الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَبَدَّلُوا كِتَابَهُمْ وَحَرَّفُوهُ وَأَفْسَدُوا عَقَائِدَهُمْ فَبَلَغُوا حَدَّ الْكُفْرِ. فَالْفِسْقُ هَنَا مُرَادٌ بِهِ الْكُفْرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ [الْمَائِدَة: 59]، أَيْ غَيْرُ مُؤْمِنَيْنِ بِدَلِيلِ الْمُقَابَلَةِ بِقَوْلِهِ: آمَنَّا بِاللَّهِ إِلَى آخِرِهِ.
وَبَيْنَ قَوْلِهِ: فَقَسَتْ وَقَوْلِهِ: فاسِقُونَ مُحَسِّنُ الْجِنَاسِ. وَهَذَا النَّوْعُ فِيهِ مُرَكَّبٌ مِمَّا يُسَمَّى جِنَاسُ الْقَلْبِ وَمَا يُسَمَّى الْجِنَاسُ النَّاقِصُ وَقَدِ اجْتَمَعَا فِي هَذِه الْآيَة.
[17]
[سُورَة الْحَدِيد (57) : آيَة 17]
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)
افْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِ اعْلَمُوا وَنَحْوِهِ يُؤْذِنُ بِأَنَّ مَا سَيُلْقَى جَدِيرٌ بِتَوَجُّهِ الذِّهْنِ بِشَرَاشِرِهِ إِلَيْهِ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [235] وَقَوْلِهِ: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [41] .
وَهُوَ هُنَا يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي بُعْدُهُ مَغْزًى عَظِيمٌ غَيْرُ ظَاهِرٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ تَمْثِيلُ حَالِ احْتِيَاجِ الْقُلُوبِ الْمُؤْمِنَةِ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ بِحَالِ الْأَرْضِ الْمَيِّتَةِ فِي الْحَاجَةِ إِلَى الْمَطَرِ، وَحَالِ الذِّكْرِ فِي تَزْكِيَةِ النُّفُوسِ وَاسْتِنَارَتِهَا بِحَالِ الْغَيْثِ فِي إِحْيَاءِ الْأَرْضِ الْجَدْبَةِ.
وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، وَإِلَّا فَإِنَّ إِحْيَاءَ اللَّهِ
الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا بِمَا يُصِيبُهَا مِنَ الْمَطَرِ لَا خَفَاءَ فِيهَا فَلَا يَقْتَضِي أَنْ يَفْتَتِحَ الْإِخْبَارَ عَنْهُ بِمِثْلِ اعْلَمُوا إِلَّا لِأَنَّ فِيهِ دَلَالَةً غَيْرَ مَأْلُوفَةٍ وَهِيَ دَلَالَةُ التَّمْثِيلِ، وَنَظِيرُهُ
قَوْلُ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ وَقَدْ رَآهُ لَطَمَ وَجْهَ عَبْدٍ لَهُ «اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ أَنَّ اللَّهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا»
. فَالْجُمْلَةُ بِمَنْزِلَةِ التَّعْلِيلِ لِجُمْلَةِ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ إِلَى قَوْلِهِ: فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ [الْحَدِيد: 16] لِمَا تَتَضَمَّنُهُ تِلْكَ مِنَ التَّحْرِيضِ عَلَى الْخُشُوعِ
لِذِكْرِ اللَّهِ، وَلَكِنْ هَذِهِ بِمَنْزِلَةِ الْعِلَّةِ فُصِلَتْ وَلَمْ تُعْطَفْ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ مِمَّا نَزَلَ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ الْآيَةَ.
وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: اعْلَمُوا لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ إِقْبَالًا عَلَيْهِمْ لِلِاهْتِمَامِ.
وَقَوْلُهُ: أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ مُصَرَّحَةٌ وَيَتَضَمَّنُ تَمْثِيلِيَّةً مَكْنِيَّةً بِسَبَبِ تَضَمُّنِهِ تَشْبِيهَ حَالِ ذِكْرِ اللَّهِ وَالْقُرْآنِ فِي إِصْلَاحِ الْقُلُوبِ بِحَالِ الْمَطَرِ فِي إِصْلَاحِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ جَدْبِهَا. وَطُوِيَ ذِكْرُ الْحَالَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا وَرُمِزَ إِلَيْهَا بِلَازِمِهَا وَهُوَ إِسْنَادُ إِحْيَاءِ الْأَرْضِ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا بِسَبَبِ الْمَطَرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها (1)[النَّحْل: 65] .
وَالْمَقْصُودُ الْإِرْشَادُ إِلَى وَسِيلَةِ الْإِنَابَةِ إِلَى اللَّهِ وَالْحَثِّ عَلَى تَعَهُّدِ النَّفْسِ بِالْمَوْعِظَةِ، وَالتَّذْكِيرُ بِالْإِقْبَالِ عَلَى الْقُرْآنِ وَتَدَبُّرِهِ وَكَلَامِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَتَعْلِيمِهِ وَأَنَّ فِي اللَّجَأِ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم نَجَاةً وَفِي الْمَفْزَعِ إِلَيْهِمَا عِصْمَةً وَقَدْ
قَالَ النَّبِيءُ صلى الله عليه وسلم: «تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتِي» .
. وَقَوْلُهُ: قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِجُمْلَةِ أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها لِأَنَّ السَّامِعَ قَوْلَهُ: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها يَتَطَلَّبُ
مَعْرِفَةَ الْغَرَضِ مِنْ هَذَا الْإِعْلَامِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ جَوَابًا عَنْ تَطَلُّبِهِ، أَيْ أَعْلَمْنَاكُمْ بِهَذَا تَبْيِينًا لِلْآيَاتِ.
وَيُفِيدُ بِعُمُومِهِ مُفَادَ التَّذْيِيلِ لِلْآيَاتِ السَّابِقَةِ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ مَكِيِّهَا وَمَدَنِيِّهَا لِأَنَّ
(1) فِي المطبوعة (ألم تَرَ أَن الله أنزل من السَّمَاء مَاء فأحيا بِهِ الأَرْض بعد مَوتهَا) وَهَذَا خطأ، لِأَنَّهُ جمع بَين آيَتَيْنِ، والمثبت هُوَ الصَّوَاب وَالله أعلم. [.....]