذَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا فِي سِفْرِ الْعَدَدِ مِنَ التَّوْرَاةِ فِي الْإِصْحَاحِ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ.
وقَلِيلُونَ خَبَرٌ ثَانٍ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، فَهُوَ وَصْفٌ فِي الْمَعْنَى لِمَدْلُولِ هؤُلاءِ وَلَيْسَ وَصْفًا لِشِرْذِمَةٍ وَلَكِنَّهُ مُؤَكِّدٌ لِمَعْنَاهَا، وَلِهَذَا جِيءَ بِهِ بِصِيغَةِ جَمْعِ السَّلَامَةِ الَّذِي هُوَ لَيْسَ مِنْ جُمُوعِ الْكَثْرَةِ.
وَ (قَلِيلٌ) إِذَا وُصِفَ بِهِ يَجُوزُ مُطَابَقَتُهُ لِمَوْصُوفِهِ كَمَا هُنَا، وَيَجُوزُ مُلَازَمَتُهُ الْإِفْرَادَ وَالتَّذْكِيرَ كَمَا قَالَ السموأل أَوِ الْحَارِثِيُّ:
وَمَا ضَرَّنَا أَنَّا قَلِيلٌ
…
الْبَيْتَ وَنَظِيرُهُ فِي ذَلِكَ لَفْظُ (كَثِيرٌ) وَقَدْ جَمَعَهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ [الْأَنْفَال: 43] .
وَ «غَائِظُونَ» اسْمُ فَاعِلٍ مَنْ غَاظَهُ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى أَغَاظَهُ، أَيْ جَعَلَهُ ذَا غَيْظٍ. وَالْغَيْظُ:
أَشَدُّ الْغَضَبِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ فِي آلِ عِمْرَانَ [119]، وَقَوْلِهِ: وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [15] ، أَيْ وَأَنَّهُمْ فَاعِلُونَ مَا يُغْضِبُنَا.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لَنا لَامُ التَّقْوِيَةِ وَاللَّامُ فِي لَغائِظُونَ لَامُ الِابْتِدَاءِ، وَتَقْدِيمُ لَنا عَلَى لَغائِظُونَ لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ.
وَقَوْلُهُ: وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ حَثٌّ لِأَهْلِ الْمَدَائِنِ عَلَى أَنْ يَكُونُوا حَذِرِينَ عَلَى أَبْلَغِ وَجْهٍ إِذْ جَعَلَ نَفْسَهُ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: لَجَمِيعٌ وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ وُجُوبِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي سِيَاسَةِ الْمَمْلَكَةِ، أَيْ إِنَّا كلّنا حذرون، فَجَمِيع وَقَعَ مُبْتَدأ وَخَبره حاذِرُونَ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ إِنَّ، وَ (جَمِيعٌ) بِمَعْنَى:(كُلٍّ) كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فِي سُورَة يُونُس [4] .
وحاذِرُونَ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِدُونِ أَلِفٍ بَعْدَ الْحَاءِ فَهُوَ جَمْعُ حَذِرٍ وَهُوَ مِنْ أَمْثِلَةِ الْمُبَالَغَةِ عِنْدَ سِيبَوَيْهٍ والمحققين. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَعَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ وَخَلَفٍ بِأَلِفٍ بَعْدَ الْحَاءِ جَمْعُ (حَاذِرٍ) بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْحَذَرَ مِنْ شِيمَتِهِ
وَعَادَتِهِ فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْأُمَّةُ مَعَهُ فِي ذَلِكَ، أَيْ إِنَّا مِنْ عَادَتِنَا التَّيَقُّظُ لِلْحَوَادِثِ وَالْحَذَرُ مِمَّا عَسَى أَنْ يَكُونَ لَهَا من سيّىء الْعَوَاقِبِ.
وَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أُصُولِ السِّيَاسَةِ وَهُوَ سَدُّ ذَرَائِعِ الْفَسَادِ وَلَوْ كَانَ احْتِمَالُ إِفْضَائِهَا إِلَى الْفَسَادِ ضَعِيفًا، فَالذَّرَائِعُ الْمُلْغَاةُ فِي التَّشْرِيعِ فِي حُقُوقِ الْخُصُوصِ غَيْرُ مُلْغَاةٍ فِي سِيَاسَةِ الْعُمُومِ، وَلِذَلِكَ يَقُولُ عُلَمَاءُ الشَّرِيعَةِ: إِنَّ نَظَرَ وُلَاةِ الْأُمُورِ فِي مَصَالِحِ الْأُمَّةِ أَوْسَعُ مِنْ نَظَرِ الْقُضَاةِ، فَالْحَذَرُ أَوْسَعُ مِنْ حِفْظِ الْحُقُوقِ وَهُوَ الْخَوْفُ