الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَفُرِّعَ عَلَى وَصْفِهِ بِ الرَّحْمنُ قَوْله فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ فِي رَحْمَتِهِ مِنَ الْعَظَمَةِ وَالشُّمُولِ مَا لَا تَفِي فِيهِ الْعِبَارَةُ فَيَعْدِلُ عَنْ زِيَادَةِ التَّوْصِيفِ إِلَى الْحِوَالَة على
عليم بِتَصَارِيفِ رَحْمَتِهِ مُجَرِّبٌ لَهَا مُتَلَقٍّ أَحَادِيثَهَا مِمَّنْ عَلِمَهَا وَجَرَّبَهَا.
وَتَنْكِيرُ خَبِيراً لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْعُمُومِ، فَلَا يُظَنُّ خَبِيرًا مُعَيَّنًا، لِأَنَّ النَّكِرَةَ إِذَا تَعَلَّقَ بهَا فعل الْأَمر اقْتَضَتْ عُمُومًا بِدَلِيلِ أَيِّ خَبِيرٍ سَأَلْتَهُ أَعْلَمَكَ.
وَهَذَا يَجْرِي مَجْرَى الْمَثَلِ وَلَعَلَّهُ مِنْ مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآنِ نَظِيرَ قَوْلِ الْعَرَبِ: «عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ» يَقُولُهَا الْعَارِفُ بِالشَّيْءِ إِذَا سُئِلَ عَنْهُ. وَالْمَثَلَانِ وَإِنْ تَسَاوَيَا فِي عَدَدِ الْحُرُوفِ الْمَنْطُوقِ بِهَا فَالْمَثَلُ الْقُرْآنِيُّ أَفْصَحُ لِسَلَامَتِهِ مِنْ ثِقَلِ تَلَاقِي الْقَافِ وَالطَّاءِ وَالتَّاءِ فِي (سَقَطْتَ) . وَهُوَ أَيْضًا أَشْرَفُ لِسَلَامَتِهِ مِنْ مَعْنَى السُّقُوطِ، وَهُوَ أَبْلَغُ مَعْنًى لِمَا فِيهِ مِنْ عُمُومِ كُلِّ خَبِيرٍ، بِخِلَافِ قَوْلِهِمْ: عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ، لِأَنَّهَا إِنَّمَا يَقُولُهَا الْوَاحِدُ الْمُعَيَّنُ. وَقَرِيبٌ من معنى فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً قَوْلُ النَّابِغَةِ:
هَلَّا سَأَلْتَ بَنِي ذُبْيَانَ مَا حَسَبِي
…
إِذَا الدُّخَانُ تَغَشَّى الْأَشْمَطَ الْبَرِمَا
إِلَى قَوْلِهِ:
يُخْبِرُكُ ذُو عِرْضِهِمْ عَنِّي وَعَالِمُهُمْ
…
وَلَيْسَ جَاهِلُ شَيْءٍ مِثْلَ مَنْ عَلِمَا
وَالْبَاءُ فِي بِهِ بِمَعْنَى (عَنْ) أَيْ فَاسْأَلْ عَنْهُ كَقَوْلِ عَلْقَمَةَ:
فَإِنْ تَسْأَلُونِي بِالنِّسَاءِ فَإِنَّنِي
…
خَبِيرٌ بِأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ مُتَعَلِّقَةً بِ خَبِيراً وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِلرَّعْيِ عَلَى الْفَاصِلَةِ وَلِلِاهْتِمَامِ، فَلهُ سببان.
[60]
[سُورَة الْفرْقَان (25) : آيَة 60]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (60)
لِمَا جَرَى وَصْفُ الله تَعَالَى بالرحمان مَعَ صِفَاتٍ أُخُرَ اسْتَطْرَدَ ذِكْرُ كُفْرِ الْمُشْرِكِينَ بِهَذَا الْوَصْفِ. وَقَدْ عَلِمْتَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى الْبَسْمَلَةِ فِي أَوَّلِ هَذَا التَّفْسِيرِ أَنَّ وَصْفَ اللَّهِ تَعَالَى باسم (الرحمان) هُوَ مِنْ وَضْعِ الْقُرْآنِ وَلَمْ يَكُنْ مَعْهُودًا لِلْعَرَبِ، وَأَمَّا قَوْلُ شَاعِرِ الْيَمَامَةِ فِي مَدْحِ مُسَيْلِمَةَ:
سَمَوْتَ بِالْمَجْدِ يَا ابْنَ الْأَكْرَمِينَ أَبًا
…
وَأَنْتَ غَيْثُ الْوَرَى لَا زِلْتَ رَحْمَانَا
فَذَلِكَ بَعْدَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ فِي مُدَّةِ الرِّدَّةِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا سَمِعُوهُ مِنَ الْقُرْآنِ أَنْكَرُوهُ قَصْدًا بِالتَّوَرُّكِ عَلَى النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَ ذَلِكَ عَنْ جَهْلٍ بِمَدْلُولِ هَذَا الْوَصْفِ وَلَا بِكَوْنِهِ جَارِيًا عَلَى
مَقَايِيسِ لُغَتِهِمْ وَلَا أَنَّهُ إِذَا وُصِفُ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ رَبٌّ وَاحِدٌ وَأَنَّ التَّعَدُّدَ فِي الْأَسْمَاءِ فَكَانُوا يَقُولُونَ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الصابىء يَنْهَانَا أَنْ نَدْعُوَ إِلَهَيْنِ وَهُوَ يَدْعُو اللَّهَ وَيَدْعُو الرَّحْمَنَ. وَفِي ذَلِكَ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آخِرِ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [110] وَهَذِهِ الْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى آيَةِ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ.
وَالْخَبَرُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً فِي التَّعْجِيبِ مِنْ عِنَادِهِمْ وَبُهْتَانِهِمْ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ إِفَادَةَ الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مَعْلُومٌ مِنْ شَأْنِهِمْ.
وَالسُّجُودُ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ سُجُودُ الِاعْتِرَافِ لَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَهُوَ شِعَارُ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَكُنِ السُّجُودُ مِنْ عِبَادَتِهِمْ وَإِنَّمَا كَانُوا يَطُوفُونَ بِالْأَصْنَامِ، وَأَمَّا سُجُودُ الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ فَلَيْسَ مُرَادًا هُنَا إِذْ لَمْ يَكُونُوا مِمَّنْ يُؤْمَرُ بِالصَّلَاةِ وَلَا فَائِدَةَ فِي تَكْلِيفِهِمْ بِهَا قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ
حَدِيثُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ أَرْسَلَهُ النَّبِيءُ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْيَمَنِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ
إِلَخْ. وَمَسْأَلَةُ تَكْلِيفِ الْكُفَّارِ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ لَا طَائِلَ تَحْتَهَا.
وَوَاوُ الْعَطْفِ فِي قَوْلِهِمْ وَمَا الرَّحْمنُ لِعَطْفِهِمُ الْكَلَامَ الَّذِي صَدَرَ مِنْهُمْ عَلَى الْكَلَامِ الَّذِي وُجِّهَ إِلَيْهِمْ فِي أَمرهم بِالسُّجُود للرحمان، عَلَى طَرِيقَةِ دُخُولِ الْعَطْفِ بَيْنَ كَلَامَيْ مُتَكَلِّمَيْنِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [الْبَقَرَة:
124] . ومَا مِنْ قَوْلِهِ وَمَا الرَّحْمنُ اسْتِفْهَامِيَّةٌ.
وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الِاسْتِغْرَابِ، يَعْنُونَ تَجَاهُلَ هَذَا الِاسْمِ، وَلِذَلِكَ اسْتَفْهَمُوا عَنْهُ بِمَا دُونَ (مَنْ) بِاعْتِبَارِ السُّؤَالِ عَنْ مَعْنَى هَذَا الِاسْمِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا إِنْكَارٌ وَامْتِنَاعٌ، أَيْ لَا نَسْجُدُ لِشَيْءٍ