الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَمِنَ الْقَضَاءِ الْقَضَاءُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا هِيَ بِهِ حَقِيقَةٌ مِنْ مَرْتَبَةِ الثَّوَابِ أَوِ الْعِقَابِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ. فَقَضَاءُ اللَّهِ هُوَ الْقَضَاءُ الْعَامُّ الَّذِي لَا يَقْتَصِرُ عَلَى أَنْصَافِ الْمُتَدَاعِينَ كَقَضَاءِ الْقَاضِي، وَلَا عَلَى سُلُوكِ الدَّاعِرِينَ كَقَضَاءِ وَالِي الشُّرْطَةِ، وَلَا عَلَى مُرَاقَبَةِ الْمُغِيرِينَ كَقَضَاءِ وَالِي الْحِسْبَةِ، وَلَكِنَّهُ قَضَاءٌ عَلَى كُلِّ نفس فِيمَا اعْتَدَتْ وَفِيمَا سَلَكَتْ وَفِيمَا بَدَّلَتْ، وَيَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُ قَضَاءٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا اخْتَلَتْ بِهِ مِنْ عَمَلٍ وَبِمَا أَضْمَرَتْهُ مِنْ ضَمَائِرَ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ. وَإِلَى ذَلِكَ تُشِيرُ الْمَرَاتِبُ الثَّلَاثُ فِي الْآيَةِ: مَرْتَبَةُ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ، وَمَرْتَبَةُ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ، وَمَرْتَبَةُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ.
وَالتَّوْفِيَةُ: إِعْطَاءُ الشَّيْءِ وَافِيًا لَا نَقْصَ فِيهِ عَنِ الْحَقِّ فِي إِعْطَائِهِ وَلَا عَنْ عَطَاءِ أَمْثَالِهِ.
وَفِي قَوْلِهِ: مَا عَمِلَتْ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ، أَيْ جَزَاء مَا عملت لظُهُور أَن مَا عَمِلَهُ الْمَرْءُ لَا يُوَفَّاهُ بَعْدَ أَنْ عَمِلَهُ وَإِنَّمَا يُوَفَّى جَزَاءَهُ.
وَالْقَوْلُ فِي الْأَفْعَالِ الْمَاضَوِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: وَأَشْرَقَتِ، وَوُضِعَ، وَجَاء، وَوُفِّيَتْ كَالْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ [الزمر: 68] .
[71- 72]
[سُورَة الزمر (39) : الْآيَات 71 إِلَى 72]
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72)
هَذَا تَنْفِيذُ الْقَضَاءِ الَّذِي جَاءَ فِي قَوْلِهِ: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ [الزمر: 69] وَقَوْلِهِ:
وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ [الزمر: 70] ، فَإِنَّ عَاقِبَةَ ذَلِكَ وَنَتِيجَتَهُ إِيدَاعُ الْمُجْرِمِينَ فِي الْعِقَابِ
وَإِيدَاعُ الصَّالِحِينَ فِي دَارِ الثَّوَابِ.
وَابْتُدِئَ فِي الْخَبَرِ بِذِكْرِ مُسْتَحِقِّي الْعِقَابِ لِأَنَّهُ الْأَهَمُّ فِي هَذَا الْمَقَامِ إِذْ هُوَ مَقَامُ إِعَادَةِ الْمَوْعِظَةِ وَالتَّرْهِيبِ لِلَّذِينِ لَمْ يَتَّعِظُوا بِمَا تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْعِظَاتِ مِثْلَ هَذِهِ فَأَمَّا أَهْلُ الثَّوَابِ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنْهُمْ فَمَا يُذْكَرُ عَنْهُمْ فَإِنَّمَا هُوَ تَكْرِيرُ بِشَارَةٍ وَثَنَاءٍ.
وَالسَّوْقُ: أَنْ يَجْعَلَ الْمَاشِي مَاشِيًا آخَرَ يَسِيرُ أَمَامَهُ وَيُلَازِمُهُ، وَضِدُّهُ الْقَوْدُ، وَالسَّوْقُ مُشْعِرٌ بِالْإِزْعَاجِ وَالْإِهَانَةِ، قَالَ تَعَالَى: كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ [الْأَنْفَال: 6] .
وَالزُّمَرُ: جَمْعُ زُمْرَةٍ، وَهِيَ الْفَوْجُ مِنَ النَّاسِ الْمَتْبُوعِ بِفَوْجٍ آخَرَ، فَلَا يُقَالُ: مَرَّتْ زُمْرَةٌ مِنَ النَّاسِ، إِلَّا إِذَا كَانَتْ مَتْبُوعَةً بِأُخْرَى، وَهَذَا مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي مَدْلُولُهَا شَيْءٌ مُقَيَّدٌ.
وَإِنَّمَا جُعِلُوا زُمَرًا لِاخْتِلَافِ دَرَجَاتِ كُفْرِهِمْ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالَّذِينِ كَفَرُوا مُشْرِكِي قُرَيْشٍ الْمَقْصُودِينَ بِهَذَا الْوَعِيدِ كَانَ اخْتِلَافُهُمْ عَلَى حَسَبِ شِدَّةِ تَصَلُّبِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَمَا يُخَالِطُهُ مِنْ حَدَبٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَوْ فَظَاظَةٍ، وَمِنْ مُحَايِدَةٍ لِلنَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم أَوْ أَذًى، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِمْ جَمِيعَ أَهْلِ الشِّرْكِ كَمَا تَقْتَضِيهِ حِكَايَةُ الْمَوْقِفِ مَعَ قَوْلِهِ: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ كَانَ تَعَدُّدُ زُمَرِهِمْ عَلَى حَسَبِ أَنْوَاعِ إِشْرَاكِهِمْ.
وحَتَّى ابْتِدَائِيَّةٌ وإِذا ظَرْفٌ لِزَمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ يُضَمَّنُ مَعْنَى الشَّرْطِ غَالِبًا، أَيْ سِيقُوا سَوْقًا مُلَازِمًا لَهُم بشدته مُتَّصِل بِزَمَنِ مَجِيئِهِمْ إِلَى النَّارِ.
وَجُمْلَةُ فُتِحَتْ جَوَابُ إِذا لِأَنَّهَا ضُمِّنَتْ مَعْنَى الشَّرْطِ وَأَغْنَى ذِكْرُ إِذا عَنِ الْإِتْيَانِ بِ- (لَمَّا) التَّوْقِيتِيَّةِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَلَمَّا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا، أَيْ وَكَانَتْ مُغْلَقَةً لِتُفْتَحَ فِي وُجُوهِهِمْ حِينَ مَجِيئِهِمْ فَجْأَةً تَهْوِيلًا وَرُعْبًا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فُتِّحَتْ بِتَشْدِيدِ التَّاءِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْفَتْحِ. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِتَخْفِيفِ التَّاءِ عَلَى أَصْلِ الْفِعْلِ.
وَالْخَزَنَةُ: جَمْعُ خَازِنٍ وَهُوَ الْوَكِيلُ وَالْبَوَّابُ غَلَبَ عَلَيْهِ اسْمُ الْخَازِنِ لِأَنَّهُ يُقْصَدُ لِخَزْنِ الْمَالِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ الْمُوَجَّهُ إِلَى أَهْلِ النَّارِ اسْتِفْهَامٌ تَقْرِيرِيٌّ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّوْبِيخِ وَالزَّجْرِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ بَعْدَهُ: ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ.
ومِنْكُمْ صِفَةٌ لِ رُسُلٌ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْوَصْفِ التَّوَرُّكُ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ [الْقَمَر: 24]، وَالتِّلَاوَةُ: قِرَاءَةُ الرِّسَالَةِ وَالْكِتَابِ لِأَنَّ الْقَارِئَ يَتْلُو بَعْضَ الْكَلَامِ بِبَعْضٍ، وَأَصْلُ الْآيَاتِ: الْعَلَامَاتُ مِثْلُ آيَاتِ الطَّرِيقِ. وَأُطْلِقَتْ عَلَى الْأَقْوَالِ الدَّالَّةِ عَلَى الْحَقِّ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا الْأَقْوَالُ الْمُوحَى بِهَا إِلَى الرُّسُلِ مِثْلُ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَالْقُرْآنِ، وَأَخَصُّهَا بِاسْمِ الْآيَاتِ هِيَ آيَاتُ الْقُرْآنِ لِأَنَّهَا اسْتَكْمَلَتْ كُنْهَ الْآيَاتِ بِاشْتِمَالِهَا عَلَى عِظَمِ الدَّلَالَةِ عَلَى الْحَقِّ وَإِذْ هِيَ مُعْجِزَاتٌ بِنَظْمِهَا وَلَفْظِهَا، وَمَا عَدَاهُ يُسَمَّى آيَاتٌ عَلَى وَجْهِ الْمُشَاكَلَةِ كَمَا فِي حَدِيثِ الرَّجْمِ: أَنَّ الْيَهُودِيَّ الَّذِي أَحْضَرَ التَّوْرَاةَ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، وَلِأَنَّ فِي مَعَانِي كَثِيرٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ مَا فِيهِ دَلَائِلُ نَظَرِيَّةٌ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَالْبَعْثِ وَنَحْوِهَا مِنَ الِاسْتِدْلَالِ.
وَأُسْنِدَتِ التِّلَاوَةُ إِلَى جَمِيعِ الرُّسُلِ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَيْسَ لَهُ كِتَابٌ، عَلَى طَرِيقَةِ التَّغْلِيبِ.
وَإِضَافَةُ (يَوْمِ) إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِمْ فِيهِ
كَقَوْلِ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم فِي خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ «كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا»
فَالْإِضَافَةُ قَائِمَةٌ مَقَامَ التَّعْرِيفِ بِ (أَلْ) الْعَهْدِيَّةِ.
وَجَوَابُهُمْ بِحَرْفِ بَلى إِقْرَارٌ بِإِبْطَالِ الْمَنْفِيِّ وَهُوَ إِتْيَانُ الرُّسُلِ وَتَبْلِيغُهُمْ فَمَعْنَاهُ إِثْبَاتُ إِتْيَانِ الرُّسُلِ وَتَبْلِيغِهِمْ.
وَكلمَة الْعَذابِ هِيَ الْوَعِيدُ بِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ كَمَا فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ [الصافات: 31] أَيْ تَحَقَّقَتْ فِينَا، فَالتَّعْرِيفُ فِي كَلِمَةُ الْعَذابِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ لِإِضَافَتِهَا إِلَى مَعْرِفَةٍ بِلَامِ الْجِنْسِ، أَيْ كَلِمَاتُ.