الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَأَخْبَرَ مُوسَى قَوْمَهُ بِأَنَّ رَبَّهُ حَافِظٌ لَهُ لِيَثِقُوا بِاللَّهِ كَمَا كَانَ مقَام النبيء لَا حِينَ كَانَ فِي أَوَّلِ الْبَعْثَةِ تَحْرُسُهُ أَصْحَابُهُ فِي اللَّيْلِ فَلَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الْحجر: 94، 95] الْآيَةَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِأَنْ يَتَخَلُّوا عَنْ حِرَاسَتِهِ.
وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِحَرْفِ (إِنَّ) مُتَوَجِّهٌ إِلَى لَازِمِ الْخَبَرِ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ ضَمِنَ لَهُ السَّلَامَةَ وَأَكَّدَ ذَلِكَ لِتَنْزِيلِ بَعْضِ قَوْمِهِ أَوْ جُلِّهِمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يَتَرَدَّدُ فِي ذَلِكَ لِمَا رَأَى مِنْ إِشْفَاقِهِمْ عَلَيْهِ.
وَالْعَوْذُ: الِالْتِجَاءُ إِلَى الْمَحَلِّ الَّذِي يَسْتَعْصِمُ بِهِ الْعَائِذُ فَيَدْفَعُ عَنْهُ مَنْ يَرُومُ ضُرَّهُ، يُقَالُ: عَاذَ بِالْجَبَلِ، وَعَاذَ بِالْجَيْشِ، وَقَالَ تَعَالَى: فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ [النَّحْل: 98] .
وَعَبَّرَ عَنِ الْجَلَالَةِ بِصِفَةِ الرَّبِّ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ لِأَنَّ فِي صِفَةِ الرَّبِّ إِيمَاءً إِلَى تَوْجِيهِ الْعَوْذِ بِهِ لِأَنَّ الْعَبْدَ يَعُوذُ بِمَوْلَاهُ. وَزِيَادَةُ وَصْفِهِ بِرَبِّ الْمُخَاطَبِينَ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ
عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَجْزَعُوا مِنْ مُنَاوَاةِ فِرْعَوْنَ لَهُمْ وَأَنَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعُوذُوا بِاللَّهِ مِنْ كُلِّ مَا يُفْظِعُهُمْ.
وَجُعِلَتْ صِفَةُ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ مُغْنِيَةً عَنْ صِفَةِ الْكُفْرِ أَوِ الْإِشْرَاكِ لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ الْإِشْرَاكَ وَزِيَادَةً، لِأَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ فِي الْمَرْءِ التَّجَبُّرُ وَالتَّكْذِيبُ بِالْجَزَاءِ قَلَّتْ مُبَالَاتُهُ بِعَوَاقِبِ أَعْمَالِهِ فَكَمُلَتْ فِيهِ أَسْبَابُ الْقَسْوَةِ وَالْجُرْأَةِ على النَّاس.
[28]
[سُورَة غَافِر (40) : آيَة 28]
وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28)
عَطْفُ قَوْلِ هَذَا الرَّجُلِ يَقْتَضِي أَنَّهُ قَالَ قَوْلَهُ هَذَا فِي غَيْرِ مَجْلِسِ شُورَى
فِرْعَوْنَ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَوْلُهُ جَارِيًا مَجْرَى الْمُحَاوَرَةِ مَعَ فِرْعَوْنَ فِي مَجْلِسِ اسْتِشَارَتِهِ، أَوْ كَانَ أَجَابَ بِهِ عَنْ قَوْلِ فِرْعَوْنَ: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى [غَافِر: 26] لَكَانَتْ حِكَايَةُ قَوْلِهِ بِدُونِ عَطْفٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَاتِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ اللَّهَ أَلْهَمَ هَذَا الرَّجُلَ بِأَنْ يَقُولَ مَقَالَتَهُ إِلْهَامًا كَانَ أَوَّلَ مَظْهَرٍ مِنْ تَحْقِيقِ اللَّهِ لِاسْتِعَاذَةِ مُوسَى بِاللَّهِ، فَلَمَّا شَاعَ تَوَعُّدُ فِرْعَوْنَ بِقَتْلِ مُوسَى عليه السلام جَاءَ هَذَا الرَّجُلُ إِلَى فِرْعَوْنَ نَاصِحًا وَلَمْ يَكُنْ يَتَّهِمُهُ فِرْعَوْنُ لِأَنَّهُ مِنْ آلِهِ.
وَخِطَابُهُ بِقَوْلِهِ: أَتَقْتُلُونَ مُوَجَّهٌ إِلَى فِرْعَوْنَ لِأَنَّ فِرْعَوْنَ هُوَ الَّذِي يُسْنَدُ إِلَيْهِ الْقَتْلُ لِأَنَّهُ الْآمِرُ بِهِ، وَلِحِكَايَةِ كَلَامِ فِرْعَوْنَ عَقِبَ كَلَامِ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ بِدُونِ عَطْفٍ بِالْوَاوِ فِي قَوْلِهِ: قالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرى [غَافِر: 29] .
وَوَصْفُهُ بِأَنَّهُ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ مِنَ الْقِبْطِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ خِلَافًا لِبَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَهُ: يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا [غَافِر: 29] فَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مُلْكٌ هُنَالِكَ.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ كَانَ مِنْ قَرَابَةِ فِرْعَوْنَ وَخَاصَّتِهِ لِمَا يَقْتَضِيهِ لَفْظُ آلِ مِنْ ذَلِكَ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا. وَالْمُرَادُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ بِاللَّهِ وَمُؤْمِنٌ بِصِدْقِ مُوسَى، وَمَا كَانَ إِيمَانُهُ هَذَا إِلَّا لِأَنَّهُ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا اهْتَدَى إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ إِمَّا بِالنَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ فصدّق مُوسَى عِنْد مَا سَمِعَ دَعْوَتَهُ كَمَا اهْتَدَى أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه إِلَى تَصْدِيقِ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم فِي حِينِ سَمَاعِ دَعْوَتِهِ فَقَالَ لَهُ:«صَدَقْتَ» . وَكَانَ كَتْمُهُ الْإِيمَانَ مُتَجَدِّدًا مُسْتَمِرًّا تَقِيَّةً مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِذْ عَلِمَ أَنَّ إِظْهَارَهُ الْإِيمَانَ يَضُرُّهُ وَلَا يَنْفَعُ غَيْرَهُ كَمَا كَانَ (سُقْرَاطُ) يَكْتُمُ إِيمَانَهُ بِاللَّهِ فِي بِلَادِ الْيُونَانِ خَشْيَةَ أَنْ يَقْتُلُوهُ انْتِصَارًا لِآلِهَتِهِمْ.
وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا إِلَى آخِرِهِ أَنْ يَسْعَى لِحِفْظِ مُوسَى مِنَ الْقَتْلِ بِفَتْحِ بَابِ الْمُجَادَلَةِ فِي شَأْنِهِ لِتَشْكِيكِ فِرْعَوْنَ فِي تَكْذِيبِهِ بِمُوسَى، وَهَذَا الرَّجُلُ هُوَ غَيْرُ
الرَّجُلِ الْمَذْكُورِ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ [20] فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى فَإِنَّ تِلْكَ الْقِصَّةَ كَانَتْ قُبَيْلَ خُرُوجِ مُوسَى مِنْ مِصْرَ، وَهَذِهِ الْقِصَّةُ فِي مَبْدَأِ دُخُولِهِ مِصْرَ. وَلَمْ يُوصَفْ هُنَالِكَ بِأَنَّهُ مُؤْمِنٌ وَلَا بِأَنَّهُ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ بَلْ كَانَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمَا هُوَ صَرِيحُ سِفْرِ الْخُرُوجِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الرَّجُلَ الْمَذْكُورَ هُنَا كَانَ رَجُلًا صَالِحًا نَظَّارًا فِي أَدِلَّةِ التَّوْحِيدِ وَلَمْ يَسْتَقِرَّ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ عَلَى وَجْهِهِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ سَمِعَ دَعْوَةَ مُوسَى، وَإِنَّ اللَّهَ يُقَيِّضُ لِعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ حُمَاةً عِنْدَ الشَّدَائِدِ.
قِيلَ اسْمُ هَذَا الرَّجُلِ حَبِيبٌ النَّجَّارُ وَقِيلَ سَمْعَانُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ (يس) أَنَّ حَبِيبًا النَّجَّارَ مِنْ رُسُلِ عِيسَى عليه السلام. وَقِصَّةُ هَذَا الرَّجُلِ الْمُؤْمِنِ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ فِي «التَّوْرَاةِ» بِالصَّرِيحِ وَلَكِنَّهَا مَذْكُورَةٌ إِجْمَالًا فِي الْفِقْرَةِ السَّابِعَةِ مِنَ الْإِصْحَاحِ الْعَاشِرِ «فَقَالَ عَبِيدُ فِرْعَوْنَ إِلَى مَتَى يَكُونُ لَنَا هَذَا (أَيْ مُوسَى) فَخًّا أَطْلِقِ الرِّجَالَ لِيَعْبُدُوا الرَّبَّ إِلَهَهُمْ» .
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَتَقْتُلُونَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ، أَيْ يَقْبُحُ بِكُمْ أَنْ تَقْتُلُوا نَفْسًا لِأَنَّهُ يَقُولُ رَبِّيَ اللَّهُ، أَيْ وَلَمْ يَجْبِرْكُمْ عَلَى أَنْ تُؤْمِنُوا بِهِ وَلَكِنَّهُ قَالَ لَكُمْ قَوْلًا فَاقْبَلُوهُ أَوِ ارْفُضُوهُ، فَهَذَا مَحْمَلُ قَوْلِهِ: أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَهُوَ الَّذِي يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ كَوْنِ هَذَا الرَّجُلِ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ.
وأَنْ يَقُولَ. مَجْرُورٌ بِلَامِ التَّعْلِيلِ الْمُقَدَّرَةِ لِأَنَّهَا تُحْذَفُ مَعَ (أَنْ) كَثِيرًا. وَذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ لِأَنَّهُ الَّذِي ذَكَرَهُ مُوسَى وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَسْمَاءِ آلِهَةِ الْقِبْطِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ فَهُوَ ارْتِقَاءٌ فِي الْحِجَاجِ بَعْدَ أَنِ اسْتَأْنَسَ فِي خِطَابِ قَوْمِهِ بِالْكَلَامِ الْمُوَجَّهِ فَارْتَقَى إِلَى التَّصْرِيحِ بِتَصْدِيقِ مُوسَى بِعِلَّةِ أَنَّهُ جَاءَ بِالْبَيِّنَاتِ، أَيِ الْحُجَجِ الْوَاضِحَةِ بِصِدْقِهِ، وَإِلَى التَّصْرِيحِ بِأَنَّ الَّذِي سَمَّاهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ هُوَ رَبُّ الْمُخَاطَبِينَ فَقَالَ: مِنْ رَبِّكُمْ. فَجُمْلَةُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ قَوْلِهِ: رَجُلًا وَالْبَاءُ فِي بِالْبَيِّناتِ لِلْمُصَاحَبَةِ.
وَقَوْلُهُ: وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ رُجُوعٌ إِلَى ضَرْبٍ مِنْ إِيهَامِ الشَّكِّ فِي صِدْقِ مُوسَى لِيَكُونَ كَلَامُهُ مُشْتَمِلًا عَلَى احْتِمَالَيْ تَصْدِيقٍ وَتَكْذِيبٍ يَتَدَاوَلُهُمَا فِي كَلَامِهِ فَلَا يُؤْخَذُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُصَدِّقٌ لِمُوسَى بَلْ يُخَيِّلُ إِلَيْهِمْ أَنَّهُ فِي حَالَةِ نَظَرٍ وَتَأَمُّلٍ لِيَسُوقَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ إِلَى أَدِلَّةِ صِدْقِ مُوسَى بِوَجْهٍ لَا يُثِيرُ نُفُورَهُمْ، فَالْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ فَتَكُونُ حَالًا.
وَقَدَّمَ احْتِمَالَ كَذِبِهِ عَلَى احْتِمَالِ صِدْقِهِ زِيَادَةً فِي التَّبَاعُدِ عَنْ ظَنِّهِمْ بِهِ الِانْتِصَارَ لِمُوسَى فَأَرَادَ أَنْ يُظْهِرَ فِي مَظْهَرِ الْمُهْتَمِّ بِأَمْرِ قَوْمِهِ ابْتِدَاءً.
وَمَعْنَى: وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ اسْتِنْزَالُهُمْ لِلنَّظَرِ، أَيْ فَعَلَيْكُمْ بِالنَّظَرِ فِي آيَاتِهِ وَلَا تَعْجَلُوا بِقَتْلِهِ وَلَا بِاتِّبَاعِهِ فَإِنْ تَبَيَّنَ لَكُمْ كَذِبُهُ فِيمَا تَحَدَّاكُمْ بِهِ وَمَا أَنْذَرَكُمْ بِهِ مِنْ مَصَائِبَ فَلَمْ يَقَعْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّكُمْ ذَلِكَ شَيْئًا وَعَادَ كَذِبُهُ عَلَيْهِ بِأَنْ يُوسَمَ بِالْكَاذِبِ، وَإِنْ تَبَيَّنَ لَكُمْ صِدْقُهُ يُصِبْكُمْ بَعْضُ مَا تَوَعَّدَكُمْ بِهِ، أَيْ تُصِبْكُمْ بَوَارِقُهُ فَتَعْلَمُوا صِدْقَهُ فَتَتَّبِعُوهُ، وَهَذَا وَجْهُ التَّعْبِيرِ بِ بَعْضُ دُونَ أَنْ يَقُولَ: يُصِبْكُمُ الَّذِي يَعِدُكُمْ بِهِ. وَالْمُرَادُ بِالْوَعْدِ هُنَا الْوَعْدُ بِالسُّوءِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْوَعِيدِ. أَيْ فَإِنِ اسْتَمْرَرْتُمْ عَلَى الْعِنَادِ يُصِبْكُمْ جَمِيعُ مَا تَوَعَّدَكُمْ بِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.
وَقَدْ شَابَهَ مَقَامُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ مَقَامَ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ إِذْ آمَنَ بِالنَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم حِينَ سَمِعَ دَعْوَتَهُ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ آلِهِ، وَيَوْمَ جَاءَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ إِلَى النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم (وَالنَّبِيءُ صلى الله عليه وسلم بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ) يَخْنُقُهُ بِثَوْبِهِ فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ بِمَنْكِبِ عَقَبِةِ وَدَفَعَهُ وَقَالَ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: «وَاللَّهِ لَيَوْمُ أَبِي بَكْرٍ خَيْرٌ مِنْ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ، إِنَّ مُؤْمِنَ آلِ فِرْعَوْنَ رَجُلٌ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يُظْهِرُ إِيمَانَهُ وَبَذَلَ مَالَهُ وَدَمَهُ»
. وَأَقُولُ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ أَقْوَى يَقِينًا مِنْ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ لِأَنَّ مُؤْمِنَ آلِ فِرْعَوْنَ كَتَمَ إِيمَانَهُ وَأَبُو بَكْرٍ أَظْهَرَ إِيمَانَهُ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ يَجُوزُ أَنَّهَا مِنْ قَوْلِ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ، فَالْمَقْصُودُ مِنْهَا تَعْلِيلُ قَوْلِهِ: وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ أَيْ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُقِرُّهُ عَلَى كَذِبِهِ فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا عَلَى