الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يُؤْتَ بِلَامِ الِابْتِدَاءِ فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ طه [15] إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لِأَنَّ الْخِطَابَ لِمُوسَى عليه السلام.
وَجِيءَ بِاسْمِ الْفَاعِلِ فِي آتِيَةٌ الَّذِي هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْحَالِ، لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّهَا لَمَّا تَحَقَّقَتْ فَقَدْ صَارَتْ كَالشَّيْءِ الْحَاضِرِ الْمُشَاهَدِ. وَالْمُرَادُ تَحْقِيقُ وُقُوعِهَا لَا الْإِخْبَارُ عَنْ وُقُوعِهَا.
وَجُمْلَةُ لَا رَيْبَ فِيها مُؤَكِّدَةٌ لِجُمْلَةِ إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ، وَنَفْيُ الرَّيْبِ عَنْ نَفْسِ السَّاعَةِ، وَالْمُرَادُ نَفْيُهُ عَنْ إِتْيَانِهَا لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: آتِيَةٌ عَلَى ذَلِكَ.
وَمَعْنَى نَفْيِ الرَّيْبِ فِي وُقُوعِهَا: أَنَّ دَلَائِلَهَا وَاضِحَةٌ بِحَيْثُ لَا يُعْتَدُّ بِرَيْبِ الْمُرْتَابِينَ فِيهَا لِأَنَّهُمُ ارْتَابُوا فِيهَا لِعَدَمِ الرَّوِيَّةِ وَالتَّفَكُّرِ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ [الْبَقَرَة: 2] .
فَمَوْقِعُ الِاسْتِدْرَاكِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ هُوَ مَا يُثِيرُهُ نَفْيُ الرَّيْبِ عَنْ وُقُوعِهَا مِنْ أَنْ يَتَسَاءَلَ مُتَسَائِلٌ كَيْفَ يَنْفِي الرَّيْبَ عَنْهَا وَالرَّيْبُ حَاصِلٌ لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، فَكَانَ الِاسْتِدْرَاكُ بِقَوْلِهِ: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ جَوَابًا لِذَلِكَ السُّؤَالِ.
وَالْمَعْنَى: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يَمُرُّونَ بِالْأَدِلَّةِ وَالْآيَاتِ وَهُمْ مُعْرِضُونَ عَنْ دَلَالَتِهَا فَيَبْقَوْنَ غَيْرَ مُؤْمِنِينَ بِمَدْلُولَاتِهَا وَلَوْ تَأَمَّلُوا وَاسْتَنْبَطُوا بِعُقُولِهِمْ لَظَهَرَ لَهُمْ مِنَ الْأَدِلَّةِ مَا يُؤْمِنُونَ بَعْدَهُ، فَلِذَلِكَ نُفِيَ عَنْهُمْ هُنَا وَصْفُ الْإِيمَانِ.
وَهَذَا الِاسْتِدْرَاكُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، وَلَوْلَا أَنَّ (لَكِنَّ) يَكْثُرُ أَنْ تَقَعَ بَعْدَ وَاوِ الْعَطْفِ لَكَانَتِ الْجُمْلَةُ جَدِيرَةً بِالْفَصْلِ دُونَ عَطْفٍ، فَهَذَا الْعَطْفُ تَحْلِيَةٌ لَفْظِيَّةٌ.
وأَكْثَرَ النَّاسِ هُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَهُمْ يَوْمَئِذٍ أَكْثَرُ مِنَ الْمُؤمنِينَ جدا.
[60]
[سُورَة غَافِر (40) : آيَة 60]
وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (60)
لَمَّا كَانَتِ الْمُجَادَلَةُ فِي آيَاتِ اللَّهِ تَشْمَلُ مُجَادَلَتَهُمْ فِي وَحْدَانِيَّةِ الْإِلَهِيَّةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ
قَوْلُهُ الْآتِي، ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ
نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً
[غَافِر: 73، 74] ، فَجَعَلَ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا نَقِيضَ مَا قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ، وَتَشْمَلُ الْمُجَادَلَةُ فِي وُقُوعِ الْبَعْثِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَ هَذِهِ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ إِلَى قَوْلِهِ: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ [غَافِر: 69- 71] الْآيَةَ، أَعْقَبَ ذِكْرَ الْمُجَادَلَةِ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غَافِر: 57] وَذَلِكَ اسْتِدْلَالٌ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ الْآيَةَ تَحْذِيرًا مِنَ الْإِشْرَاكِ بِهِ، وَأَيْضًا لَمَّا ذُكِرَ أَمْرُ اللَّهِ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم بِدُعَاءِ اللَّهِ وَحْدَهُ أَمْرًا مُفَرَّعًا عَلَى تَوْبِيخِ الْمُشْرِكِينَ بِقَوْلِهِ:
ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ [غَافِر: 12] وَعَلَى قَوْلِهِ عَقِبَ ذَلِكَ: وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ [غَافِر: 13] وَانْتَقَلَ الْكَلَامُ إِثْرَ ذَلِكَ إِلَى الأهمّ وَهُوَ الْأَمر بإنذار الْمُشْركين بقوله: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ [غَافِر: 18] إِلَخْ، وَتَتَابَعَتِ الْأَغْرَاضُ حَتَّى اسْتَوْفَتْ مُقْتَضَاهَا، عَادَ الْكَلَامُ الْآنَ إِلَى مَا يَشْمَلُ عِبَادَةَ الْمُؤْمِنِينَ الْخَالِصَةَ لِلَّهِ تَعَالَى وَهُوَ أَيْضًا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ [غَافِر: 50] . فَلَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الدُّعَاءِ بِمَعْنَيَيْهِ: مَعْنَى الْعِبَادَةِ، وَمَعْنَى سُؤَالِ الْمَطْلُوبِ، أَرْدَفَ بِهَذَا الْأَمْرِ الْجَامِعِ لِكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ.
وَالْقَوْلُ الْمُخْبَرُ عَنْهُ بِفِعْلِ: قالَ رَبُّكُمُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ كَلَامُ اللَّهِ النَّفْسِيُّ، أَيْ مَا تَعَلَّقَتْ إِرَادَةُ اللَّهِ تَعَلُّقًا صَلَاحِيًّا، بِأَنْ يَقُولَهُ عِنْدَ إِرَادَةِ تَكْوِينِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ الْقَوْلُ اللَّفْظِيُّ وَيَكُونَ التَّعْبِيرُ بِ (قَالَ) الْمَاضِي إِخْبَارًا عَنْ أَقْوَالٍ مَضَتْ فِي آيَاتٍ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [غَافِر: 14] بِخِلَافِ قَوْلِهِ: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ [الْبَقَرَة: 186] فَإِنَّهُ نَزَلَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَاضِي مُسْتَعْمَلًا فِي الْحَالِ مَجَازًا، أَيْ يَقُولُ رَبُّكُمُ: ادْعُونِي.
وَالدُّعَاءُ يُطْلَقُ بِمَعْنَى النِّدَاءِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلِاعْتِرَافِ بِالْمُنَادَى، وَيُطْلَقُ عَلَى الطَّلَبِ وَقَدْ جَاءَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم مَا فِيهِ صَلَاحِيَةُ مَعْنَى الدُّعَاءِ الَّذِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا يُلَائِمُ الْمَعْنَيَيْنِ
فِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيءَ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ» ثُمَّ قَرَأَ وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ
. وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، فَإِنَّ
قَوْلَهُ: «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ»
يَقْتَضِي اتِّحَادَ الْحَقِيقَتَيْنِ
فَإِذَا كَانَ الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةَ كَانَتِ الْعِبَادَةُ هِيَ الدُّعَاءَ لَا مَحَالَةَ.
فَالدُّعَاءُ يُطْلَقُ عَلَى سُؤَالِ الْعَبْدِ مِنَ اللَّهِ حَاجته وَهُوَ ظَاهر مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ، وَيُطْلَقُ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ عَلَى طَرِيقِ الْكِنَايَةِ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَخْلُو مِنْ دُعَاءِ الْمَعْبُودِ بِنِدَاءِ تَعْظِيمِهِ وَالتَّضَرُّعِ إِلَيْهِ،
وَهَذَا إِطْلَاقٌ أَقَلُّ شُيُوعًا مِنَ الْأَوَّلِ، وَيُرَادُ بِالْعِبَادَةِ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ إِفْرَادُ اللَّهِ بِالْعِبَادَةِ، أَيِ الِاعْتِرَافُ بِوَحْدَانِيَّتِهِ.
وَالِاسْتِجَابَةُ تُطْلَقُ عَلَى إِعْطَاءِ الْمَسْئُولِ لِمَنْ سَأَلَهُ وَهُوَ أَشْهَرُ إِطْلَاقِهَا وَتُطْلَقُ عَلَى أَثَرِ قَبُولِ الْعِبَادَةِ بِمَغْفِرَةِ الشِّرْكِ السَّابِقِ وَبِحُصُولِ الثَّوَابِ عَلَى أَعْمَالِ الْإِيمَانِ فَإِفَادَةُ الْآيَةِ عَلَى مَعْنَى طَلَبِ الْحَاجَةِ مِنَ اللَّهِ يُنَاسِبُ تَرَتُّبَ الِاسْتِجَابَةِ عَلَى ذَلِكَ الطَّلَبِ مُعَلَّقًا عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ أَوْ عَلَى اسْتِيفَاءِ شُرُوطِ قَبُولِ الطَّلَبِ، وَإِعْطَاءِ خَيْرٍ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا، أَوْ إِعْطَاءِ عِوَضٍ مِنْهُ فِي الْآخِرَةِ. وَإِفَادَتِهَا عَلَى مَعْنَى إِفْرَادِ اللَّهِ بِالْعِبَادَةِ، أَيْ بِأَنْ يَتُوبُوا عَنِ الشِّرْكِ، فَتَرَتُّبُ الِاسْتِجَابَةِ هُوَ قَبُولُ ذَلِكَ، فَإِنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ مِنَ الشِّرْكِ مَقْطُوعٌ بِهِ.
فَلَمَّا جَمَعَتِ الْآيَةُ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ عَلَى تَفَاوُتٍ بَيْنَ شُيُوعِ الْإِطْلَاقِ فِي كِلَيْهِمَا عَلِمْنَا أَنَّ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ مَا يُشْبِهُ الِاحْتِبَاكَ بِأَنْ صَرَّحَ بِالْمَعْنَى الْمَشْهُورِ، فِي كِلَا الْفِعْلَيْنِ ثُمَّ أَعْقَبَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ الدُّعَاءُ وَالْعِبَادَةُ، وَأَنَّ الِاسْتِجَابَةَ أُرِيدَ بِهَا قَبُولُ الدُّعَاءِ وَحُصُولُ أَثَرِ الْعِبَادَةِ. فَفِعْلُ ادْعُونِي مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَيَيْهِ بِطَرِيقَةِ عُمُومِ الْمُشْتَرَكِ.
وَفِعْلُ أَسْتَجِبْ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ، وَالْقَرِينَةُ مَا عَلِمْتَ، وَذَلِكَ مِنَ الْإِيجَازِ وَالْكَلَامِ الْجَامِعِ.
وَتَعْرِيفُ اللَّهِ بِوَصْفِ الرَّبِّ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ لِمَا فِي هَذَا الْوَصْفِ وَإِضَافَتِهِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى وُجُوبِ امْتِثَالِ أَمْرِهِ لِأَنَّ مِنْ حَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ امْتِثَالَ مَا يَأْمُرُ بِهِ مَوْصُوفُهَا لِأَنَّ الْمَرْبُوبَ مَحْقُوقٌ بِالطَّاعَةِ لِرَبِّهِ، وَلِهَذَا لَمْ يُعَرِّجْ مَعَ هَذَا الْوَصْفِ عَلَى تَذْكِيرٍ بِنِعْمَتِهِ وَلَا إِشَارَةٍ إِلَى كَمَالَاتِ ذَاتِهِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ