الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذَلِكَ لِلِاهْتِمَامِ وَتَقْيِيدُ الْخَبَرِ بَعْدَ إِطْلَاقِهِ، وَلِذَا
قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : «لَوْلا فِي مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ جَارٍ مَجْرَى التَّقْيِيدِ لِلْحُكْمِ الْمُطْلَقِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لَا مِنْ حَيْثُ الصَّنْعَةِ» فَهَذَا شَأْنُ الشُّرُوطِ الْوَاقِعَةِ بَعْدَ كَلَامٍ مَقْصُودٍ لِذَاتِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ إِلَى قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي [الممتحنة: 1] فَإِنَّ قَوْلَهُ: إِنْ كُنْتُمْ قَيْدٌ فِي الْمَعْنَى لِلنَّهْيِ عَنْ مُوَالَاةِ أَعْدَاءِ اللَّهِ.
وَتَأْخِيرُ الشَّرْطِ لِيَظْهَرَ أَنَّهُ قَيْدٌ لِلْفِعْلِ الَّذِي هُوَ دَلِيلُ الْجَوَابِ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ مُتَعَلِّقٌ بِ لَا تَتَّخِذُوا يَعْنِي: لَا تَتَوَلَّوْا أعدائي إِنْ كُنْتُمْ أَوْلِيَائِي. وَقَوْلُ النَّحْوِيِّينَ فِي مِثْلِهِ هُوَ شَرْطٌ جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةٍ مَا قَبْلُهُ عَلَيْهِ» اه. وَكَذَلِكَ مَا قُدِّمَ فِيهِ عَلَى الشَّرْطِ مَا حَقُّهُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِلشَّرْطِ تَقْدِيمًا لِقَصْدِ الِاهْتِمَامِ بِالْجَوَابِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [آل عمرَان: 93] .
وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا.
هَذَا جَوَابُ قَوْلِهِمْ إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها الْمُتَضَمِّنِ أَنَّهُمْ عَلَى هُدًى فِي دِينِهِمْ، وَكَانَ الْجَوَابُ بِقَطْعِ مُجَادَلَتِهِمْ وَإِحَالَتِهِمْ عَلَى حِينِ رُؤْيَتِهِمُ الْعَذَابَ يَنْزِلُ بِهِمْ، فَتَضَمَّنَ ذَلِكَ وَعِيدًا بِعَذَابٍ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ عَذَابُ السَّيْفِ النَّازِلِ بِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَمِمَّنْ رَآهُ أَبُو جَهْلٍ سَيِّدُ أَهْلِ الْوَادِي، وَزَعِيمُ الْقَالَةِ فِي ذَلِكَ النَّادِي.
وَلَمَّا كَانَ الْجَوَابُ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْمُحَاجَّةِ ارْتُكِبَ فِيهِ أُسْلُوبُ التَّهَكُّمِ بِجَعْلِ مَا يَنْكَشِفُ عَنْهُ الْمُسْتَقْبَلُ هُوَ مَعْرِفَةُ مَنْ هُوَ أَشَدُّ ضَلَالًا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُجَارَاةِ وإرخاء الْعَنَان للمخطىء إِلَى أَنْ يَقِفَ عَلَى خَطَئِهِ وَقَدْ قَالَ أَبُو جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ وَهُوَ مُثْخَنٌ بِالْجِرَاحِ فِي حَالَةِ النَّزْعِ لَمَّا قَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: أَنْتَ أَبُو جَهْلٍ؟ فَقَالَ: «وَهَلْ أَعْمَدُ مِنْ رَجُلِ قَتَلَهُ قَوْمُهُ» .
ومَنْ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ أَوْجَبَتْ تَعْلِيقَ فِعْلِ يَعْلَمُونَ عَن الْعَمَل.
[43]
[سُورَة الْفرْقَان (25) : آيَة 43]
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43)
اسْتِئْنَافٌ خُوطِبَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَخْطُرُ بِنَفْسِهِ مِنَ الْحُزْنِ عَلَى تَكَرُّرِ
إِعْرَاضِهِمْ عَنْ دَعْوَتِهِ إِذْ كَانَ حَرِيصًا عَلَى هُدَاهُمْ وَالْإِلْحَاحِ فِي دَعْوَتِهِمْ، فَأَعْلَمَهُ بِأَنَّ مِثْلَهُمْ لَا يُرْجَى اهْتِدَاؤُهُ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا هَوَاهُمْ إِلَهَهُمْ، فَالْخِطَابُ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم.
وَفِعْلُ اتَّخَذَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ وَهُوَ مِنْ أَفْعَالِ التَّصْيِيرِ الْمُلْحَقَةِ بِأَفْعَالِ الظَّنِّ فِي
الْعَمَلِ، وَهُوَ إِلَى بَابِ كَسَا وَأَعْطَى أَقْرَبُ مِنْهُ إِلَى بَابِ ظَنَّ، فَإِنَّ اتَّخَذَ مَعْنَاهُ صَيَّرَ شَيْئًا إِلَى حَالَةٍ غَيْرِ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَوْ إِلَى صُورَةٍ أُخْرَى. وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ مَفْعُولَهُ الْأَوَّلَ هُوَ الَّذِي أُدْخِلَ عَلَيْهِ التَّغْيِيرُ إِلَى حَالِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي فَكَانَ الْحَقُّ أَنْ لَا يُقَدَّمَ مَفْعُولُهُ الثَّانِي عَلَى مَفْعُولِهِ الْأَوَّلِ إِلَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْكَلَامِ لَبْسٌ يَلْتَبِسُ فِيهِ الْمَعْنَى فَلَا يُدْرَى أَيُّ الْمَفْعُولَيْنِ وَقَعَ تَغْيِيرُهُ إِلَى مَدْلُولِ الْمَفْعُولِ الْآخَرِ، أَوْ كَانَ الْمَعْنَى الْحَاصِلُ مِنَ التَّقْدِيمِ مُسَاوِيًا لِلْمَعْنَى الْحَاصِلِ مِنَ التَّرْتِيبِ فِي كَوْنِهِ مُرَادًا لِلْمُتَكَلِّمِ.
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ إِذَا أُجْرِيَ عَلَى التَّرْتِيبِ كَانَ مَعْنَاهُ جَعَلَ إِلَهَهُ الشَّيْءَ الَّذِي يَهْوَى عِبَادَتَهُ، أَيْ مَا يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا لَهُ، أَيْ لِمُجَرَّدِ الشَّهْوَةِ لَا لِأَنَّ إِلَهَهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْإِلَهِيَّةِ، فَالْمَعْنَى: مَنِ اتَّخَذَ رَبًّا لَهُ مَحْبُوبَهُ فَإِنَّ الَّذِينَ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ كَانَتْ شَهْوَتُهُمْ فِي أَنْ يَعْبُدُوهَا وَلَيْسَتْ لَهُمْ حُجَّةٌ عَلَى اسْتِحْقَاقِهَا الْعِبَادَةَ. فَإِطْلَاقُ إِلهَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إِطْلَاقٌ حَقِيقِيٌّ. وَهَذَا يُنَاسِبُ قَوْلَهُ قَبْلَهُ إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا [الْفرْقَان: 42] ، وَمَعْنَاهُ مَنْقُولٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَرَفَةَ فِي «تَفْسِيرِهِ» وَجَزَمَ بِأَنَّهُ الصَّوَابُ دُونَ غَيْرِهِ وَلَيْسَ جَزْمُهُ بِذَلِكَ بِوَجِيهٍ وَقَدْ بَحَثَ مَعَهُ بَعْضُ طَلَبَتِهِ.
وَإِذَا أُجْرِيَ عَلَى اعْتِبَارِ تَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي كَانَ الْمَعْنَى: مَنِ اتَّخَذَ هَوَاهُ قُدْوَةً لَهُ فِي أَعْمَالِهِ لَا يَأْتِي عَمَلًا إِلَّا إِذَا كَانَ وِفَاقًا لِشَهْوَتِهِ فَكَأَنَّ هَوَاهُ إِلَهُهُ. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَى إِلهَهُ شَبِيهًا بِإِلَهِهِ فِي إِطَاعَتِهِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ.
وَهَذَا الْمَعْنَى أَشْمَلُ فِي الذَّمِّ لِأَنَّهُ يَشْمَلُ عِبَادَتَهُمُ الْأَصْنَامَ وَيَشْمَلُ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ وَالْفَوَاحِشِ مِنْ أَفْعَالِهِمْ. وَنَحَا إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى ذَهَبَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَابْنُ عَطِيَّةَ. وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَحْمِلًا لِلْآيَةِ.
وَاعْلَم أَنه إِن كَانَ مَجْمُوعُ جُمْلَتَيْ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا كَلَامًا وَاحِدًا مُتَّصِلًا ثَانِيهِ بِأَوَّلِهِ اتِّصَالَ الْمَفْعُولِ بِعَامِلِهِ، تَعَيَّنَ فِعْلُ
«رَأَيْتَ» لِأَنْ يَكُونَ فِعْلًا قَلْبِيًّا بِمَعْنَى الْعِلْمِ وَكَانَ الِاسْتِفْهَامُ الَّذِي فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى بِقَوْلِهِ: أَرَأَيْتَ إِنْكَارِيًّا كَالثَّانِي فِي قَوْلِهِ: أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا وَكَانَ مَجْمُوعُ الْجُمْلَتَيْنِ كَلَامًا عَلَى طَرِيقَةِ الْإِجْمَالِ ثُمَّ التَّفْصِيلِ. وَالْمَعْنَى: أَرَأَيْتَكَ تَكُونُ وَكِيلًا عَلَى مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ، وَتَكُونُ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ أَفَأَنْتَ فَاءَ الْجَوَابِ لِلْمَوْصُولِ لِمُعَامَلَتِهِ مُعَامَلَةَ الشَّرْطِ، وَهَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ الثَّانِيَةُ تَأْكِيدٌ لِلِاسْتِفْهَامِ الْأَوَّلِ كَقَوْلِهِ أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [الْإِسْرَاء: 49] عَلَى قِرَاءَة إِعَادَة همزَة الِاسْتِفْهَامِ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا
عِوَضًا عَنِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِفِعْلِ أَرَأَيْتَ، وَالْفِعْلُ مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ فِيهِ بِسَبَبِ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ [الزمر: 19] وَعَلَيْهِ لَا يُوقَفُ عَلَى قَوْلِهِ هَواهُ بَلْ يُوصَلُ الْكَلَامُ. وَهَذَا النَّظْمُ هُوَ الَّذِي مَشَى عَلَيْهِ كَلَامُ «الْكَشَّافِ» .
وَإِنْ كَانَتْ كُلُّ جُمْلَةٍ مِنَ الْجُمْلَتَيْنِ مُسْتَقِلَّةً عَنِ الْأُخْرَى فِي نَظْمِ الْكَلَامِ كَانَ الِاسْتِفْهَامُ الَّذِي فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى مُسْتَعْمَلًا فِي التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا إِلَهَهُمْ هَوَاهُمْ تَعْجِيبًا مَشُوبًا بِالْإِنْكَارِ، وَكَانَتِ الْفَاءُ فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى ذَلِكَ التَّعْجِيبِ وَالْإِنْكَارِ، وَكَانَ الِاسْتِفْهَامُ الَّذِي فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ قَوْلِهِ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا إِنْكَارِيًّا بِمَعْنَى: أَنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ قَلْعَهُ عَنْ ضَلَالِهِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ قَبْلَهُ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الْفرْقَان: 42] .
ومَنْ صَادِقَةٌ عَلَى الْجَمْعِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ [الْفرْقَان: 42] وَرُوعِيَ فِي ضَمَائِرِ الصِّلَةِ لَفْظُ مَنْ فَأُفْرِدَتِ الضَّمَائِرُ. وَالْمَعْنَى:
مَنِ اتَّخَذُوا هَوَاهُمْ إِلَهًا لَهُمْ أَوْ مَنِ اتَّخَذُوا آلِهَةً لِأَجْلِ هَوَاهُمْ.
وَ «إِلَهٌ» جِنْسٌ يَصْدُقُ بِعِدَّةِ آلِهَةٍ إِنْ أُرِيدَ مَعْنَى اتَّخَذُوا آلِهَةً لِأَجْلِ هَوَاهُمْ. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْله فَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا لِلتَّقَوِّي إِشَارَةً إِلَى إِنْكَارِ مَا حَمَّلَ الرَّسُولُ عليه الصلاة والسلام نَفْسَهُ مِنَ الْحِرْصِ وَالْحُزْنِ فِي طَلَبِ إِقْلَاعِهِمْ عَنِ الْهَوَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يُونُس: 99] . وَالْمَعْنَى:
تَكُونُ وَكِيلًا عَلَيْهِ فِي حَالِ إِيمَانِهِ بِحَيْثُ لَا تُفَارِقُ إِعَادَةَ دَعْوَتِهِ إِلَى الْإِيمَانِ حَتَّى تلجئه إِلَيْهِ.