الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَصِيغَةُ الْأَمْرِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْإِهَانَةِ وَالْمُجَازَاةِ.
وَالْمَسُّ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِصَابَةِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ.
وَسَقَرُ: عَلَمٌ عَلَى جَهَنَّمَ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ السَّقَرِ بِسُكُونِ القَّافِ وَهُوَ الْتِهَابٌ فِي النَّارِ، فَ سَقَرَ وُضِعَ عَلَمًا لِجَهَنَّمَ، وَلِذَلِكَ فَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ، لِأَنَّ جَهَنَّمَ اسْمٌ مُؤَنَّثٌ مَعْنًى اعْتَبَرُوا فِيهِ أَنَّ مُسَمَّاهُ نَارٌ وَالنَّارُ مُؤَنَّثَةٌ.
وَالْآيَةُ تَتَحَمَّلُ مَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يُرَادَ بِالضَّلَالِ ضِدُّ الْهُدَى وَأَنَّ الْإِخْبَارَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى هُدًى، وَأَنَّ مَا هُمْ فِيهِ بَاطِلٌ وَضَلَالٌ، وَذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنْ يُرَادَ بِالسُّعُرِ نِيرَانُ جَهَنَّمَ وَذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ فَيَكُونَ الكَّلَامُ عَلَى التَّقْسِيمِ.
أَوْ يَكُونَ السُّعُرُ بِمَعْنَى الْجُنُونِ، يُقَالُ: سُعُرٌ بِضَمَّتَيْنِ وَسُعُرٌ بِسُكُونِ الْعَيْنِ، أَيْ جُنُونٌ، مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ نَاقَةٌ مَسْعُورَةٌ، أَيْ شَدِيدَةُ السُّرْعَةِ كَأَنَّ بِهَا جُنُونًا كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [24] .
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفَسَّرَ بِهِ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ قَائِلًا: لِأَنَّهُمْ إِنْ كَانُوا فِي السَّعِيرِ لَمْ يَكُونُوا فِي ضَلَالٍ لِأَنَّ الْأَمْرَ قَدْ كُشِفَ لَهُمْ وَإِنَّمَا وَصَفَ حَالَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَعَلَيْهِ فَالضَّلَالُ وَالسُّعُرُ حَاصِلَانِ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا.
[49]
[سُورَة الْقَمَر (54) : آيَة 49]
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49)
اسْتِئْنَافٌ وَقَعَ تَذْيِيلًا لِمَا قَبْلَهُ مِنَ الْوَعِيدِ وَالْإِنْذَارِ وَالْاِعْتِبَارِ بِمَا حَلَّ بِالْمُكَذِّبِينَ، وَهُوَ أَيْضًا تَوْطِئَةٌ لِقَوْلِهِ: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ [الْقَمَر: 50] إِلَخْ.
وَالْمَعْنَى: إِنَّا خَلَقْنَا وَفَعَلْنَا كُلَّ مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَفْعَال وأسبابها وآلالتها وَسَلَّطْنَاهُ عَلَى مُسْتَحِقِّيهِ لِأَنَّا خَلَقَنَا كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ، أَيْ فَإِذَا عَلِمْتُمْ هَذَا فَانْتَبَهُوا إِلَى أَنَّ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ التَّكْذِيبِ وَالْإِصْرَارِ مُمَاثِلٌ لِمَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْأُمَمُ السَّالِفَةُ.
وَاقْتِرَانُ الْخَبَرِ بِحَرْفِ (إِنَّ) يُقَالُ فِيهِ مَا قُلْنَاهُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ [الْقَمَر: 47] .
وَالْخَلْقُ أَصْلُهُ: إِيجَادُ ذَاتٍ بِشَكْلٍ مَقْصُودٍ فَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي إِيجَادِ الذَّوَاتِ، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى إِيجَادِ الْمَعَانِي الَّتِي تُشْبِهُ الذَّوَاتِ فِي التَّمَيُّزِ وَالْوُضُوحِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً [العنكبوت: 17] .
فَإِطْلَاقُهُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ مِنِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ.
وشَيْءٍ مَعْنَاهُ مَوْجُودٌ مِنَ الْجَوَاهِرِ وَالْأَعْرَاضِ، أَيْ خَلَقْنَا كُلَّ الْمَوْجُودَاتِ جِوَاهِرُهَا وَأَعْرَاضُهَا بِقَدَرٍ.
وَالْقَدَرُ: بِتَحْرِيكِ الدَّالِ مُرَادِفُ الْقَدْرِ بِسُكُونِهَا وَهُوَ تَحْدِيدُ الْأُمُورِ وَضَبْطُهَا.
وَالْمُرَادُ: أَنَّ خَلْقَ اللَّهِ الْأَشْيَاءَ مُصَاحِبٌ لِقَوَانِينٍ جَارِيَةٍ عَلَى الْحِكْمَةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى قَدْ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [8] وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ وَمِمَّا يَشْمَلُهُ عُمُومُ كُلِّ شَيْءٍ خَلْقُ جَهَنَّمَ لِلْعَذَابِ.
وَقَدْ أَشَارَ إِلَى أَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 115] وَقَوْلُهُ: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ [الْحجر: 85، 86] وَقَوْلُهُ: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ مَا خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ
[الدُّخان: 38- 40] فَتَرَى هَذِهِ الْآيَاتِ وَأَشْبَاهَهَا تُعَقِّبُ ذِكْرَ كَوْنِ الْخَلْقِ كُلِّهِ لِحِكْمَةٍ بِذِكْرِ السَّاعَةِ وَيَوْمِ الْجَزَاءِ.
فَهَذَا وَجْهُ تَعْقِيبِ آيَاتِ الْإِنْذَارِ وَالْعِقَابِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِالتَّذْيِيلِ بِقَوْلِهِ: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ بَعْدَ قَوْلِهِ: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ [الْقَمَر: 43] وَسَيَقُولُ: وَلَقَدْ
أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ
[الْقَمَر: 51] .
فَالْبَاءُ فِي بِقَدَرٍ لِلْمُلَابَسَةِ، وَالْمَجْرُورُ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ، فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِفِعْلِ خَلَقْناهُ لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ بِذَاتِهِ، إِذْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ الْإِعْلَامَ بِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْإِعْلَامِ بِهِ بَلْهَ تَأْكِيدَهُ بَلِ الْمَقْصُودُ إِظْهَارُ مَعْنَى الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ فِي الْجَزَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [8] وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ.
وَمِمَّا يَسْتَلْزِمُهُ مَعْنَى الْقَدَرِ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مَخْلُوقٍ هُوَ جَارٍ عَلَى وَفْقِ عِلْمِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ لِأَنَّهُ خَالِقُ أُصُولِ الْأَشْيَاءِ وَجَاعِلُ الْقُوَى فِيهَا لِتَنْبَعِثَ عَنْهَا آثَارُهَا وَمُتَوَلِّدَاتُهَا، فَهُوَ عَالِمٌ بِذَلِكَ وَمُرِيدٌ لِوُقُوعِهِ. وَهَذَا قَدْ سُمِّيَ بِالْقَدَرِ فِي اصْطِلَاحِ الشَّرِيعَةِ كَمَا
جَاءَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ الصَّحِيحِ فِي ذِكْرِ مَا يَقَعُ بِهِ الْإِيمَانُ: «وَتُؤْمِنُ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ» .
وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «جَاءَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ يُخَاصِمُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْقَدَرِ فَنَزَلَتْ: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ
[الْقَمَر: 48، 49] . وَلَمْ يَذْكُرْ رَاوِي الحَدِيث تعْيين مَعْنَى الْقَدَرِ الَّذِي خَاصَمَ فِيهِ كُفَّارُ قُرَيْشٍ فَبَقِيَ مُجْمَلًا وَيَظْهَرُ أَنَّهُمْ خَاصَمُوا جَدَلًا لِيَدْفَعُوا عَنْ أَنْفُسِهِمُ التَّعْنِيفَ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ كَمَا قَالُوا: لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ [الزخرف: 20] ، أَيْ جَدَلًا لِلنَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم بِمُوجَبِ مَا يَقُولُهُ مِنْ أَنَّ كُلَّ كَائِنٍ بِقَدَرِ اللَّهِ جَهْلًا مِنْهُمْ بِمَعَانِي الْقَدَرِ.
قَالَ عِيَاضٌ فِي «الْإِكْمَالِ» «ظَاهِرُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَدَرِ هَنَا مُرَادُ اللَّهِ وَمَشِيئَتُهُ وَمَا سِيقَ بِهِ قَدَرُهُ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ دَلِيلُ مَسَاقِ الْقِصَّةِ الَّتِي نَزَلَتْ بِسَبَبِهَا الْآيَةُ» اه. وَقَالَ الْبَاجِيُّ فِي «الْمُنْتَقَى» : «يَحْتَمِلُ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ مَعَانِي:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْقَدَرُ هَاهُنَا بِمَعْنَى مُقَدَّرٍ لَا يُزَادُ عَلَيْهِ وَلَا يَنْقُصُ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً [الطَّلَاق: 3] .
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ بِقُدْرَتِهِ، كَمَا قَالَ: بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ [الْقِيَامَة:
4] .
وَالثَّالِثُ: بِقَدَرٍ، أَيْ نَخْلُقُهُ فِي وَقْتِهِ، أَيْ نُقَدِّرُ لَهُ وَقْتًا نَخْلُقُهُ فِيهِ» اه.
قلت: وَإِذ كَانَ لَفْظُ (قَدَرٍ) جِنْسًا، وَوَقَعَ مُعَلَّقًا بِفِعْلٍ مُتَعَلِّقٍ بِضَمِيرِ كُلَّ شَيْءٍ الدَّالِّ عَلَى الْعُمُومِ كَانَ ذَلِكَ اللَّفْظُ عَامًّا لِلْمَعَانِي كُلِّهَا فَكُلُّ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ فَخَلَقَهُ بِقَدَرٍ، وَسَبَبُ النُّزُولِ لَا يُخَصِّصُ الْعُمُومَ، وَلَا يُنَاكِدُ مَوْقِعَ هَذَا التَّذْيِيلِ عَلَى أَنَّ السَّلَفَ كَانُوا يُطْلِقُونَ
سَبَبَ النُّزُولِ عَلَى كُلِّ مَا نَزَلَتِ الْآيَةُ لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَتِ الْآيَةُ سَابِقَةٌ عَلَى مَا عَدُّوهُ مِنَ السَّبَبِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْآيَةَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ كُلَّ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ كَانَ بِضَبْطٍ جَارِيًا عَلَى حِكْمَةٍ،