الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَتَفْرِيعُ فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ عَلَى جُمْلَةِ وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ أَنَّهُ مُرْسَلٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَهُمْ يَطْلُبُونَ مِنْهُ الْكَفَّ عَنْ دَعْوَتِهِمْ وَعَنْ تَنَقُّصِ أَصْنَامِهِمْ.
وَالنَّهْيُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّحْذِيرِ وَالتَّذْكِيرِ، وَفِعْلُ تُطِعِ فِي سِيَاقِ النَّهْيِ يُفِيدُ عُمُومَ التَّحْذِيرِ مِنْ أَدْنَى طَاعَةٍ.
وَالطَّاعَةُ: عَمَلُ الْمَرْءِ بِمَا يُطْلَبُ مِنْهُ، أَيْ فَلَا تَهِنْ فِي الدَّعْوَةِ رَعْيًا لِرَغْبَتِهِمْ أَنْ تَلِينَ لَهُمْ.
وَبَعْدَ أَنْ حَذَّرَهُ مِنَ الْوَهَنِ فِي الدَّعْوَةِ أَمَرَهُ بِالْحِرْصِ وَالْمُبَالَغَةِ فِيهَا. وَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْجِهَادِ وَهُوَ الِاسْمُ الْجَامِعُ لِمُنْتَهَى الطَّاقَةِ. وَصِيغَةُ الْمُفَاعَلَةِ فِيهِ لِيُفِيدَ مُقَابَلَةَ مَجْهُودِهِمْ بِمَجْهُودِهِ فَلَا يَهِنُ وَلَا يَضْعُفُ وَلِذَلِكَ وُصِفَ بِالْجِهَادِ الْكَبِيرِ، أَيِ الْجَامِعِ لِكُلِّ مُجَاهَدَةٍ.
وَضَمِيرُ بِهِ عَائِدٌ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ: فَإِمَّا أَنْ يَعُودَ إِلَى الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ مَفْهُومٌ مِنْ مَقَامِ النِّذَارَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَعُودَ إِلَى الْمَفْهُومِ مِنْ «لَا تُطِعْ» وَهُوَ الثَّبَاتُ عَلَى دَعْوَتِهِ بِأَنْ يَعْصِيَهُمْ، فَإِنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ كَمَا دلّ عَلَيْهِ قَوْلُ أَبِي حَيَّةَ النُّمَيْرِيِّ:
فَقُلْنَ لَهَا سِرًّا فَدِينَاكِ لَا يَرُحْ
…
صَحِيحًا وَإِنْ لَمْ تَقْتُلِيهِ فَأَلْمِمِ
فَقَابَلَ قَوْلَهُ: «لَا يَرُحْ صَحِيحًا» بِقَوْلِهِ: «وَإِنْ لَمْ تَقْتُلِيهِ فَأَلْمِمِ» كَأَنَّهُ قَالَ: فَدَيْنَاكِ فَاقْتُلِيهِ.
وَالْمَعْنَى: قَاوِمْهُمْ بِصَبْرِكَ. وَكِبَرُ الْجِهَادِ تَكْرِيرُهُ وَالْعَزْمُ فِيهِ وَشِدَّةُ مَا يَلْقَاهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَشَقَّةِ. وَهَذَا
كَقَوْلِ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم لِأَصْحَابِهِ عِنْدَ قُفُولِهِ مِنْ بَعْضِ غَزَوَاتِهِ «رَجَعْنَا مِنَ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إِلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ» . قَالُوا: «وَمَا الْجِهَادُ الْأَكْبَرُ» ؟ - قَالَ: مُجَاهَدَةُ الْعَبْدِ هَوَاهُ»
. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَد ضَعِيف.
[53]
[سُورَة الْفرْقَان (25) : آيَة 53]
وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (53)
عَوْدٌ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى تَفَرُّدِهِ تَعَالَى بِالْخَلْقِ. جَمَعَتْ هَذِهِ الْآيَةُ اسْتِدْلَالًا وَتَمْثِيلًا
وَتَثْبِيتًا وَوَعْدًا فَصَرِيحُهَا اسْتِدْلَالٌ عَلَى شَيْءٍ عَظِيمٍ مِنْ آثَارِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَهُوَ الْتِقَاءُ الْأَنْهَارِ وَالْأَبْحُرِ كَمَا سَيَأْتِي، وَفِي ضِمْنِهَا تَمْثِيلٌ لِحَالِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ فِي مَكَّةَ يَوْمَئِذٍ وَاخْتِلَاطُ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ بِحَالِ تَجَاوُزِ الْبَحْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَالْآخَرُ مِلْحٌ أُجَاجٌ. وَتَمْثِيلُ الْإِيمَانِ بِالْعَذْبِ الْفُرَاتِ وَالشِّرْكِ بِالْمِلْحِ الْأُجَاجِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَمَا جَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ بَرْزَخًا يَحْفَظُ الْعَذْبَ مِنْ أَنْ يُكَدِّرَهُ الْأُجَاجُ، كَذَلِكَ حَجَزَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ فَلَا يَسْتَطِيعُ الْمُشْرِكُونَ أَنْ يَدُسُّوا كُفْرَهُمْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. وَفِي هَذَا تَثْبِيتٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِأَنَّ اللَّهَ يَحْجِزُ عَنْهُمْ ضُرَّ الْمُشْرِكِينَ لِقَوْلِهِ: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً [آل عمرَان:
111] . وَفِي ذَلِكَ تَعْرِيضٌ كِنَائِيٌّ بِأَنَّ اللَّهَ نَاصِرٌ لِهَذَا الدِّينِ مِنْ أَنْ يُكَدِّرَهُ الشِّرْكُ.
وَلِأَجْلِ مَا فِيهَا مِنَ التَّمْثِيلِ وَالتَّثْبِيتِ وَالْوَعْدِ كَانَ لِمَوْقِعِهَا عَقِبَ جُمْلَةِ فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً [الْفرْقَان: 52] أَكْمَلُ حُسْنٍ. وَهِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ نُشُرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [الْفرْقَان: 48] . وَمُنَاسَبَةُ وُقُوعِهَا عَقِبَ الَّتِي قَبْلَهَا أَنَّ كِلْتَيْهِمَا اسْتِدْلَالٌ بِآثَارِ الْقُدْرَةِ فِي تَكْوِينِ الْمِيَاهِ الْمُخْتَلِفَةِ. وَمُفَادُ الْقَصْرِ هَنَا نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَتَيْنِ السابقتين.
والمرج: الْخَلْطُ. وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِشِدَّةِ الْمُجَاوَرَةِ، وَالْقَرِينَةُ قَوْلُهُ: وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً. وَالْبَحْرُ: الْمَاءُ الْمُسْتَبْحِرُ، أَيْ الْكَثِيرُ الْعَظِيمُ. وَالْعَذْبُ: الْحُلْوُ.
وَالْفُرَاتُ: شَدِيدُ الْحَلَاوَةِ. وَالْمِلْحُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وُصِفَ بِهِ بِمَعْنَى الْمَالِحِ، وَلَا يُقَالُ فِي الْفَصِيحِ إِلَّا مِلْحٌ وَأَمَا مَالِحٌ فَقَلِيلٌ. وَأُرِيدَ هُنَا مُلْتَقَى مَاءِ نَهْرَيِ الْفُرَاتِ وَالدَّجْلَةِ مَعَ مَاءِ بَحْرِ خَلِيجِ الْعَجَمِ.
وَالْبَرْزَخُ: الْحَائِلُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ. وَالْمُرَادُ بِالْبَرْزَخِ تَشْبِيهُ مَا فِي تَرْكِيبِ الْمَاءِ الْمِلْحِ مِمَّا يَدْفَعُ تَخَلُّلَ الْمَاءِ الْعَذْبِ فِيهِ بِحَيْثُ لَا يَخْتَلِطُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ وَيَبْقَى كِلَاهُمَا حَافِظًا لِطَعْمِهِ عِنْدَ الْمَصَبِّ.
وحِجْراً مَصْدَرٌ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ بِهِ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ على مفعول جعل.
وَلَيْسَ هُنَا مُسْتَعْمَلًا فِي التَّعَوُّذِ كَالَّذِي تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً [الْفرْقَان: 22] . ومَحْجُوراً وَصْفٌ لِ حِجْراً مُشْتَقٌّ مِنْ مَادَّتِهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِ الْمَعْنَى الْمُشْتَقِّ مِنْهُ كَمَا قَالُوا: لَيْلٌ أَلْيَلُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَوَقَعَ فِي «الْكَشَّافِ» تُكَلُّفٌ بِجَعْلِ حِجْراً مَحْجُوراً هُنَا بِمَعْنَى التَّعَوُّذِ