الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لماذا يتوجه المسلمون إلى الكعبة في صلاتهم
؟
المجيب د. علي بن عمر با دحدح
عضو هيئة التدريس بجامعة الملك عبد العزيز بجدة
كتاب الصلاة/ شروط الصلاة/استقبال القبلة
التاريخ 5/1/1425هـ
السؤال
شيخنا الفاضل: حين أرى المسلمين يتوجهون في صلاتهم إلى الكعبة وحين أراهم يسجدون أمامها بإتجاهها - طبعاً - يخطر ببالي كأنهم يعبدون الكعبة أو الحجر الأسود ولو بصورة غير مباشرة، فما تقولون
الجواب
البداية في تحديد مفهوم العبادة؛ لأن العبادة تشتمل على معنى الخضوع والذل والانقياد والطاعة، فالعبد عندما يكون عابداً لشيء ما، ينبغي أن يخضع ويذل له، ويقف بين يديه ضعيفاً ذليلاً، لا يملك من أمره شيئاً، ثم يكون بعد ذلك طائعاً لهذا المعبود منقاداً له، فأمره مستجاب ونهيه كذلك، بمعنى أنه يفعل ما يأمره به، ويترك ما ينهاه عنه.
من خلال هذا المفهوم الموجز للعبادة نستطيع بسهولة أن ندرك أن المسلمين لا يعبدون الكعبة ولا الحجر الأسود، فهم لا يخضعون لها ولا يذلون، وإنما يقدرون ويحترمون، وهم لا يتلقون شيئاً من الأوامر أو النواهي من الكعبة والحجر الأسود؛ لأنهما لا يضران ولا ينفعان، ولا يصدر عنهما شيء يمكن أن يكون فيه توجيه أو إرشاد، ولذلك فالمسلمون لا يعبدون الحجر الأسود ولا الكعبة، بل إن اعتقادهم يدل على مخالفة ذلك ومناقضته وقد ورد في الحديث الصحيح:"أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يطوف بالبيت ويقبل الحجر الأسود ويخاطبه قائلاً: "إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك أبداً" البخاري (1097) ومسلم (1270) وهذا في حقيقته تفسير لذلك الفعل، فالتقبيل والتبجيل والتقدير لهذا الحجر إنما هو لتحقيق متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، والاعتقاد الجازم أنه (أي الحجر) لا يضر ولا ينفع، وأنه ليس له أدنى صورة ولا شبه ولا شيء من التعلق بالعبادة بحال من الأحوال.
وثمة أمر آخر وهو أن الإنسان بطبيعته وفطرته يحتاج إلى تمثيل المعاني في صور محسوسة، فعلى سبيل المثال عندما يحب المرء إنسانا فتلك مشاعر قلبية وحقائق معنوية، غالباً ما يسعى المرء بفطرته إلى التعبير عنها في صور مادية ليست مغرقة في المادية، لكنها تشير إلى الرمزية الدالة على هذه المعاني، فقد يكتب له رسالة يذكر له فيها بعض مشاعره، أو ينظم له قصيدة يثني عليه فيها، أو يهديه هدية ذات مغزى؛ قد لا تكون ثمينة في قيمتها لكنها جليلة في معناها ودلالتها.
وهكذا حال طبيعة الإنسان أن يجسد سائر المعاني والمشاعر في صورة حسية، والله -جل وعلا- عالم بالإنسان، ألم يقل:"ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير"[الملك:14] ، وقد جعل تعظيم العبد لله عز وجل وإعلانه لخضوعه له واستكانته لأمره؛ جعله سبحانه وتعالى في صورة محسوسة؛ لكي تكون دلالتها الرمزية تحقق معنى العبودية، وتشبع العاطفة والميل الإنساني إلى التعبير عن هذه المعاني في صور حسية، ومن عظمة ذلك ومزيته أن الله عز وجل جعله؛ وجعل هذه الرمزية في كمال لا يمكن أن يكون إلا في التشريع الرباني.
الكعبة والبيت الحرام وغيرها إنما هي معان وصور حسية رمزية لحقائق معنوية، فالعبادة والخضوع لله وتعظيم القلب لله، فالقلب ممتلئ بالخوف من الله والتوكل عليه وحسن الظن به والثقة به والإنابة إليه، ولكن ذلك يترجم في ذكر يذكر به الله، أو تلاوة تتلى لله، أو صورة يكون فيها ركوع وسجود لله، وجعلت الكعبة في العبادة -وبالذات في الصلاة- مركزا للتعظيم والتوقير والإجلال لا لذاتها وإنما لعبادة الله، وجعلت واحدة في مكان واحد؛ لتعطي أيضاً مع معنى التعبد معنى الدلالة على منهج الوحدانية لله عز وجل.
فلذلك وباختصار شديد ليست العبادة للكعبة، ولا للحجر الأسود، وإنما لله عز وجل، فكل الخضوع والذل وكل الاستجابة والطاعة لله سبحانه وتعالى، ومن رحمته وحكمته أن جعل بعض معاني هذه العبودية تتجلى في صور حسية، ليتوافق ذلك مع طبيعة وفطرة الإنسان في تعبيره، وتعلقه بالمعاني والأحاسيس والمشاعر كما ذكرنا في مثال الحب،
…
والله أعلم.