الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوحدة الوطنية
المجيب سامي بن عبد العزيز الماجد
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
أصول الفقه /السياسة الشرعية
التاريخ 4/8/1424هـ
السؤال
لدي إشكال وهو عن الوحدة الوطنية ماذا تعني؟ وعند أي حدّ تقف؟
وهل لرابطة الوطن اعتبار في الشرع؟ وهل ابن البلد أولى بالوظائف من الأجانب الموجودين في البلد نفسه؟
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فلا يصح أن تطلق على مفهوم (الوحدة الوطنية) حكماً عاماً مطلقاً لا يختلف باختلاف أحوالها ودلالاتها. وهذا الخطأ يقع فيه بعضنا في حكمه على بعض المصطلحات، فيطلق حكماً معيناً عاماً على مصطلحٍ ما مع أن مفهومه قد يختلف من شخص لآخر، وقد تختلف تطبيقاته من بلد لآخر.
ومنها مصطلح (الوحدة الوطنية) ، فلم يكن مستغرباً أن تتباين مواقفُ الناس منها كما تباينت في أمثالها من الانتماءات والمصطلحات.
فانتصر لها أقوامٌ وحمَلوا لواءها؛ ليجعلوا منها الرابطةَ الوحيدةَ التي يجب أن تنداحَ لها كلُّ الروابط الأخرى، وأن يُلتغى أمامها كلُّ انتماء، فلا رابطة تجمع الناس إلا رابطة الوطن.
وكل ما وراءها فلا اعتبار له؛ لسبب واحد: هو أنه خارجٌ عن حدود الوطن، فالمواطن إنما هو ابن وطنه، ومنفعته يجب أن تكون مقصورة على وطنه، لا يعنيه شيءٌ وراءه.
ونابذها قومٌ آخرون بالعداوة المطلقة، فعادَوها وعدُّوها طاغوتاً ووثناً يعبد من دون الله من غير تفصيل لاختلاف الأحوال.
فهما موقفان يقعان من الخطأ موقعاً متقارباً، إذ لا فرقَ بين موقفٍ يُحِقُ الحقَ والباطلَ جميعاً، وآخرَ يُبطل الحقَ مع الباطل؟.
والموقف الصحيح في كل مسألة يمتزج فيها المعروف والمنكر، ويجتمع فيها الحق والباطل: أن يُفصلَ الحقُ عن أعلاق الباطل حتى لا يلتبس به.
ومسألة الوطنية مزيجٌ وأخلاطٌ من هذا وذاك: مِن الموافِقاتِ للشريعة والمخالِفات لها، والموقف الصحيح مما هذا شأنه: هو أن تُسبر مقتضياتها ودلالاتها بمسبار الشرع واحدةً بعد أخرى، فلا يُحكم على الشيء كله بخطأ بعضه، وإنما يؤخذ مسألة مسألةً لا جملةً واحدةً، فالحقّ يُحَقّ، والباطل يُبطلُ.
إنَّ الانتماء للوطن بمجرده لا محذور فيه، كما لا محذور في مجرد الانتساب للقبيلة، فقد كان صحابة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ينتمون إلى قبائلهم ويُنسبون إلى أوطانهم، فهذا أوسيٌّ، وذاك خزرجي، وهذا أنصاري، وذاك مهاجري، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسمعها منهم فلا ينكرها عليهم.
فمجرد الانتماء للتعريف وإثبات النسب ونحو ذلك ليس فيه معرَّة ولا مضرة، حتى إذا جاوزتْ ذلك واستحالت عصبيةً ورابطةً يُنتصر لها دون عصبيّة الإسلام ورابطتِه، كبحها صلى الله عليه وسلم ونهاهم عنها، وقال: "ما بال دعوى الجاهلية؟
…
دعوها فإنها منتنة" رواه البخاري (4905) ومسلم (2584) من حديث جابر رضي الله عنه.
فمن المرفوض قطعاً ما يدعو إليه غُلاة الوطنية من أن يكونَ عطاءُ المواطِن واهتمامه قاصراً على وطنه، وولاؤه محدوداً بحدوده، وأن يَجعل له من قضايا وطنه شُغلاً عن كل شغل، فلا يعنيه شيء خارج حدود بلده.
لا بأس أن تكون اهتماماتُنا بقضايا وطنِنا أكثر، فالأقرب أولى من الأبعد، والأقربون أولى بالمعروف، ولكن لا يجوز أن تكون اهتماماتُنا محصورةً فيه فلا تُجاوِزُه قَيْد أُنمُلة. فأين هي إذاً وشيجةُ الدين، وأين هي حقوق المسلمين؟.
إن بعض مقتضيات الوحدة الوطنية لهو مما يقصده الإسلام ويدعو إليه؛ كالمحافظة على أمن البلاد وأرواح الناس وأموالهم وأعراضهم، وحماية ثروات الوطن ومقدراته، وكالدعوة إلى المساواة والعدل، ومدافعة الظلم ومعاقبة الظَّلمَة، وهذا كله يدخل في باب التعاون على البر والتقوى.
أما حين تقتضي الوحدة الوطنية أن يحب المواطن أبناء وطنه كلهم على السواء بجامع الانتماء للوطن نفسه بلا اعتبار للدين فهذا لا يجوز؛ ففي هذه المحبة تمييع لعقيدة البراء، وتضيعٌ لعقيدة الولاء. إذ يقتضي ذلك أن يستوي في المحبة والولاء مسلمهم وكافرهم، بَرّهم وفاجرهم، وهذا ما لا تقرُّه الشريعة.
إننا حين نحب أحداً من أبناء وطننا فإنما نحبه لأنه مسلم، لا لأنه مواطن. وحين نكره أحداً فلأنه كافرٌ، لا لأنه من وطنٍ آخر. ولكن محبتنا لأحدٍ ما لا تدفعنا إلى أن نسكت عن أخطائه أو نعينه على ظلمه. وكرهنا لأحدٍ بسبب كفره أو انتمائه لطائفة ضالّة ـ سواء كان من وطننا أو من غيره ـ لا يحملنا على أن نعتدي عليه، أو نبخسه حقه، أو نمتنع عن نصرته إذا ظُلِم.
والوحدة الوطنية تفرض فيما تفرضه حمايةَ حقوق الأقليات والتعايش معهم، وهذا حقٌ سبق أن دعا إليه الإسلام قبل أن يعرف الناس مفهوم الوطنية والمواطنة، ولكن حمايته لحقوق الأقليات لم تكن تعني إقرارهم على السخرية بشعائر الإسلام، أو سب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أو المجاهرة بما يمنع الإسلام أن يُجاهر به بين المسلمين.
الوحدة الوطنية تصبح واجباً لا مناص منه حينما يتهدد البلاد خطر خارجي متمثل في تحالف صهيوني صليبي يريد أن يهيمن عليه ليسلب ثرواته وخيراته، وليجهز على ما تبقى فيه من قيم الإسلام وشعائره.
وإنما كانت حمايته لحقوقهم تعني عصمة أنفسهم وأموالهم، وتحريم الاعتداء عليهم واضطهادهم وإيذائهم، وهو يمنحهم حق ممارسة شعائر دينهم في بيوتهم وأحيائهم بشرط ألا يؤذوا مشاعر المسلمين، أو ينالوا من الإسلام بسوء، فليس لأحد حقٌ أن يسخر بشعيرة من شعائر الإسلام، أو يسعى بنشر الكفر والبدع بين المسلمين.
لقد عاش أهل الذمة في بلاد المسلمين قروناً طويلةً يمارسون شعائر دينهم في بيوتهم وأحيائهم، فيشربون الخمر ويأكلون لحم الخنزير، ويفعلون غير ذلك مما يستحلونه في دينهم. ولكنهم ظلوا ممنوعين أن يجاهروا بذلك بين المسلمين، أو يدعو أحداً منهم إليه.
إن الوحدة الوطنية لوطن من أوطان المسلمين لهو جزءٌ من وحدة الأمة، وما لا يدرك كله لا يترك جُلّه. فالسعي في وحدة الوطن على النحو الذي لا يقوِّض الولاء والبراء ولا يحجِّمه ليس سعياً في هدم وحدة الأمة ولا يناقضها أو يناهضها، بل هو سعيٌ في تحقيق جزءٍ من وحدة الأُمة، فهو مندوبٌ إليه من هذا الوجه.
والرابطة بين أهله وأفراد شعبه لا شك أنها رابطة ممدوحة إذا كانت منضويةً تحت رابطة الدين، وكانت تعاوناً على البر والتقوى ونصرةً للحق وأهله ومناوأةً للباطل وأهله.
والمقصود أن الوحدة الوطنية ليست باطلةً بإطلاق ولا حقاً بإطلاق، بل فيها الحق الملتبس بالباطل، وفيها المعروف المختلط بالمنكر.
أما السؤال عن ابن البلد: هل هو أولى بالوظائف من الأجانب المنتمين إلى جنسيات أخرى؟ فلابد عند الجواب أن تؤخذ المسألة في ظل ملابساتها وظروفها الحالية، فإنه قد حُدّت الحدود السياسية بين الدول، وقننت القوانين في الإقامة والاستيطان، واستُحدِثت الجنسيات، وصارت هجرة الإنسان مقيدة بشروط وضوابط وأعراف.
ومن الإشقاق أن نقول لشخص لا يجد عملاً في بلده الذي يفد إليه العمّال من البلاد الأخرى ـ أن يخرج من بلده هذا إلى بلد أخرى لعله أن يجد فيه عملاً.
ومن المحزن حقاً أن توجد البطالة في بلدٍ يعد من أغنى البلاد الإسلامية، وأسباب الظاهرة كثيرة، لا يعنينا أن نُفيض فيها ونسهب في عدِّها وإحصائها، ولكن يعنينا أن من جملة هذه الأسباب هو إغراق البلد بالعمالة الوافدة الرخيصة، والتي لا تمانع أن تعمل بأبخس الأثمان، ولو براتبٍ زهيد لا ينهض بأعباء الحياة وتكاليف المعيشة، لأن العامل إنما جاء ليجمع لا ليقيم، ولأنه يقيس راتبه (الزهيد) بقوته الشرائية في بلده الأصلي، لا بقوته الشرائية في البلد الذي يعمل فيه.
ولا شك أن مساواة هذا العامل بابن البلد فيها مضارة به؛ لأن هذا الراتب الزهيد لا يفي بمتطلبات الحياة الضرورية والحاجية، فكيف سيحصل ابن البلد على عمل براتب يفي بمتطلبات الحياة الحاجية إذا كان التاجر يجد من يعمل لديه بأجرة أقل؟!
إن فتح المجال للوافد للعمل ليكون مساوياً للمواطن في الاستباق للفرص الوظيفية المتاحة قد يبدو مساواةً عند أول وهلة، غير أنه في حقيقة الأمر منافسة غير متكافئة بين الطرفين، والمستبق الغالب فيها هو بلا شك الوافد؛ لأنه سيقبل بالأجر الأقل الذي لا يفي بالتكاليف المعيشية لابن البلد.
إذاً المنافسة غير متكافئة الأطراف، والمتضرر منها بالتأكيد هو المواطن.
ويمكن أن يستأنس لكون المواطن أحق بوظائف بلده من الوافد بحديث معاذٍ رضي الله عنه لما بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فكان مما قال له:"فإن هم أجابوك لذلك ـ أي للصلاة ـ فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم" رواه البخاري (1395) ، ومسلم (19) فيمكن أن يُستفاد من هذا الحديث أن فقراء البلد هم أولى بزكوات أغنياء بلدهم من فقراء البلاد الأخرى.
قال ابن قدامة (المغني 2/283) : (روي عن عمر بن عبد العزيز أنه ردّ زكاة أتي بها من خراسان إلى الشام ، إلى خراسان. وروي عن الحسن والنخعي أنهما كرها نقل الزكاة من بلد إلى بلد ، إلا لذي قرابة. وكان أبو العالية يبعث بزكاته إلى المدينة. ولنا ، قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه: "أخبرهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم ، فترد في فقرائهم" (سبق تخريجه) . وهذا يختص بفقراء بلدهم. ولما بعث معاذ رضي الله عنه الصدقة من اليمن إلى عمر رضي الله عنه ، أنكر عليه ذلك عمر- رضي الله عنه، وقال: لم أبعثك جابياً ، ولا آخذ جزية ، ولكن بعثتك لتأخذ من أغنياء الناس فترد في فقرائهم. فقال معاذ رضي الله عنه: ما بعثت إليك بشيء وأنا أجد أحداً يأخذه مني" رواه أبو عبيد في الأموال.
وروي أيضا عن إبراهيم بن عطاء مولى عمران بن حصين رضي الله عنه، أن زياداً، أو بعض الأمراء ، بعث عمران رضي الله عنه على الصدقة ، فلما رجع قال: أين المال؟ قال: أللمال بعثتني؟ أخذناها من حيث كنا نأخذها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووضعناها حيث كنا نضعها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولأن المقصود إغناء الفقراء بها ، فإذا أبحنا نقلها أفضى إلى بقاء فقراء ذلك البلد محتاجين) أهـ.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.