الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الزَّائِدَةِ لِلتَّأْكِيدِ وَلِذَلِكَ لَحِقَتْ نُونُ التَّوْكِيدِ بِفِعْلِ الشَّرْطِ. وَعُطِفَ عَلَيْهِ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ وَهُوَ فِعْلُ شَرْطٍ ثَانٍ.
وَجُمْلَةُ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ جَوَابٌ لِفِعْلِ الشَّرْطِ الثَّانِي لِأَنَّ الْمَعْنَى عَلَى أَنَّهُ جَوَابٌ لَهُ. وَأَمَّا فِعْلُ الشَّرْطِ الْأَوَّلُ فَجَوَابُهُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ أَوَّلُ الْكَلَامِ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَتَقْدِيرُ جَوَابِهِ: فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ فَذَاكَ، أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ، أَيْ فَهُمْ غَيْرُ مُفْلِتِينَ مِمَّا نَعِدُهُمْ.
وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ فِي سُورَةِ يُونُسَ إِلَّا أَنَّ فِي سُورَةِ يُونُسَ [46] فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ وَفِي سُورَةِ غَافِرٍ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ، وَالْمُخَالَفَةُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ تَفَنُّنٌ، وَلِأَنَّ مَا فِي يُونُسَ اقْتَضَى تَهْدِيدَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ، أَيْ عَلَى مَا يَفْعَلُهُ الْفَرِيقَانِ مِنْ قَوْلِهِ:
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ [يُونُس: 42] وَقَوْلِهِ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ [يُونُس: 43] فَكَانَتِ الْفَاصِلَةُ حَاصِلَةً بِقَوْلِهِ: عَلى مَا يَفْعَلُونَ [يُونُس: 46] ، وَأَمَّا هُنَا فَالْفَاصِلَةُ مُعَاقِبَةٌ لِلشَّرْطِ فَاقْتَضَتْ صَوْغَ الرُّجُوعِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ الْمُخْتَتَمِ بِوَاوٍ وَنُونٍ، عَلَى أَن مَرْجِعُهُمْ [يُونُس: 46] مُعَرَّفٌ بِالْإِضَافَةِ فَهُوَ مُشْعِرٌ بِالْمَرْجِعِ الْمَعْهُودِ وَهُوَ مَرْجِعُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: يُرْجَعُونَ الْمُشْعِرِ بِرُجُوعٍ مُتَجَدِّدٍ كَمَا عَلِمْتَ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ وَاقِعُونَ فِي قَبْضَةِ قُدْرَتِنَا فِي الدُّنْيَا سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي حَيَاتِكَ مِثْلَ
عَذَابِ يَوْمِ بَدْرٍ أَوْ بَعْدَ وَفَاتِكَ مِثْلَ قَتْلِهِمْ يَوْمَ الْيَمَامَةِ، وَأَمَّا عَذَابُ الْآخِرَةِ فَذَلِكَ مُقَرَّرٌ لَهُمْ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ [الزخرف:
42] .
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ لِلرِّعَايَةِ عَلَى الفاصلة وللاهتمام.
[78]
[سُورَة غَافِر (40) : آيَة 78]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَاّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)
ذَكَرْنَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فِي أَوَّلِ هَذِهِ
السُّورَةِ [4] أَنَّ مِنْ صُوَرِ مُجَادَلَتِهِمْ فِي الْآيَاتِ إِظْهَارَهُمْ عَدَمَ الِاقْتِنَاعِ بِمُعْجِزَةِ الْقُرْآنِ فَكَانُوا يَقْتَرِحُونَ آيَاتٍ كَمَا يُرِيدُونَ لِقَصْدِهِمْ إِفْحَامَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا انْقَضَى تَفْصِيلُ الْإِبْطَالِ لِضَلَالِهِمْ بِالْأَدِلَّةِ الْبَيِّنَةِ وَالتَّذْكِيرِ بِالنِّعْمَةِ وَالْإِنْذَارِ بِالتَّرْهِيبِ وَالتَّرْغِيبِ وَضَرْبِ الْأَمْثَالِ بِأَحْوَالِ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ ثُمَّ بِوَعْدِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ وَتَحْقِيقِ الْوَعْدِ، أَعْقَبَ ذَلِكَ بِتَثْبِيتِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهُ مَا كَانَ شَأْنُهُ إِلَّا شَأْنَ الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِهِ أَنْ لَا يَأْتُوا بِالْآيَاتِ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ وَلَا اسْتِجَابَةً لِرَغَائِبِ مُعَانِدِيهِمْ وَلَكِنَّهَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ يُظْهِرُ مَا شَاءَ مِنْهَا بِمُقْتَضَى إِرَادَتِهِ الْجَارِيَةِ عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَفِي ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِالرَّدِّ عَلَى الْمُجَادِلِينَ فِي آيَاتِ اللَّهِ، وَتَنْبِيهٌ لَهُمْ عَلَى خَطَأِ ظَنِّهِمْ أَنَّ الرُّسُلَ تَنْتَصِبُ لِمُنَاقَشَةِ الْمُعَانِدِينَ.
فَالْمَقْصُودُ الْأَهَمُّ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ قَوْلُهُ: وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ إِلَخْ فَهُوَ كَمُقَدَّمَةٍ لِلْمَقْصُودِ لِتَأْكِيدِ الْعُمُومِ مِنْ قَوْلِهِ: وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يُفِيدُ بِتَقْدِيمِهِ مَعْنًى مُسْتَقِلًّا مِنْ رَدِّ مُجَادَلَتِهِمْ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام:
91] وَيَقُولُونَ: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ [الْأَنْعَام: 8] فَدُمِغَتْ مَزَاعِمُهُمْ بِمَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالتَّوَاتُرِ مِنْ تَكَرُّرِ بِعْثَةِ الرُّسُلَ فِي الْعُصُورِ وَالْأُمَمِ الْكَثِيرَةِ.
وَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ رُسُلًا وَأَنْبِيَاءَ لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ أَعْلَمَ الله بهم نبيه صلى الله عليه وسلم وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُعْلِمْهُ بِهِمْ إِذْ لَا كَمَالَ فِي الْإِعْلَامِ بِمَنْ لَمْ يُعْلِمْهُ بِهِمْ، وَالَّذِينَ أَعْلَمَهُ بِهِمْ مِنْهُمْ مَنْ قَصَّهُ فِي الْقُرْآنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَعْلَمَهُ بِهِمْ بِوَحْيٍ غَيْرِ الْقُرْآنِ فَوَرَدَ ذِكْرُ بَعْضِهِمْ فِي الْآثَارِ الصَّحِيحَةِ بِتَعْيِينٍ أَوْ بِدُونِ تَعْيِينٍ،
فَفِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ اللَّهَ بَعَثَ نَبِيئًا اسْمُهُ عَبُّودٌ عَبْدًا
أَسْوَدَ»
وَفِي الْحَدِيثِ ذِكْرُ: حَنْظَلَةَ بْنِ صَفْوَانَ نَبِيِّ أَهْلِ الرَّسِّ، وَذِكْرُ خَالِدِ بْنِ سِنَانٍ نَبِيِّ (1) عَبْسٍ،
وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ نَبِيئًا لَسَعَتْهُ نَمْلَةٌ فَأَحْرَقَ قَرْيَتَهَا فَعُوتِبَ فِي ذَلِكَ»
. وَلَا يَكَادُ النَّاسُ يُحْصُونَ عَدَدَهُمْ لِتَبَاعُدِ أَزْمَانِهِمْ وَتَكَاثُرِ أُمَمِهِمْ وَتَقَاصِي أَقْطَارِهِمْ مِمَّا لَا تُحِيطُ بِهِ عُلُومُ النَّاسِ وَلَا تَسْتَطِيعُ إِحْصَاءَهُ أَقْلَامُ الْمُؤَرِّخِينَ وَأَخْبَارُ الْقَصَّاصِينَ وَقَدْ حَصَلَ مِنَ الْعِلْمِ بِبَعْضِهِمْ وَبَعْضِ أُمَمِهِمْ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ لِتَحْصِيلِ الْعِبْرَةِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ.
(1) فِي المطبوعة (بني) .
وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ تَسْمِيَةُ خَمْسَةَ عَشَرَ رَسُولًا وَهُمْ: نُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَلُوطٌ وَإِسْمَاعِيلُ وَإِسْحَاقُ وَيَعْقُوبُ وَيُوسُفُ وَهُودٌ وَصَالِحٌ وَشُعَيْبٌ وَمُوسَى وَهَارُونُ وَعِيسَى وَيُونُسُ وَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وَاثْنَا عَشَرَ نَبِيئًا وَهُمْ: دَاوُدُ وَسليمَان وَأَيوب وزكرياء وَيَحْيَى وَإِلْيَاسُ وَالْيَسَعُ وَإِدْرِيسُ وَآدَمُ وَذُو الْكِفْلِ وَذُو الْقَرْنَيْنِ وَلُقْمَانُ وَنَبِيئَةٌ وَهِيَ مَرْيَمُ. وَوَرَدَ بِالْإِجْمَالِ دُونَ تَسْمِيَةٍ صَاحِبُ مُوسَى الْمُسَمَّى فِي السّنة خضراء وَنَبِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُوَ صَمْوِيلُ وَتُبَّعٌ.
وَلَيْسَ الْمُسْلِمُونَ مُطَالَبِينَ بِأَنْ يَعْلَمُوا غَيْرَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَلَكِنَّ الْأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي الْقُرْآنِ بِصَرِيحِ وَصْفِ النُّبُوءَةِ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِنُبُوءَتِهِمْ لِمَنْ قَرَأَ الْآيَاتِ الَّتِي ذُكِرُوا فِيهَا وَعِدَّتُهُمْ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ بَيْنَ رَسُولٍ وَنَبِيءٍ، وَقَدِ اشْتَمَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ إِلَى قَوْله: وَلُوطاً [الْأَنْعَام: 83- 86] عَلَى أَسْمَاءِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِنْهُمْ وَذُكِرَ أَسْمَاءُ سَبْعَةٍ آخَرِينَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى وَقَدْ جَمَعَهَا مَنْ قَالَ:
حَتْمٌ عَلَى كُلِّ ذِي التَّكْلِيفِ مَعْرِفَةٌ
…
بِأَنْبِيَاءَ عَلَى التَّفْصِيلِ قَدْ عُلِمُوا
فِي تِلْكَ حُجَّتُنَا مِنْهُمْ ثَمَانِيَةٌ
…
مِنْ بَعْدِ عَشْرٍ وَيَبْقَى سَبْعَةٌ وَهُم
إِدْرِيسُ هُودٌ شُعَيْبٌ صَالِحٌ وَكَذَا
…
ذُو الْكِفْلِ آدَمُ بِالْمُخْتَارِ قَدْ خُتِمُوا
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي كَوْنِ يُوسُفَ رَسُولًا تَرَدُّدًا بَيَّنْتُهُ عِنْد قَوْله تَعَالَى: وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [34] ، وَأَن فِي نبوءة الْخِضْرِ وَلُقْمَانَ وَذِي الْقَرْنَيْنِ وَمَرْيَمَ تَرَدُّدًا. واخترت إِثْبَات نبوءتهم لِأَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ فِي بَعْضِهِمْ أَنَّهُ خَاطَبَهُمْ، وَذَكَرَ فِي بَعْضِهِمْ أَنَّهُ أُوتِيَ الْحِكْمَةَ وَقَدِ اشْتُهِرَتْ فِي النُّبُوءَةِ، وَفِي بَعْضِهِمْ أَنَّهُ كَلَّمَتْهُ الْمَلَائِكَةُ. وَلَا يَجِبُ الْإِيمَانُ إِلَّا بِوُقُوعِ الرِّسَالَةِ وَالنُّبُوءَةِ عَلَى الْإِجْمَالِ.
وَلَا يَجِبُ عَلَى الْأُمَّةِ الْإِيمَانُ بِنُبُوءَةِ رِسَالَةِ مُعَيَّنٍ إِلَّا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم، أَوْ مَنْ بَلَغَ الْعِلْمُ بِنُبُوءَتِهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مَبْلَغَ الْيَقِينِ لِتَوَاتُرِهِ مِثْلَ مُوسَى وَعِيسَى وَإِبْرَاهِيمَ وَنُوحٍ.
وَلَكِنَّ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى ذِكْرِ نُبُوءَةِ نَبِيءٍ بِوَصْفِهِ ذَلِكَ فِي الْقُرْآن صَرِيحًا وَجب (1) عَلَيْهِ الْإِيمَانُ بِمَا عَلِمَهُ.
(1) فِي المطبوعة (وَجِيء) .
وَمَا ثَبَتَ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ لَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ لِأَنَّ الِاعْتِقَادَاتِ لَا تَجِبُ بِالظَّنِّ وَلَكِنَّ ذَلِكَ تَعْلِيمٌ لَا وُجُوبَ اعْتِقَادٍ.
وَتَنْكِيرُ رُسُلًا مُفِيدٌ لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّكْثِيرِ، أَيْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا عَدَدُهُمْ كَثِيرٌ وَشَأْنُهُمْ عَظِيمٌ. وَعَطْفُ وَما كانَ لِرَسُولٍ إِلَخْ بِالْوَاوِ دُونَ الْفَاءِ يُفِيدُ اسْتِقْلَالَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِنَفْسِهَا لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنًى عَظِيمٍ حَقِيقٍ بِأَنْ لَا يَكُونَ تَابِعًا لِغَيْرِهِ، وَيُكْتَفَى فِي الدَّلَالَةِ عَلَى ارْتِبَاطِ الْجُمْلَتَيْنِ بِمَوْقِعِ إِحْدَاهُمَا مِنَ الْأُخْرَى.
وَالْآيَةُ: الْمُعْجِزَةُ، وَإِذْنُ اللَّهِ: هُوَ أَمْرُ التَّكْوِينِ الَّذِي يَخْلُقُ اللَّهُ بِهِ خَارِقَ الْعَادَةِ لِيَجْعَلَهُ عَلَامَةً عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ. وَمَعْنَى إِتْيَانِ الرَّسُولِ بِآيَةٍ: هُوَ تَحَدِّيهِ قَوْمِهِ بِأَنَّ اللَّهَ سَيُؤَيِّدُهُ بِآيَةٍ يُعَيِّنُهَا مِثْلَ قَوْلٍ صَالِحٍ عليه السلام: هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً [الْأَعْرَاف: 73] وَقَوْلِ مُوسَى عليه السلام لِفِرْعَوْنَ: أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ [الشُّعَرَاء: 30] الْآيَةَ.
وَقَوْلِ عِيسَى عليه السلام: أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَائِرًا بِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمرَان: 49] وَقَوْلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [الْبَقَرَة: 23] .
فَالْبَاءُ فِي بِآيَةٍ بَاءُ التَّعْدِيَةِ لِفِعْلِ أَنْ يَأْتِيَ وَأَمَّا الْبَاءُ فِي بِإِذْنِ اللَّهِ فَهِيَ بَاءُ السَّبَبِيَّةِ دَخَلَتْ عَلَى مُسْتَثْنًى مِنْ أَسْبَابٍ مَحْذُوفَةٍ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُفَرَّغِ، أَيْ مَا كَانَ لَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَاب إِلَّا بِسَبَب إِذن اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا إِبْطَالٌ لِمَا يَتَوَرَّكُونَ بِهِ مِنَ الْمُقْتَرَحَاتِ وَالتَّعِلَّاتِ.
وَفُرِّعَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ أَيْ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ بِإِظْهَارِ الرَّسُولِ آيَةً ظَهَرَ صِدْقُ الرَّسُولِ وَكَانَ ذَلِكَ قَضَاءً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ بِالْحَقِّ عَلَى مُكَذِّبِيهِ، فَإِذْنُ اللَّهِ هُوَ أَمْرُهُ التَّكْوِينِيُّ بِخَلْقِ آيَةٍ وَظُهُورِهَا.
وَقَوْلُهُ: فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ الْأَمْرُ: الْقَضَاءُ وَالتَّقْدِيرُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النَّحْل: 1] وَقَوْلُهُ: أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ [الْمَائِدَة: 52] وَهُوَ الْحَدَثُ الْقَاهِرُ لِلنَّاسِ كَمَا فِي
قَوْلِ عُمَرَ لَمَّا قَالَ لَهُ أَبُو قَتَادَةَ يَوْمَ حُنَيْنٍ «مَا شَأْنُ النَّاسِ» حِينَ انْهَزَمُوا وَفَرُّوا قَالَ عُمَرُ: «أَمْرُ اللَّهِ» . وَفِي الْعُدُولِ عَنْ: إِذْنِ اللَّهِ، إِلَى أَمْرُ اللَّهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ مَا سَيُظْهِرُهُ اللَّهُ مِنَ الْإِذْنِ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم هِيَ آيَاتُ عِقَابٍ لِمُعَانِدِيهِ، فَمِنْهَا: آيَةُ الْجُوعِ سَبْعَ
سِنِينَ حَتَّى أَكَلُوا الْمَيْتَةَ، وَآيَةُ السَّيْفِ يَوْمَ بَدْرٍ إِذِ اسْتَأْصَلَ صَنَادِيدَ الْمُكَذِّبِينَ من أهل مَكَّة، وَآيَة السَّيْف يَوْم حنين إِذْ استأصل صَنَادِيد أَهْلِ الطَّائِفِ، وَآيَةُ الْأَحْزَابِ الَّتِي قَالَ الله عَنْهَا:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها [الْأَحْزَاب: 9] ثُمَّ قَالَ: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً [الْأَحْزَاب: 25- 27] .
وَفِي إِيثَارِ قُضِيَ بِالْحَقِّ بِالذِّكْرِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ نَحْوِ: ظَهَرَ الْحَقُّ، أَوْ تَبَيَّنَ الصِّدْقُ، تَرْشِيحٌ لِمَا فِي قَوْلِهِ: أَمْرُ اللَّهِ مِنَ التَّعْرِيضِ بِأَنَّهُ أَمْرُ انْتِصَافٍ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ. وَلِذَلِكَ عَطَفَ عَلَيْهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ أَيْ خَسِرَ الَّذِينَ جَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ.
وَالْخُسْرَانُ: مُسْتَعَارٌ لِحُصُولِ الضُّرِّ لِمَنْ أَرَادَ النَّفْعَ، كَخَسَارَةِ التَّاجِرِ الَّذِي أَرَادَ الرِّبْحَ فَذَهَبَ رَأْسُ مَالِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ، مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [16] .
وهُنالِكَ أَصْلُهُ اسْمُ إِشَارَةٍ إِلَى الْمَكَانِ، وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِلْإِشَارَةِ إِلَى الزَّمَانِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِ (إِذَا) فِي قَوْلِهِ: فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ.
وَفِي هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ نُكْتَةٌ بَدِيعِيَّةٌ وَهِيَ الْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّ الْمُبْطِلِينَ مِنْ قُرَيْشٍ سَتَأْتِيهِمُ الْآيَةُ فِي مَكَانٍ مِنَ الْأَرْضِ وَهُوَ مَكَانُ بَدْرٍ وَغَيْرُهُ مِنْ مَوَاقِعِ إِعْمَالِ السَّيْفِ فِيهِمْ