الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَأَنَّهُمْ أَضْمَرُوهُ وَلَمْ يُعْلِنُوهُ ثُمَّ شَغَلَهُمْ عَنْ إِنْفَاذِهِ مَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْمَصَائِبِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [130] : وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ الْآيَةَ، ثُمَّ بِقَوْلِهِ: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ [الْأَعْرَاف: 133] الْآيَةَ.
وَالضَّلَالُ: الضَّيَاعُ وَالِاضْمِحْلَالُ كَقَوْلِهِ: قالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [السَّجْدَة: 10] أَيْ هَذَا الْكَيْدُ الَّذِي دَبَّرُوهُ قَدْ أَخَذَ اللَّهُ عَلَى أَيْدِيهِمْ فَلم يَجدوا لانقاذه سَبِيلا.
[26]
[سُورَة غَافِر (40) : آيَة 26]
وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (26)
عَطْفٌ وَقالَ بِالْوَاوِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ فِي مَوْطِنٍ آخَرَ وَلَمْ يَكُنْ جَوَابًا لِقَوْلِهِمُ: اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ [غَافِر: 25]، وَفِي هَذَا الْأُسْلُوبِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمْ يَعْمَلْ بِإِشَارَةِ الَّذِينَ قَالُوا: اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَأَنَّهُ سَكَتَ وَلَمْ يُرَاجِعْهُمْ بِتَأْيِيدٍ وَلَا إِعْرَاضٍ، ثُمَّ رَأَى أَنَّ الْأَجْدَرَ قَتْلُ مُوسَى دُونَ أَنْ يَقْتُلَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ لِأَنَّ قَتْلَهُ أَقْطَعُ لِفِتْنَتِهِمْ.
وَمَعْنَى: ذَرُونِي إِعْلَامُهُمْ بِعَزْمِهِ بِضَرْبٍ مِنْ إِظْهَارِ مَيْلِهِ لِذَلِكَ وَانْتِظَارِهِ الْمُوَافَقَةَ عَلَيْهِ بِحَيْثُ يُمَثِّلُ حَالَهُ وَحَالَ الْمُخَاطَبِينَ بِحَالِ مَنْ يُرِيدُ فِعْلَ شَيْءٍ فَيَصُدُّ عَنْهُ، فَلِرَغْبَتِهِ فِيهِ يَقُولُ لِمَنْ يَصُدُّهُ: دَعْنِي أَفْعَلْ كَذَا، لِأَنَّ ذَلِكَ التَّرْكِيبَ مِمَّا يُخَاطَبُ بِهِ الْمُمَانِعُ وَالْمُلَائِمُ وَنَحْوُهُمَا، قَالَ طَرَفَةُ:
فَإِنْ كنت لَا تَسْتَطِيع دَفْعَ مَنِيَّتِي
…
فَدَعْنِي أُبَادِرْهَا بِمَا مَلَكَتْ يَدِي
ثُمَّ اسْتُعْمِلَ هَذَا فِي التَّعْبِيرُ عَنِ الرَّغْبَةِ وَلَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ مُعَارِضٌ أَوْ مُمَانِعٌ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ شَائِعٌ فِي هَذَا وَمَا يُرَادِفُهُ مِثْلَ: دَعْنِي وَخَلَّنِي، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً [المدثر: 11] وَقَوْلِهِ: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ [المزمل: 11]، وَقَول أبي الْقَاسِم السُّهَيْلِيِّ:
دَعْنِي عَلَى حُكْمِ الْهَوَى أَتَضَرَّعُ
…
فَعَسَى يَلِينُ لِيَ الْحَبِيبُ وَيَخْشَعُ
وَذَلِكَ يُسْتَتْبَعُ كِنَايَةً عَنْ خَطَرِ ذَلِكَ الْعَمَلِ وَصُعُوبَةِ تَحْصِيلِهِ لِأَنَّ مِثْلَهُ مِمَّا يَمْنَعُ الْمُسْتَشَارُ مُسْتَشِيرَهُ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ عَطَفَ عَلَيْهِ: وَلْيَدْعُ رَبَّهُ لِأَنَّ مُوسَى خَوَّفَهُمْ عَذَابَ اللَّهِ وَتَحَدَّاهُمْ بِالْآيَاتِ التِّسْعِ. وَلَامُ الْأَمْرِ فِي وَلْيَدْعُ رَبَّهُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّسْوِيَةِ وَعَدَمِ الِاكْتِرَاثِ. وَجُمْلَةُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ تَعْلِيلٌ لِلْعَزْمِ عَلَى قَتْلِ مُوسَى.
وَالْخَوْفُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِشْفَاقِ، أَيْ أَظُنُّ ظَنًّا قَوِيًّا أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ. وَحُذِفَتْ (مِنَ) الَّتِي يَتَعَدَّى بِهَا فِعْلُ أَخافُ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ (أَنْ) .
وَالتَّبْدِيلُ: تَعْوِيضُ الشَّيْءِ بِغَيْرِهِ. وَتَوَسَّمَ فِرْعَوْنُ ذَلِكَ مِنْ إِنْكَارِ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ زَعَمَهُ أَنَّهُ إِلَهٌ لِقَوْمِهِ فَإِنَّ تَبْدِيلَ الْأُصُولِ يَقْتَضِي تَبْدِيلَ فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ كُلِّهَا.
وَالْإِضَافَةُ فِي قَوْلِهِ: دِينَكُمْ تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُمْ أَوْلَى بِالذَّبِّ عَنِ الدِّينِ وَإِنْ كَانَ هُوَ دِينُهُ أَيْضًا لَكِنَّهُ تَجَرَّدَ فِي مُشَاوَرَتِهِمْ عَنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مُرَاعَاةٌ لِحَظِّ نَفْسِهِ كَمَا قَالُوا هُمْ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ [الْأَعْرَاف: 127] وَذَلِكَ كُلُّهُ إِلْهَابٌ وَتَحْضِيضٌ.
وَالْأَرْضُ: هِيَ الْمَعْهُودَةُ عِنْدَهُمْ وَهِيَ مَمْلَكَةُ فِرْعَوْنَ.
وَمَعْنَى إِظْهَارِ مُوسَى الْفَسَادَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَتَسَبَّبُ فِي ظُهُورِهِ بِدَعْوَتِهِ إِلَى تَغْيِيرِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الدِّيَانَةِ وَالْعَوَائِدِ. وَأُطْلِقَ الْإِظْهَارُ عَلَى الْفُشُوِّ وَالِانْتِشَارِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ. وَقَدْ حَمَلَهُ غُرُورُهُ وَقِلَّةُ تَدَبُّرِهِ فِي الْأُمُورِ عَلَى ظَنِّ أَنَّ مَا خَالَفَ دِينَهُمْ يُعَدُّ فَسَادًا إِذْ لَيْسَتْ لَهُمْ حُجَّةٌ لِدِينِهِمْ غَيْرُ الْإِلْفِ وَالِانْتِفَاعِ الْعَاجِلِ.