الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وُوَجْهُ الِامْتِنَانِ بِالْفُلْكِ أَنَّهُ امْتِنَانٌ بِمَا رَكَّبَ اللَّهُ فِي الْإِنْسَانِ مِنَ التَّدْبِيرِ وَالذَّكَاءِ الَّذِي تَوَصَّلَ بِهِ إِلَى الْمُخْتَرَعَاتِ النَّافِعَةِ بِحَسْبِ مُخْتَلَفِ الْعُصُورِ وَالْأَجْيَالِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [164] عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ الْآيَات، وَبَيَّنَّا هُنَالِكَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَرْكَبُونَ الْبَحْرَ الْأَحْمَرَ فِي التِّجَارَةِ وَيَرْكَبُونَ الْأَنْهَارَ أَيْضًا قَالَ
النَّابِغَةُ يَصِفُ الْفُرَاتَ:
يَظَلُّ مِنْ خَوْفِهِ الْمَلَّاحُ مُعْتَصِمًا
…
بِالْخَيْزُرَانَةِ بَعْدَ الْأَيْنِ وَالنَّجَدِ
وَالْجَمْعُ بَيْنَ السَّفَرِ بِالْإِبِلِ وَالسِّفْرِ بِالْفُلْكِ جَمْعٌ لَطِيفٌ، فَإِنَّ الْإِبِلَ سَفَائِنُ الْبَرِّ، وَقَدِيمًا سَمَّوْهَا بِذَلِكَ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَإِنَّمَا قَالَ: وَعَلَى الْفُلْكِ وَلَمْ يَقُلْ: وَفِي الْفُلْكِ، كَمَا قَالَ: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ [العنكبوت: 65] لمزاوجة وَالْمُشَاكَلَةِ مَعَ وَعَلَيْها، وَإِنَّمَا أُعِيدَ حِرَفُ (عَلَى) فِي الْفُلْكِ لِأَنَّهَا هِيَ الْمَقْصُودَةُ بِالذِّكْرِ وَكَانَ ذِكْرُ وَعَلَيْها كَالتَّوْطِئَةِ لَهَا فَجَاءَتْ عَلَى مِثَالِهَا.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورَاتِ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَقَوْلِهِ: وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ لرعاية على الْفَاصِلَةِ مَعَ الِاهْتِمَامِ بِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ فِي السِّيَاقِ. وَتَقْدِيمُ لَكُمْ عَلَى الْأَنْعامَ مَعَ أَنَّ الْمَفْعُولَ أَشَدُّ اتِّصَالًا بِفِعْلِهِ مِنَ الْمَجْرُورِ لِقَصْدِ الِاهْتِمَامِ بِالْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ.
وَأَمَّا تَقْدِيمُ الْمَجْرُورَيْنِ فِي قَوْلِهِ: وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ فَلِلِاهْتِمَامِ بِالْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ.
وَالْمُنْعِمِ بِهَا لِأَنَّهُ الْغَرَضُ الْأَوَّلُ مِنْ قَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ.
[81]
[سُورَة غَافِر (40) : آيَة 81]
وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81)
عَطَفَ عَلَى جُمْلَةِ لَكُمُ الْأَنْعامَ [غَافِر: 79] أَيِ اللَّهُ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ. وَهَذَا انْتِقَالٌ مِنْ مُتَعَدَّدِ الِامْتِنَانِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ [غَافِر: 61]، اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً [غَافِر: 64] ، هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ [غَافِر: 67] ، اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ [غَافِر: 79] ، فَإِنَّ تِلْكَ ذُكِرَتْ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ تَذْكِيرًا
بِالشُّكْرِ، فَنَبَّهَ هُنَا عَلَى أَنَّ فِي تِلْكَ الْمِنَنِ آيَاتٍ دَالَّةً عَلَى مَا يَجِبُ لِلَّهِ مِنَ الْوَحْدَانِيَّةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ.
وَلِذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ: يُرِيكُمْ آياتِهِ
مُفِيدًا مُفَادَ التَّذْيِيلِ لِمَا فِي قَوْله: اتِهِ
مِنَ الْعُمُومِ لِأَنَّ الْجَمْعَ الْمُعَرَّفَ بِالْإِضَافَةِ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، أَيْ يُرِيكُمْ آيَاتِهِ فِي النِّعَمِ الْمَذْكُورَاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ كُلِّ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ تَوْحِيدِهِ وَتَصْدِيقِ رُسُلِهِ وَنَبْذِ الْمُكَابَرَةِ فِيمَا يَأْتُونَهُمْ بِهِ مِنْ آيَاتِ صِدْقِهِمْ.
وَقَدْ جِيءَ فِي جَانِبِ إِرَاءَةِ الْآيَاتِ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى التَّجَدُّدِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ كُلَّمَا انْتَفَعَ بِشَيْءٍ مِنَ النِّعَمِ عَلِمَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ دَلَالَةٍ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ خَالِقِهَا وَقُدْرَتِهِ
وَحِكْمَتِهِ. وَالْإِرَاءَةُ هُنَا بَصَرِيَّةٌ، عُبِّرَ بِهَا عَنِ الْعِلْمِ بِصِفَاتِ اللَّهِ إِذْ كَانَ طَرِيقُ ذَلِكَ الْعِلْمِ هُوَ مُشَاهَدَةُ تِلْكَ الْأَحْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ فَمِنْ تِلْكَ الْمُشَاهَدَةِ يَنْتَقِلُ الْعَقْلُ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ دَلَالَةَ وُجُودِ الْخَالِقِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ بُرْهَانِيَّةٌ تَنْتَهِي إِلَى الْيَقِينِ وَالضَّرُورَةِ.
وَإِضَافَةُ الْآيَاتِ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ لِزِيَادَةِ التَّنْوِيهِ بِهَا، وَالْإِرْشَادِ إِلَى إِجَادَةِ النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ فِي دَلَائِلِهَا، وَأَمَّا كَوْنُهَا جَائِيَةً مِنْ لَدُنِ اللَّهِ وَكَوْنُ إِضَافَتِهَا مِنَ الْإِضَافَةِ إِلَى مَا هُوَ فِي مَعْنَى الْفَاعِلِ، فَذَلِكَ أَمْرٌ مُسْتَفَادٌ مِنْ إِسْنَاد فعل رِيكُمْ
إِلَى ضَمِيرِهِ تَعَالَى. وَفُرِّعَ عَلَى إِرَاءَةِ الْآيَاتِ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ عَلَيْهِمْ مِنْ أَجْلِ إِنْكَارِهِمْ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الْآيَات.
و (أيّ) اسْمُ اسْتِفْهَامٍ يُطْلَبُ بِهِ تَمْيِيزُ شَيْءٍ عَنْ مُشَارِكِهِ فِيمَا يُضَافُ إِلَيْهِ (أَيٌّ) ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي إِنْكَارِ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ يُمْكِنُ أَنْ يُنْكَرَ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْآيَاتِ فَيُفِيدُ أَنَّ جَمِيعَ الْآيَاتِ صَالِحٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ لَا مَسَاغَ لِادِّعَاءِ خَفَائِهِ وَأَنَّهُمْ لَا عُذْرَ لَهُمْ فِي عَدَمِ الِاسْتِفَادَةِ مِنْ إِحْدَى الْآيَاتِ.