الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْوَصْفُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَا يَتَطَرَّقُهُ الْبَاطِلُ وَلَا يُخَالِطُهُ صَرِيحُهُ وَلَا ضِمْنِيُّهُ، أَيْ لَا يَشْتَمِلُ عَلَى الْبَاطِلِ بِحَالٍ. فَمُثِّلَ ذَلِكَ بِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ.
وَالْمَقْصُودُ اسْتِيعَابُ الْجِهَاتِ تَمْثِيلًا لِحَالِ انْتِفَاءِ الْبَاطِلِ عَنْهُ فِي ظَاهِرِهِ وَفِي تَأْوِيلِهِ بِحَالِ طَرْدِ الْمُهَاجِمِ لِيَضُرَّ بِشَخْصٍ يَأْتِيهِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ فَإِنْ صَدَّهُ خَاتَلَهُ فَأَتَاهُ مِنْ خَلْفِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ [الْأَعْرَاف: 17] .
فَمَعْنَى: لَا يَأْتِيهِ الْباطِلُ لَا يُوجَدُ فِيهِ وَلَا يُدَاخِلُهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يُدْعَى عَلَيْهِ الْبَاطِلُ.
الْوَصْفُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْحِكْمَةِ وَهِيَ الْمَعْرِفَةُ الْحَقِيقِيَّةُ لِأَنَّهُ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ، وَلَا يَصْدُرُ عَنِ الْحَكِيمِ إِلَّا الْحِكْمَةُ: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [الْبَقَرَة: 269] فَإِنَّ كَلَامَ الْحَكِيمِ يَأْتِي مُحْكَمًا مُتْقَنًا رَصِينًا لَا يَشُوبُهُ الْبَاطِلُ.
الْوَصْفُ السَّادِسُ: أَنَّهُ تَنْزِيلٌ مِنْ حَمِيدٍ، وَالْحَمِيدُ هُوَ الْمَحْمُودُ حَمْدًا كَثِيرًا، أَيْ
مُسْتَحِقٌّ الْحَمْدَ الْكَثِيرَ، فَالْكَلَامُ الْمُنَزَّلُ مِنْهُ يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ وَإِنَّمَا يُحْمَدُ الْكَلَامُ إِذْ يَكُونُ دَلِيلًا لِلْخَيْرَاتِ وَسَائِقًا إِلَيْهَا لَا مَطْعَنَ فِي لَفْظِهِ وَلَا فِي مَعْنَاهُ، فَيَحْمَدُهُ سَامِعُهُ كَثِيرًا لِأَنَّهُ يَجِدُهُ مَجْلَبَةً لِلْخَيْرِ الْكَثِيرِ، وَيُحْمَدُ قَائِلُهُ لَا مَحَالَةَ خِلَافًا لِلْمُشْرِكِينَ.
وَفِي إِجْرَاءِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ إِيمَاءٌ إِلَى حَمَاقَةِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِهَذَا الْقُرْآنِ وَسَفَاهَةِ آرَائِهِمْ إِذْ فَرَّطُوا فِيهِ فَفَرَّطُوا فِي أَسْبَابِ فَوْزِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلِذَلِكَ جِيءَ بِجُمْلَةِ الْحَالِ مِنَ الْكِتَابِ عَقِبَ ذِكْرِ تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ فَقَالَ: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ الْآيَاتِ.
[43]
[سُورَة فصلت (41) : آيَة 43]
مَا يُقالُ لَكَ إِلَاّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (43)
مَا يُقالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ.
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ جَوَابٌ لِسُؤَالٍ يُثِيرُهُ قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا [فصلت: 40]، وَقَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ [فصلت: 41] وَمَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنَ الْأَوْصَافِ فَيَقُولُ سَائِلٌ: فَمَا بَالُ هَؤُلَاءِ طَعَنُوا فِيهِ؟ فَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذِهِ سُنَّةُ الْأَنْبِيَاءِ
مَعَ أُمَمِهِمْ لَا يُعْدَمُونَ مُعَانِدِينَ جَاحِدِينَ يَكْفُرُونَ بِمَا جَاءُوا بِهِ. وَإِذَا بُنِيَتْ عَلَى مَا جَوَّزْتُهُ سَابِقًا أَنْ يَكُونَ جُمْلَةُ: مَا يُقالُ خبر إِنَّ [فصلت: 41] كَانَتْ خَبَرًا وَلَيْسَتِ اسْتِئْنَافًا.
وَهَذَا تَسْلِيَة للنبيء صلى الله عليه وسلم بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ وَأَمْرٌ لَهُ بِالصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ كَمَا صَبَرَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الرُّسُلِ بِطَرِيقِ التَّعْرِيضِ. وَلِهَذَا الْكَلَامِ تَفْسِيرَانِ:
أَحَدَهُمَا: أَنْ مَا يَقُولُهُ الْمُشْرِكُونَ فِي الْقُرْآن والنبيء صلى الله عليه وسلم هُوَ دَأْبُ أَمْثَالِهِمُ الْمُعَانِدِينَ من قبلهم فَمَا صدق مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ هُوَ مَقَالَاتُ الَّذِينَ كَذَّبُوهُمْ، أَيْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُ الْمُكَذِّبِينَ فَكَانَتْ مَقَالَاتُهُمْ مُتَمَاثِلَةً قَالَ تَعَالَى: أَتَواصَوْا بِهِ [الذاريات: 53] .
التَّفْسِيرُ الثَّانِي: مَا قُلْنَا لَكَ إِلَّا مَا قُلْنَاهُ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ، فَأَنْتَ لَمْ تَكُنْ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ فَيَكُونُ لِقَوْمِكَ بَعْضُ الْعُذْرِ فِي التَّكْذِيبِ وَلَكِنَّهُمْ كَذَّبُوا كَمَا كَذَّبَ الَّذِينَ من قبلهم، فَمَا صدق: مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ هُوَ الدِّينُ وَالْوَحْيُ فَيَكُونُ مِنْ طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى [الْأَعْلَى: 18] . وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ وَارِدٌ فِي الْقُرْآنِ فَيُحْمَلُ الْكَلَامُ عَلَى كِلَيْهِمَا.
وَفِي التَّعْبِير ب مَا الْمَوْصُولَةِ وَفِي حَذْفِ فَاعِلِ الْقَوْلَيْنِ فِي قَوْلِهِ: مَا يُقالُ
وَقَوْلِهِ: مَا قَدْ قِيلَ نَظْمٌ مَتِينٌ حَمَّلَ الْكَلَامَ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ، وَفِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ. وَالْمَعْنَى: إِلَّا مِثْلَ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ.
وَاجْتِلَابُ الْمُضَارِعِ فِي مَا يُقالُ لِإِفَادَةِ تَجَدُّدِ هَذَا الْقَوْلِ مِنْهُمْ وَعَدَمِ ارْعِوَائِهِمْ عَنْهُ مَعَ ظُهُورِ مَا شَأْنُهُ أَنْ يَصُدَّهُمْ عَنْ ذَلِكَ.
واقتران الْفِعْل ب قَدْ لِتَحْقِيقِ أَنَّهُ قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مثل مَا قَالَ الْمُشْركُونَ للرسول صلى الله عليه وسلم فَهُوَ تَأْكِيدٌ لِلَازِمِ الْخَبَرِ وَهُوَ لُزُومُ الصَّبْرِ عَلَى قَوْلِهِمْ. وَهُوَ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى حَالِ الْمَرْدُودِ عَلَيْهِمْ إِذْ حَسِبُوا أَنَّهُمْ جَابَهُوا الرَّسُولَ بِمَا لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِ غَيْرِهِمْ، وَهَذَا عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ [الذاريات: 52، 53] .