الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ بِ ذلِكَ هُوَ الْمَذْكُورُ مِنَ الْأَرْضِ، وَإِنْبَاتُ اللَّهِ الْأَزْوَاجَ فِيهَا، وَمَا فِي تِلْكَ الْأَزْوَاجِ مِنْ مَنَافِعَ وَبَهْجَةٍ.
وَالتَّأْكِيدُ بِحَرْفِ إِنَّ لِتَنْزِيلِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُ دَلَالَةَ ذَلِكَ الْإِنْبَاتِ وَصِفَاتِهِ عَلَى ثُبُوتِ الْوَحْدَانِيَّةِ الَّتِي هِيَ بَاعِثُ تَكْذِيبِهِمُ الرَّسُولَ لِمَا دَعَاهُمْ إِلَى إِثْبَاتِهَا، وَإِفْرَادُ (آيَةً) لِإِرَادَةِ الْجِنْسِ، أَوْ لِأَنَّ فِي الْمَذْكُورِ عِدَّةَ أَشْيَاءَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا آيَةٌ فَيَكُونُ عَلَى التَّوْزِيعِ.
وَجُمْلَةُ: وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً إِخْبَارًا عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ مُصِرُّونَ عَلَى الْكُفْرِ بَعْدَ هَذَا الدَّلِيلِ الْوَاضِحِ، وَضَمِيرُ أَكْثَرُهُمْ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ كَمَا عَادَ الضَّمِيرُ الَّذِي فِي قَوْله: أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشُّعَرَاء: 3]، وَهُمْ مُشْرِكُو أَهْلِ مَكَّةَ وَهَذَا تَحَدٍّ لَهُمْ كَقَوْلِهِ: وَلَنْ تَفْعَلُوا [الْبَقَرَة: 24] .
وَأُسْنِدَ نَفْيُ الْإِيمَانِ إِلَى أَكْثَرِهِمْ لِأَنَّ قَلِيلًا مِنْهُمْ يُؤْمِنُونَ حِينَئِذٍ أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ.
وكانَ هُنَا مُقْحَمَةٌ لِلتَّأْكِيدِ عَلَى رَأْيِ سِيبَوَيْهِ وَالْمُحَقِّقِينَ.
وَجُمْلَةُ: وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ تَذْيِيلٌ لِهَذَا الْخَبَرِ: بِوَصْفِ اللَّهِ بِالْعِزَّةِ، أَيْ تَمَامِ الْقُدْرَةِ فَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعِقَابَ، وَبِوَصْفِ الرَّحْمَةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ فِي إِمْهَالِهِمْ رَحْمَةً بِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ، وَرَحِيمٌ بِكَ. قَالَ تَعَالَى: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ [الْكَهْف: 58] . وَفِي وَصْفِ الرَّحْمَةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ يَرْحَمُ رُسُلَهُ بِتَأْيِيدِهِ وَنَصْرِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ لَمَّا كَانَ عَقْلِيًّا اقْتُصِرَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُكَرَّرْ بِغَيْرِهِ مِنْ نَوْعِ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ كَمَا كُرِّرَتِ الدَّلَائِلُ الْحَاصِلَةُ مِنَ الْعِبْرَةِ بِأَحْوَالِ الْأُمَمِ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسى [الشُّعَرَاء: 10] إِلَى آخِرِ قِصَّةِ أَصْحَاب ليكة.
[10، 11]
[سُورَة الشُّعَرَاء (26) : الْآيَات 10 إِلَى 11]
وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (11)
شُرُوعٌ فِي عَدِّ آيَاتٍ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم بِذِكْرِ عَوَاقِبِ الْمُكَذِّبِينَ بِرُسُلِهِمْ
لِيُحَذِّرَ الْمُخَاطِبُونَ بِالدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ مِنْ أَنْ يُصِيبَهُمْ مَا أَصَابَ الْمُكَذِّبِينَ. وَفِي ضِمْنِ ذَلِكَ تَبْيِينٌ لِبَعْضِ مَا نَادَى بِهِ الرُّسُلُ مِنَ الْبَرَاهِينِ.
وَإِذْ قَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَدِلَّةُ مِنَ الْمَثُلَاتِ قُصِدَ ذِكْرُ كَثِيرٍ اشْتُهِرَ مِنْهَا وَلَمْ يُقْتَصَرْ عَلَى حَادِثَةٍ وَاحِدَة لِأَن الدّلَالَة غَيْرَ الْعَقْلِيَّةِ يَتَطَّرَقُهَا احْتِمَالُ عَدَمِ الْمُلَازَمَةِ بِأَنْ يَكُونَ مَا أَصَابَ قَوْمًا مِنْ أُولَئِكَ عَلَى وَجْهِ الصُّدْفَةِ وَالِاتِّفَاقِ فَإِذَا تَبَيَّنَ تَكَرُّرُ أَمْثَالِهَا ضَعُفَ احْتِمَالُ الِاتِّفَاقِيَّةِ، لِأَنَّ قِيَاسَ التَّمْثِيلِ لَا يُفِيدُ الْقَطْعَ إِلَّا بِانْضِمَامِ مُقَوِّمَاتٍ لَهُ مِنْ تَوَاتَرٍ وَتَكَرُّرٍ.
وَإِنَّمَا ابْتُدِئَ بِذِكْرِ قِصَّةِ مُوسَى ثُمَّ قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَى خِلَافِ تَرْتِيبِ حِكَايَةِ الْقَصَصِ الْغَالِبِ فِي الْقُرْآنِ مِنْ جَعْلِهَا عَلَى تَرْتِيبِ سَبْقِهَا فِي الزَّمَانِ، لَعَلَّهُ لِأَنَّ السُّورَةَ نَزَلَتْ لِلرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي إِلْحَاحِهِمْ عَلَى إِظْهَارِ آيَاتٍ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ فِي الْكَائِنَاتِ زَاعِمِينَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا إِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ فَضُرِبَ لَهُمُ الْمَثَلُ بِمُكَابَرَةِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ فِي آيَاتِ مُوسَى إِذْ قَالُوا: إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ مُبِينٌ [يُونُس: 2] وَعُطِفَ وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسى عَطْفَ جُمْلَةٍ على جملَة: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ [الشُّعَرَاء: 7] بِتَمَامِهَا.
وَيَكُونُ إِذْ اسْمَ زَمَانٍ مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: وَاذْكُرْ إِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ فِي الْقِصَّةِ الَّتِي بَعْدَهَا وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ [الشُّعَرَاء: 69] . وَفِي هَذَا الْمُقَدَّرِ تَذْكِيرٌ لِلرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام بِمَا يُسَلِّيهِ عَمَّا يَلْقَاهُ مِنْ قَوْمِهِ.
وَنِدَاءُ اللَّهِ مُوسَى الْوَحْيُ إِلَيْهِ بِكَلَامٍ سَمِعَهُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةِ مَلَكٍ.
جملَة: أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ تَفْسِيرٌ لِجُمْلَةِ: نَادَى، وأَنِ تَفْسِيرِيَّةٌ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ سَوْقِ هَذِهِ الْقِصَّةِ هُوَ الْمَوْعِظَةُ بِعَاقِبَةِ الْمُكَذِّبِينَ وَذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ إِلَى قَوْلِهِ: وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشُّعَرَاء: 63- 68] . وَأَمَّا مَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسى إِلَخْ فَهُوَ تَفْصِيلٌ لِأَسْبَابِ الْمَوْعِظَةِ بِذِكْرِ دَعْوَةِ مُوسَى إِلَى مَا أُمِرَ بِإِبْلَاغِهِ وَإِعْرَاضِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ وَمَا عَقِبَ ذَلِكَ إِلَى الْخَاتِمَةِ.
وَاسْتِحْضَارُ قَوْمِ فِرْعَوْنَ بِوَصْفِهِمْ بِالْقَوْمِ الظَّالِمِينَ إِيمَاءٌ إِلَى عِلَّةِ الْإِرْسَالِ. وَفِي هَذَا الْإِجْمَالِ تَوْجِيهُ نَفْسِ مُوسَى لِتَرَقُّبِ تَعْيِينِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ بِمَا يُبَيِّنُهُ، وَإِثَارَةٌ لِغَضَبِ
مُوسَى عَلَيْهِمْ حَتَّى يَنْضَمَّ دَاعِي غَضَبِهِ عَلَيْهِمْ إِلَى دَاعِي امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ الْبَاعِثِهِ إِلَيْهِمْ، وَذَلِكَ أَوْقَعُ لِكَلَامِهِ فِي نُفُوسِهِمْ. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُمُ اشْتُهِرُوا بِالظُّلْمِ.
ثُمَّ عَقَّبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ وَصْفِهِمُ الذَّاتِيِّ بِطَرِيقَةِ الْبَيَانِ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَهُوَ قَوْلُهُ:
قَوْمَ فِرْعَوْنَ، وَفِي تَكْرِيرِ كَلِمَةِ قَوْمَ مَوْقِعٌ مِنَ التَّأْكِيدِ فَلَمْ يَقُلْ: ائْتِ قَوْمَ فِرْعَوْنَ الظَّالِمِينَ، كَقَوْلِ جَرِيرٍ:
يَا تَيْمُ تَيْمَ عَدَيٍّ لَا أَبَا لَكُمْ
…
لَا يلفينّكم فِي سوأة عُمَرُ
وَالظُّلْمُ يَعُمُّ أَنْوَاعَهُ، فَمِنْهَا ظُلْمُهُمْ أَنْفُسَهُمْ بِعِبَادَةِ مَا لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ، وَمِنْهَا ظُلْمُهُمُ النَّاسَ حُقُوقَهُمْ إِذِ اسْتَعْبَدُوا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَاضْطَهَدُوهُمْ، وَتَقَدَّمَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَعْنَيَيْنِ مِرَارًا فِي ضِدِّ الْعَدْلِ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ فِي الْبَقَرَةِ [114]، وَبِمَعْنَى الشِّرْكِ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ فِي الْأَنْعَامِ [82] .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ عَدَلَ هُنَا عَنْ ذِكْرِ مَا ابْتُدِئَ بِهِ نِدَاءُ مُوسَى مِمَّا هُوَ فِي سُورَةِ طه [12- 23] بِقَوْلِهِ: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِلَى قَوْلِهِ: لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى لِأَنَّ الْمَقَامَ هُنَا يَقْتَضِي الِاقْتِصَارَ عَلَى مَا هُوَ شَرْحُ دَعْوَةِ قَوْمِ فِرْعَوْنَ وَإِعْرَاضُهُمْ لِلِاتِّعَاظِ بِعَاقِبَتِهِمْ. وَأَمَّا مَقَامُ مَا فِي سُورَةِ طه فَلِبَيَانِ كَرَامَةِ مُوسَى عِنْدَ رَبِّهِ وَرِسَالَتِهِ مَعًا فَكَانَ مَقَامَ إِطْنَابٍ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنِ اخْتِلَافِ الْأُسْلُوبِ فِي حِكَايَةِ الْقِصَّةِ الْوَاحِدَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَةِ السَّابِعَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ.
وَالْإِتْيَانُ الْمَأْمُورُ بِهِ هُوَ ذَهَابُهُ لِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ إِلَيْهِمْ. وَهَذَا إِيجَازٌ يبيّنه قَوْله: أْتِيا
فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ
[الشُّعَرَاء: 16] إِلَى آخِرِهِ.
وَجُمْلَةُ: أَلا يَتَّقُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّهُ لَمَّا أَمَرَهُ بِالْإِتْيَانِ إِلَيْهِمْ لِدَعْوَتِهِمْ وَوَصَفَهُمْ بِالظَّالِمِينَ كَانَ الْكَلَامُ مُثِيرًا لِسُؤَالٍ فِي نَفْسِ مُوسَى عَنْ مَدَى ظُلْمِهِمْ فَجِيءَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى تَوَغُّلِهِمْ فِي الظُّلْمِ وَدَوَامِهِمْ عَلَيْهِ تَقْوِيَةً لِلْبَاعِثِ لِمُوسَى عَلَى بُلُوغِ الْغَايَةِ فِي الدَّعْوَةِ وَتَهْيِئَةً لِتَلَقِّيهِ تكذيبهم بِدُونِ مفاجأة، فَيَكُونُ أَلا مِنْ قَوْلِهِ: أَلا يَتَّقُونَ مُرَكَّبًا مِنْ حَرْفَيْنِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَ (لَا) النَّافِيَةِ. وَالِاسْتِفْهَامُ لِإِنْكَارِ انْتِفَاءِ تَقْوَاهُمْ، وَتَعْجِيبِ مُوسَى مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ مُوسَى كَانَ مُطَّلِعًا عَلَى أَحْوَالِهِمْ إِذْ كَانَ قَدْ نَشَأَ فِيهِمْ وَقَدْ عَلِمَ مَظَالِمَهُمْ وَأَعْظَمُهَا الْإِشْرَاكُ وَقَتْلُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ....