الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نَزَلَ لِخَطَابِ النَّاسِ وَوَعْظِهِمْ وَلَمْ يَأْتِ لِخِطَابِ الْجِنِّ، فَلَا يَتَعَرَّضُ الْقُرْآنُ لِخِطَابِهِمْ، وَمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ وُقُوعِ اهْتِدَاءِ نَفَرٍ مِنَ الْجِنِّ بِالْقُرْآنِ فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ وَفِي سُورَةِ الْجِنِّ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ كَلَّفَ الْجِنَّ بِاتِّبَاعِ مَا يَتَبَيَّنُ لَهُمْ فِي إِدْرَاكِهِمْ، وَقَدْ يُكَلِّفُ اللَّهُ أَصْنَافًا بِمَا هُمْ أَهْلٌ لَهُ دُونَ غَيْرِهِمْ، كَمَا كَلَّفَ أَهْلَ الْعِلْمِ بِالنَّظَرِ فِي الْعَقَائِدِ وَكَمَا كَلَّفَهُمْ بِالْاِجْتِهَادِ فِي الْفُرُوعِ وَلَمْ يُكَلِّفِ الْعَامَّةَ بِذَلِكَ، فَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذِكْرِ الْجِنِّ فَهُوَ فِي سِيَاقِ الْحِكَايَةِ عَنْ تَصَرُّفَاتِ اللَّهِ فِيهِمْ وَلَيْسَ لِتَوْجِيهِ الْعَمَلِ بِالشَّرِيعَةِ.
وَأَمَّا مَا
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ «أَنَّ النَّبِيءَ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ سُورَةَ الرَّحْمَنِ وَهُمْ سَاكِتُونَ فَقَالَ لَهُمْ «لَقَدْ قَرَأْتُهَا عَلَى الْجِنِّ لَيْلَةَ الْجِنِّ فَكَانُوا أَحْسَنَ مَرْدُودًا مِنْكُمْ، كُنْتُ كُلَّمَا أَتَيْتُ عَلَى قَوْلِهِ: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ قَالُوا: لَا بِشَيْءٍ مِنْ نِعَمِكَ رَبَّنَا نُكَذِّبُ فَلَكَ الْحَمْدُ»
. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَفِي سَنَدِهِ زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَقَدْ ضَعَّفَهُ الْبُخَارِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ لَوْ صَحَّ فَلَيْسَ تَفْسِيرًا لِضَمِيرِ التَّثْنِيَةِ لِأَنَّ الْجِنَّ سَمِعُوا ذَلِكَ بَعْدَ نُزُولِهِ فَلَا يَقْتَضِي أَنَّهُمُ الْمُخَاطِبُونَ بِهِ وَإِنَّمَا كَانُوا مُقْتَدِينَ بِالَّذِينَ خَاطَبَهُمُ اللَّهُ، وَقِيلَ الْخِطَابُ لِلذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ وَهُوَ بَعِيدٌ.
وَالتَّكْذِيبُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الْجَحْدِ وَالْإِنْكَارِ مَجَازًا لِتَشْنِيعِ هَذَا الْجَحْدِ.
وَتَكْذِيبُ الْآلَاءِ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ. وَالْمَعْنَى: فَبِأَيِّ نِعْمَةٍ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْكُمْ تُنْكِرُونَ إِنَّهَا نِعْمَةٌ عَلَيْكُمْ فَأَشْرَكْتُمْ فِيهَا غَيْرَهُ بَلْهَ إِنْكَارَ جَمِيعِ نِعَمِهِ إِذْ تَعْبُدُونَ غَيره دواما.
[14، 15]
[سُورَة الرَّحْمَن (55) : الْآيَات 14 إِلَى 15]
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (15)
هَذَا انْتِقَالٌ إِلَى الْاِعْتِبَارِ بِخَلْقِ اللَّهِ الْإِنْسَانَ وَخَلْقِهِ الْجِنَّ.
وَالْقَوْلُ فِي مَجِيء الْمسند فعلا كَالْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ: عَلَّمَ الْقُرْآنَ [الرَّحْمَن: 2] .
وَالْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ آدَمُ وَهُوَ أَصْلُ الْجِنْسِ وَقَوْلُهُ: مِنْ صَلْصالٍ تَقَدَّمَ نَظِيرِهِ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [2] .
وَالصَّلْصَالُ: الطِّينُ الْيَابِسُ.
وَالْفَخَّارُ: الطِّينُ الْمَطْبُوخُ بِالنَّارِ وَيُسَمَّى الْخَزَفَ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ قَوْلَهُ:
كَالْفَخَّارِ صِفَةٌ لِ صَلْصالٍ. وَصَرَّحَ بِذَلِكَ الْكَوَاشِيُّ فِي «تَلْخِيصِ التَّبْصِرَةِ» وَلَمْ يُعَرِّجُوا عَلَى فَائِدَةِ هَذَا الْوَصْفِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنْ يَكُونَ كَالْفَخَّارِ حَالًا مِنَ الْإِنْسانَ، أَيْ خَلَقَهُ مِنْ صَلْصَالٍ فَصَارَ الْإِنْسَانُ كَالْفَخَّارِ فِي صُورَةٍ خَاصَّة وصلابة.
وَالْمعْنَى أَنَّهُ صَلْصَالٌ يَابِسٌ يُشْبِهُ يَبِسَ الطِّينِ الْمَطْبُوخِ وَالْمُشَبَّهُ غَيْرُ الْمُشَبَّهِ بِهِ، وَقَدْ عَبَّرَ عَنْهُ بِالْحَمَأِ الْمَسْنُونِ، وَالطِّينِ اللَّازِبِ، وَالتُّرَابِ.
والْجَانَّ: الْجِنُّ وَالْمُرَادُ بِهِ إِبْلِيسُ وَمَا خَرَجَ عَنْهُ مِنَ الشَّيَاطِينِ، وَقَدْ حَكَى اللَّهُ عَنْهُ قَوْلَهُ: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [ص: 76] .
وَالْمَارِجُ: هُوَ الْمُخْتَلِطُ وَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ مِثْلِ دَافِقٍ، وَعِيشَةٍ رَاضِيَةِ، أَيْ خَلَقَ الْجَانَّ مِنْ خَلِيطٍ من النَّار، أَيْ مُخْتَلِطٍ بِعَنَاصِرٍ أُخْرَى إِلَّا أَن النَّاس أَغْلَبُ عَلَيْهِ كَمَا كَانَ التُّرَابُ أَغْلَبَ عَلَى تَكْوِينِ الْإِنْسَانِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ عُنْصُرِ النَّارِ وَهُوَ الْحَرَارَةُ الْغَرِيزِيَّةُ وَالْمَقْصُودُ هُنَا هُوَ خَلْقُ الْإِنْسَانِ بِقَرِينَةِ تَذْيِيلِهِ بِقَوْلِهِ: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [الرَّحْمَن: 16] وَإِنَّمَا قُرِنَ بِخَلْقِ الْجَانِّ إِظْهَارًا لِكَمَالِ النِّعْمَةِ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ مِنْ مَادَّةٍ لَيِّنَةٍ قَابِلًا لِلتَّهْذِيبِ وَالْكَمَالِ وَصُدُورِ الرِّفْقِ بِالْمَوْجُودَاتِ الَّتِي مَعَهُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ.
وَهُوَ أَيْضًا تَذْكِيرٌ وَمَوْعِظَةٌ بِمَظْهَرٍ مِنْ مَظَاهِرِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ فِي خَلْقِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ وَجِنْسِ الْجَانِّ.
وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى مَا سَبَقَ فِي الْقُرْآنِ النَّازِلِ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ تَفْضِيلِ الْإِنْسَانِ عَلَى الْجَانِّ إِذْ أَمَرَ اللَّهُ الْجَانَّ بِالسُّجُودِ لِلْإِنْسَانِ، وَمَا ينطوي فِي ذَلِكَ مِنْ وَفْرَةِ مَصَالِحِ الْإِنْسَانِ
عَلَى مَصَالِحِ الْجَانِّ، وَمِنْ تَأَهُّلِهِ لِعُمْرَانِ الْعَالِمِ لِكَوْنِهِ مَخْلُوقًا مَنْ طِينَتِهِ إِذِ الْفَضِيلَةُ تَحْصُلُ مِنْ مَجْمُوعِ أَوْصَافٍ لَا مِنْ خصوصيات مُفْردَة.