الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَيَجْرِي تَوْجِيهُ الِاسْتِفْهَامِ هُنَا عَلَى نَحْوِ مَا جَرَى مِنْ تَوْجِيهِ الْخِطَابِ هُنَاكَ.
وَالْأَخْذُ هُنَا: الْغَلَبُ. وَالِاسْتِفْهَامُ بِ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ مِنْ حَالَةِ الْعِقَابِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِالِاسْتِفْهَامِ قَدْ شَاهَدَ ذَلِكَ الْأَخْذَ وَالْعِقَابَ وَإِنَّمَا بُنِيَ ذَلِكَ عَلَى مُشَاهَدَةِ آثَارِ ذَلِكَ الْأَخْذِ فِي مُرُورِ الْكَثِيرِ عَلَى دِيَارِهِمْ فِي الْأَسْفَارِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ [الْحجر: 76] وَنَحْوُهُ، وَفِي سَمَاعِ الْأَخْبَارِ عَنْ نُزُولِ الْعِقَابِ بِهِمْ وَتَوْصِيفِهِمْ، فَنَزَّلَ جَمِيعَ الْمُخَاطَبِينَ مَنْزِلَةَ مَنْ شَاهَدَ نُزُولَ الْعَذَابِ بِهِمْ، فَفِي هَذَا الِاسْتِفْهَامِ تَحْقِيقٌ وَتَثْبِيتٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ فَأَخَذْتُهُمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي هَذَا الِاسْتِفْهَامِ مَعْنَى التَّقْرِيرِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بِقَوْلِهِ:
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ إِلَى قَوْلِهِ: فَأَخَذْتُهُمْ التَّعْرِيضُ بِتَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ
بِتَنْبِيهِهِمْ عَلَى مَا حَلَّ بِالْأُمَمِ قَبْلَهُمْ لِأَنَّهُمْ أَمْثَالُهُمْ فِي الْإِشْرَاكِ وَالتَّكْذِيبِ فَلِذَلِكَ يَكُونُ الِاسْتِفْهَامُ عَمَّا حَلَّ بِنُظَرَائِهِمْ تَقْرِيرِيًّا لَهُمْ بِذَلِكَ.
وَحُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ عِقابِ تَخْفِيفًا مَعَ دَلَالَةِ الكسرة عَلَيْهَا.
[6]
[سُورَة غَافِر (40) : آيَة 6]
وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (6)
الْوَاوُ عَاطِفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ [غَافِر: 5]، أَيْ وَمِثْلُ ذَلِكَ الْحَقِّ حَقَّتْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ فَالْمُشَارُ إِلَيْهِ الْمَصْدَرُ الْمَأْخُوذُ مِنْ قَوْلِهِ: حَقَّتْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ عَلَى نَحْوِ مَا قُرِّرَ غَيْرَ مَرَّةٍ، أُولَاهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [143] ، وَهُوَ يُفِيدُ أَنَّ الْمُشَبَّهَ بَلَغَ الْغَايَةَ فِي وَجْهِ الشَّبَهِ حَتَّى لَوْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يُشَبِّهَهُ لَمْ يُشَبِّهْهُ إِلَّا بِنَفْسِهِ.
وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ الْأَخْذَ الْمَأْخُوذَ مِنْ قَوْله: فَأَخَذْتُهُمْ [غَافِر: 5] ، أَيْ وَمِثْلُ ذَلِكَ الْأَخْذِ الَّذِي أَخَذَ اللَّهُ بِهِ قَوْمَ نُوحٍ وَالْأَحْزَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ حَقَّتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، فَعُلِمَ مِنْ تَشْبِيهِ تَحَقُّقِ كَلِمَاتِ اللَّهِ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا بِذَلِكَ
الْأَخْذِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْأَخْذَ كَانَ تَحْقِيقًا لِكَلِمَاتِ اللَّهِ، أَيْ تَصْدِيقًا لِمَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ مِنَ الْوَعِيدِ، فَالْمُرَادُ بِ الَّذِينَ كَفَرُوا جَمِيعُ الْكَافِرِينَ، فَالْكَلَامُ تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ فَهُوَ تَذْيِيلٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَحْزَابِ الْأُمَمُ الْمَعْهُودَةُ الَّتِي ذُكِرَتْ قِصَصُهَا فَيَكُونُ الَّذِينَ كَفَرُوا أَعَمَّ. وَبِذَلِكَ يَكُونُ التَّشْبِيهُ فِي قَوْلِهِ:
وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ جَارِيًا عَلَى أَصْلِ التَّشْبِيهِ مِنَ الْمُغَايَرَةِ بَيْنَ الْمُشَبَّهِ وَالْمُشَبَّهِ بِهِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [الْبَقَرَة: 143] وَنَظَائِرِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِ الَّذِينَ كَفَرُوا عَيْنَ الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ آنِفًا: مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا [غَافِر: 4] أَيْ مِثْلَ أَخْذِ قَوْمِ نُوحٍ وَالْأَحْزَابِ حَقَّتْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ عَلَى كُفَّارِ قَوْمِكَ، أَيْ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَاتُ الْوَعِيدِ إِذَا لَمْ يُقْلِعُوا عَنْ كُفْرِهِمْ.
وَ (كَلِمَاتُ اللَّهِ) هِيَ أَقْوَالُهُ الَّتِي أَوْحَى بِهَا إِلَى الرُّسُلِ بِوَعِيدِ الْمُكَذِّبِينَ، وعَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا يَتَعَلَّقُ بِ حَقَّتْ.
وَقَوْلُهُ: أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلا من كَلِمَةُ رَبِّكَ بَدَلًا مُطَابِقًا فَيَكُونُ ضمير أَنَّهُمْ عَائِد إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، أَيْ حَقَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَكُونُوا أَصْحَابَ النَّارِ، وَفِي هَذَا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ غَيْرُ مُعَاقِبِ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ بِالِاسْتِئْصَالِ لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْهُمْ ذُرِّيَّةً مُؤْمِنِينَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى تَقْدِيرِ لَامِ التَّعْلِيلِ مَحْذُوفَةً عَلَى طَرِيقَةِ كَثْرَةِ حَذْفِهَا قَبْلَ (أَنْ) .
وَالْمَعْنَى: لِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ، فَيَكُونُ ضَمِيرُ أَنَّهُمْ عَائِدًا إِلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ قَبْلَهُ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ وَالْأَحْزَابِ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ كَلِمَةُ رَبِّكَ بِالْإِفْرَادِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَالْإِفْرَادُ هُنَا مُسَاوٍ لِلْجَمْعِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْجِنْسُ بِقَرِينَةِ أَنَّ الضَّمِيرَ الْمَجْرُورَ بِ (عَلَى) تَعَلَّقَ بِفِعْلِ حَقَّتْ وَهُوَ ضَمِيرُ جَمْعٍ فَلَا جَرَمَ أَنْ تَكُونَ الْكَلِمَةُ جِنْسًا صَادِقًا بِالْمُتَعَدِّدِ بِحَسَبِ تَعَدُّدِ أَزْمَانِ كَلِمَاتِ الْوَعِيدِ وَتَعَدُّدِ الْأُمَم المتوعّدة.