الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَنَّ عَدَدَ أَهْلِ مَرْتَبَةِ السَّابِقِينَ فِي الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ مُسَاوٍ لِعَدَدِ أَهْلِ تِلْكَ الْمَرْتَبَةِ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّ قَوْلَ أَبِي هُرَيْرَةَ:«فَنَسَخَتْ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ» يُرِيدُ نَسَخَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةَ. فَمُرَادُهُ أَنَّهَا أَبْطَلَتْ أَنْ يَكُونَ التَّفَوُّقُ مُطَّرِدًا فِي عَدَدِ الصَّالِحِينَ فَبَقِيَ التَّفَوُّقُ فِي الْعَدَدِ خَاصًّا بِالسَّابِقِينَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ دُونَ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ هُمْ أَصْحَابُ الْيَمِينِ، وَالْمُتَقَدِّمُونَ يُطْلِقُونَ النَّسْخَ عَلَى مَا يَشْمَل الْبَيَان فَإِنَّهُ مَوْرِدَ آيَةِ: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ [الْوَاقِعَة: 39، 40] فِي شَأْنِ صِنْفِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَمَوْرِدُ الْآيَةِ الَّتِي فِيهَا: وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ هُوَ صِنْفُ السَّابِقِينَ فَلَا يُتَصَوَّرُ مَعْنَى النَّسَخِ بِالْمَعْنَى الْاِصْطِلَاحِيِّ مَعَ تَغَايُرِ مَوْرِدِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ وَلَكِنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الْبَيَانُ وَهُوَ بَيَانٌ بِالْمَعْنَى الْأَعَمّ.
[15- 26]
[سُورَة الْوَاقِعَة (56) : الْآيَات 15 إِلَى 26]
عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19)
وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24)
لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (25) إِلَاّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (26)
الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ خَبَرٌ ثَالِثٌ عَنْ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [الْوَاقِعَة: 11] أَوْ حَالٌ ثَانِيَةٌ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَهَذَا تَبْشِيرٌ بِبَعْضِ مَا لَهُمْ مِنَ النَّعِيمِ مِمَّا تَشْتَاقُ إِلَيْهِ النُّفُوسُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِتَشْوِيقِهِمْ إِلَى هَذَا الْمَصِيرِ فَيَسْعَوْا لِنَوَالِهِ بِصَالِحِ الْأَعْمَالِ، وَلَيْسَ الْاِقْتِصَارُ عَلَى الْمَذْكُورِ هُنَا بِمُقْتَضٍ حَصْرَ النَّعِيمِ فِيمَا ذَكَرَ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَفِيها مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ [الزخرف: 71] .
وَالسُّرُرُ: جَمْعُ سَرِيرٍ، وَهُوَ كُرْسِيٌّ طَوِيلٌ مُتَّسِعٌ يَجْلِسُ عَلَيْهِ الْمُتَّكِئُ وَالْمُضْطَجِعُ، لَهُ سُوقٌ أَرْبَعٌ مُرْتَفِعٌ عَلَى الْأَرْضِ بِنَحْوِ ذِرَاعٍ يُتَّخَذُ مِنْ مُخْتَلِفِ الْأَعْوَادِ وَيَتَّخِذُهُ الْمُلُوكُ مِنْ ذهب وَمن فضَّة وَمِنْ عَاجٍ وَمِنْ نَفِيسِ الْعُودِ كَالْأَبَنُوسِ وَيَتَّخِذُهُ
الْعُظَمَاءُ الْمُتَرَفِّهُونَ مِنَ
الْحَدِيدِ الصِّرْفِ وَمِنَ الْحَدِيدِ الْمُلَوَّنِ أَوِ الْمُزَيَّنِ بِالذَّهَبِ. وَالسَّرِيرُ مَجْلِسُ الْعُظَمَاءِ وَالْمُلُوكِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ [44] .
وَالْمَوْضُونَةُ: الْمَسْبُوكُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ كَمَا تُسْبَكُ حِلَقُ الدُّرُوعِ وَإِنَّمَا تُوضَنُ سُطُوحُهَا وَهِيَ مَا بَيْنَ سُوقِهَا الْأَرْبَعِ حَيْثُ تُلْقَى عَلَيْهَا الطَّنَافِسُ أَوِ الزَّرَابِيُّ لِلجُّلُوسِ وَالْاِضْطِجَاعِ لِيَكُونَ ذَلِكَ الْمَفْرَشُ وَثِيرًا فَلَا يُؤْلِمُ الْمُضْطَجِعَ وَلَا الْجَالِسَ. وَفَسَّرَ بَعْضُهُمْ مَوْضُونَةٍ بِمَرْمُولَةٍ، أَيْ مَنْسُوجَةٍ بِقُضْبَانِ الذَّهَبِ.
وَالْاِتِّكَاءُ: اضْطِجَاعٌ مَعَ تَبَاعُدِ أَعْلَى الْجَنْبِ، وَالْاِعْتِمَادِ عَلَى الْمِرْفَقِ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَة الرَّحْمَن.
وَالتَّقَابُلُ: مِنْ تَمَامِ النَّعِيمِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْأُنْسِ بِمُشَاهَدَةِ الْأَصْحَابِ وَالْحَدِيثِ مَعَهُمْ.
وَقَوْلُهُ: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ [الْوَاقِعَة: 12] وَتَقَدَّمَ قَرِيبٍ مِنْهُ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ.
وَالطَّوَافُ: الْمَشْيُ الْمُكَرَّرُ حَوْلَ شَيْءٍ وَهُوَ يَقْتَضِي الْمُلَازِمَةَ لِلشَّيْءِ. وَوُصِفُ الْوِلْدَانِ بِالْمُخَلَّدِينَ، أَيْ دَائِمَيْنِ عَلَى الطَّوَافِ عَلَيْهِمْ وَمُنَاوَلَتِهِمْ لَا يَنْقَطِعُونَ عَنْ ذَلِكَ. وَإِذْ قَدْ أَلِفُوا رُؤْيَتَهُمْ فَمِنَ النِّعْمَةِ دَوَامُهُمْ مَعَهُمْ. وَقَدْ فُسِّرَ مُخَلَّدُونَ بِأَنَّهُمْ مُخَلَّدُونَ فِي صِفَةِ الْوِلْدَانِ، أَيْ بِالشَّبَابِ وَالْغَضَاضَةِ، أَيْ لَيْسُوا كَوِلْدَانِ الدُّنْيَا يَصِيرُونَ قَرِيبًا فِتْيَانًا فَكُهُولًا فَشُيُوخًا.
وَفَسَّرَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ بِأَنَّهُمْ مُقَرَّطُونَ بِالْأَقْرَاطِ. وَالْقُرْطُ يُسَمَّى خُلْدًا وَخَلَدًا وَجَمْعُهُ خِلَدَةٌ كَقِرْدَةٍ وَهِيَ لُغَةٌ حِمْيَرِيَّةٌ اسْتَعْمَلَهَا الْعَرَبُ كُلُّهُمْ وَكَانُوا يُحْسِّنُونَ غِلْمَانَهُمْ بِالْأَقْرَاطِ فِي الْآذَانِ.
وَالْأَكْوَابُ: جَمْعُ كُوبٍ، وَهُوَ إِنَاءُ الْخَمْرِ لَا عُرْوَة لَهُ وَله خُرْطُومَ وَفِيهِ اسْتِدَارَةٌ مُتَّسِعٌ مَوْضِعُ الشُّرْبِ مِنْهُ فَهُوَ كَالْقَدَحِ.
وَالْأَبَارِيقُ: جَمْعُ إِبْرِيقَ وَهُوَ إِنَاءٌ تُحْمَلُ فِيهِ الْخَمْرُ لِلشَّارِبِينَ فَتُصَبُّ فِي الْأَكْوَابِ، وَالْإِبْرِيقُ لَهُ خُرْطُومٌ وَعُرْوَةٌ.
وَالْكَأْسُ: إِنَاءٌ لِلْخَمْرِ كَالْكُوبِ إِلَّا أَنَّهُ مُسْتَطِيلٌ ضَيِّقٌ الْمَشْرَبُ وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ.
وَالْكَأْسُ جِنْسٌ يَصْدُقُ بِالْوَاحِدِ وَالْمُتَعَدِّدِ فَلَيْسَ إِفْرَادُهُ هُنَا لِلْوَحْدَةِ فَإِن المُرَاد كؤوس
كَثِيرَةٌ كَمَا اقْتَضَاهُ جَمْعُ أَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ، فَإِذَا كَانَتْ آنِيَةُ حَمْلِ الْخَمْرِ كَثِيرَة كَانَت كؤوس الشَّارِبِينَ أَكْثَرَ، وَإِنَّمَا أُوثِرَتْ صِيغَةُ الْمُفْرَدِ لِأَنَّ فِي لفظ كؤوس ثِقَلًا بِوُجُودِ هَمْزَةٍ مَضْمُومَةٍ فِي وَسَطِهِ مَعَ ثِقَلِ صِيغَةِ الْجَمْعِ.
وَالْمُعَيَّنُ: الْجَارِي، وَالْمُرَادُ بِهِ الْخَمْرُ الَّتِي لِكَثْرَتِهَا تَجْرِي فِي الْمَجَارِي كَمَا يَجْرِي الْمَاءُ وَلَيْسَتْ قَلِيلَةٌ عَزِيزَةٌ كَمَا هِيَ فِي الدُّنْيَا، قَالَ تَعَالَى: وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ [مُحَمَّد: 15] .
وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْمُعَيَّنِ الْمَاءَ لِأَنَّ الْكَأْسَ لَيْسَتْ مِنْ آنِيَةِ المَاء وَإِنَّمَا آنيتهما الْأَقْدَاحُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ [45، 47] يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ لَا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ وَتِلْكَ صِفَاتُ الْخَمْرِ.
وَالتَّصْدِيعُ: الْإِصَابَةُ بِالصُّدَاعِ، وَهُوَ وَجَعُ الرَّأْسِ مِنَ الْخُمَارِ النَّاشِئِ عَنِ السُّكْرِ، أَيْ لَا تُصِيبُهُمُ الْخَمْرُ بِصُدَاعٍ.
وَمَعْنَى (عَنْهَا) مُجَاوِزِينَ لَهَا، أَيْ لَا يَقَعُ لَهُم صداع ناشىء عَنْهَا، أَيْ فَهِيَ مُنَزَّهَةٌ عَنْ ذَلِكَ بِخِلَافِ خُمُورِ الدُّنْيَا فَاسْتُعْمِلَتْ (عَنْ) فِي مَعْنَى السَّبَبِيَّةَ.
وَعُطِفَ وَلا يُنْزِفُونَ عَلَى لَا يُصَدَّعُونَ عَنْها فَيُقَدَّرُ لَهُ مُتَعَلِّقٌ دَلَّ عَلَيْهِ مُتَعَلِّقُ لَا يُصَدَّعُونَ فَقَدْ قَالَ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ [47] ، وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ أَيْ لَا يَعْتَرِيهِمْ نَزْفٌ بِسَبَبِهَا كَمَا يَحْصُلُ لِلشَّارِبِينَ فِي الدُّنْيَا.
وَالنَّزْفُ: اخْتِلَاطُ الْعَقْلِ، وَفِعْلُهُ مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ يُقَالُ: نُزِفَ عَقْلُهُ مِثْلُ: عُنِيَ فَهُوَ مَنْزُوفٌ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُنْزِفُونَ بِفَتْحِ الزَّايِ مَنْ أَنْزَفَ الَّذِي هَمْزَتُهُ لِلتَّعْدِيَةِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَة وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِكَسْرِ الزَّايِ مِنْ أَنْزَفَ الْمَهْمُوزِ الْقَاصِرِ إِذا سكر وذهر عَقْلُهُ.
والفاكهة: الثِّمَار والنقول كَاللَّوْزِ وَالْفُسْتُقِ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَة الرَّحْمَن. وَعَطْفُ فاكِهَةٍ على بِأَكْوابٍ، أَيْ وَيَطُوفُونَ عَلَيْهِمْ بِفَاكِهَةٍ وَذَلِكَ أَدْخَلُ فِي الدَّعَةِ وألذّ من التَّنَاوُل بِأَيْدِيهِمْ، عَلَى أَنَّهُمْ إِنِ اشْتَهَوُا اقْتِطَافَهَا بِالْأَيْدِي دَنَتْ لَهُمُ الْأَغْصَانُ فَإِنَّ الْمَرْءَ قَدْ يَشْتَهِي تَنَاوُلَ الثَّمَرَةِ من أَغْصَانهَا.
ومِمَّا يَتَخَيَّرُونَ: الْجِنْسُ الَّذِي يَخْتَارُونَهُ وَيَشْتَهُونَهُ، أَيْ يَطُوفُونَ عَلَيْهِمْ بِفَاكِهَةٍ مِنَ الْأَنْوَاعِ الَّتِي يَخْتَارُونَهَا، فَفِعْلُ يَتَخَيَّرُونَ يُفِيدُ قُوَّة الِاخْتِيَار.
و «لحم الطَّيْرِ» : هُوَ أَرْفَعُ اللُّحُومِ وَأَشْهَاهَا وَأَعَزُّهَا.
وَعَطْفُ وَلَحْمِ طَيْرٍ عَلَى فاكِهَةٍ كَعَطْفِ فاكِهَةٍ عَلَى (أَكْوَابٍ) .
وَالْاِشْتِهَاءُ: مَصْدَرُ اشْتَهَى، وَهُوَ افْتِعَالٌ مِنَ الشَّهْوَةِ الَّتِي هِيَ مَحَبَّةُ نَيْلِ شَيْءٍ مَرْغُوبٍ فِيهِ مِنْ مَحْسُوسَاتٍ وَمَعْنَوِيَّاتٍ، يُقَالُ: شَهِيٌّ كَرَضِيٌّ، وَشَهَا كَدَعَا. وَالْأَكْثَرُ أَنْ يُقَالَ:
اشْتَهَى، وَالْاِفْتِعَالُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ.
وَتَقْدِيمُ ذِكْرِ الْفَاكِهَةِ عَلَى ذِكْرِ اللَّحْمِ قَدْ يَكُونُ لِأَنَّ الْفَوَاكِهَ أَعَزُّ. وَبِهَذَا يَظْهَرُ وَجْهُ الْمُخَالَفَةِ بَيْنَ الْفَاكِهَةِ وَلَحْمِ طَيْرٍ فَجُعِلَ التَّخْيِرُ لِلْأَوَّلِ. وَالْاِشْتِهَاءُ لِلثَّانِي وَلِأَنَّ الْاِشْتِهَاءَ أَعْلَقُ بِالطَّعَامِ مِنْهُ بِالْفَوَاكِهِ، فَلَذَّةُ كَسْرِ الشَّاهِيَةِ بِالطَّعَامِ لَذَّةٌ زَائِدَةٌ عَلَى لَذَّةِ حُسْنِ طَعْمِهِ، وَكَثْرَةُ التَّخَيُّرِ لِلْفَاكِهَةِ هِيَ لَذَّةُ تَلْوِينِ الْأَصْنَافِ.
وحُورٌ عِينٌ عَطْفٌ عَلَى وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ، أَيْ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ حُورٌ عِينٌ.
وَالْحُورُ الْعِينُ: النِّسَاءُ ذَوَاتُ الْحَوَرِ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ. وَذَوَاتُ الْعَيْنِ وَهُوَ سِعَةُ الْعَيْنِ وَتَقَدُّمٌ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَحُورٌ عِينٌ بِالْكَسْرِ فِيهِمَا عَلَى أَنَّ حُورٌ عطف على بِأَكْوابٍ عُطِفَ مَعْنَى مِنْ بَابِ قَوْلِهِ:
وَزَجَّجْنَ الْحَوَاجِبَ وَالْعُيُونَا بِتَقْدِيرِ: وَكَحَّلْنَ الْعُيُونَ، أَوْ يُعْطَفُ عَلَى جَنَّاتِ، أَيْ وَفِي حُورٍ عِينٍ، أَيْ هُمْ فِي حُورٍ عِينٍ أَوْ مُحَاطُونَ بِهِنَّ وَمُحَدِّقُونَ بِهِنَّ.
وَالْمُرَادُ: أَزْوَاجُ السَّابِقَيْنِ فِي الْجَنَّةِ وَهُنَّ الْمَقْصُورَاتُ فِي الْخِيَامِ.
وَالْأَمْثَالُ: الْأَشْبَاهُ. وَدُخُولُ كَافِ التَّشْبِيهِ عَلَى (أَمْثَالِ) لِلتَّأْكِيدِ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى:
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] . وَالْمَعْنَى: هُنَّ أَمْثَالُ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ.
واللُّؤْلُؤِ: الدُّرُّ، وَتَقَدَّمَ تَبْيِينُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً فِي سُورَةِ الْحَجِّ [23] .
والْمَكْنُونِ: الْمَخْزُونُ الْمُخَبَّأُ لِنَفَاسَتِهِ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ.
وَانْتَصَبَ جَزاءً عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ لِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْله: الْمُقَرَّبُونَ
[الْوَاقِعَة: 11] ، أَيْ أَعْطَيْنَاهُمْ ذَلِكَ جَزَاءً، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَزاءً مَصْدَرًا جَاءَ بَدَلًا عَنْ فِعْلِهِ، وَالتَّقْدِيرُ: جَازَيْنَاهُمْ جَزَاءً.
وَالْجُمْلَةُ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ اعْتِرَاضٌ تُفِيدُ إِظْهَارَ كَرَامَتِهِمْ بِحَيْثُ جَعَلَتْ أَصْنَاف النَّعيم الَّذين حَظُوا بِهِ جَزَاءً عَلَى عَمَلٍ قَدَّمُوهُ وَذَلِكَ إِتْمَامٌ لِكَوْنِهِمْ مُقَرَّبِينَ.
ثُمَّ أَكْمَلَ وَصْفَ النَّعِيمِ بِقَوْلِهِ: لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً، وَهِيَ نِعْمَةٌ رُوحِيَّةٌ فَإِنَّ سَلَامَةَ النَّفْسِ مِنْ سَمَاعِ مَا لَا يُحِبُّ سَمَاعَهُ وَمِنْ سَمَاعِ مَا يَكْرَهُ سَمَاعَهُ مِنَ الْأَذَى نِعْمَةٌ بِرَاحَةِ الْبَالِ وَشُغْلِهِ بِسَمَاعِ الْمَحْبُوبِ.
وَاللَّغْوُ: الكَّلَامُ الَّذِي لَا يُعْتَدُّ بِهِ كَالْهَذَيَانِ، وَالكَّلَامُ الَّذِي لَا مُحَصِّلَ لَهُ.
وَالتَّأْثِيمُ: اللَّوْمُ وَالْإِنْكَارُ، وَهُوَ مَصْدَرُ أَثَّمَ، إِذَا نَسَبَ غَيْرَهُ إِلَى الْإِثْمِ.
وَضَمِيرُ فِيها عَائِدٌ إِلَى جَنَّاتِ النَّعِيمِ [الْوَاقِعَة: 12] .
وَأَتْبَعَ ذِكْرَ هَذِهِ النِّعْمَةِ بِذِكْرِ نِعْمَةٍ أُخْرَى مِنَ الْأَنْعَامِ بِالْمَسْمُوعِ الَّذِي يُفِيدُ الْكَرَامَةَ لِأَنَّ الْإِكْرَامَ لَذَّةٌ رُوحِيَّةٌ يُكْسِبُ النَّفْسَ عزة وإدلالا بقوله: إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً. وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ لَغْواً- وتَأْثِيماً بِطَرِيقَةِ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ الْمُشْتَهِرَ فِي الْبَدِيعِ بِاسْمِ تَأْكِيدِ الْمَدْحِ لِمَا يُشْبِهُ الذَّمَّ، وَلَهُ مَوْقِعٌ عَظِيم من البلاغة كَقَوْلِه النَّابِغَةِ:
وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ
…
بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ
فَالْاِسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ ادِّعَاءً وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْاِسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ بِحَسَبِ حَاصِلِ الْمَعْنَى، وَعَلَيْهِ فَإِنَّ انْتِصَابَ قِيلًا عَلَى الْاِسْتِثْنَاءِ لَا عَلَى الْبَدَلِيَّةِ مِنْ لَغْواً.
وسَلاماً الْأَوَّلُ مَقُولُ قِيلًا أَيْ هَذَا اللَّفْظِ الَّذِي تَقْدِيرُهُ: سَلَّمْنَا سَلَامًا، فَهُوَ جُمْلَةٌ مَحْكِيَّةٌ بِالْقَوُلِ.
وسَلاماً الثَّانِي تَكْرِيرٌ لِ سَلاماً الْأَوَّلِ تَكْرِيرًا لَيْسَ لِلتَّأْكِيدِ بَلْ لِإِفَادَةِ التَّعَاقُبِ، أَيْ سَلَامًا إِثْرَ سَلَامٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا [الْفجْر: 21] وَقَوْلُهُمْ:
قَرَأَتُ النَّحْوَ بَابًا بَابًا، أَوْ مُشَارًا بِهِ إِلَى كَثْرَةِ الْمُسَلِّمِينَ فَهُوَ مُؤْذِنٌ مَعَ الْكَرَامَةِ بِأَنَّهُمْ مُعَظَّمُونَ مُبَجَّلُونَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْوَجْهَيْنِ أَنَّ الْأَوَّلَ يُفِيدُ التَّكْرِيرَ بِتَكْرِيرِ الْأَزْمِنَةِ، وَالثَّانِي يُفِيد التّكْرَار بتكرار الْمُسْلِمِينَ.
وَهَذَا الْقِيلُ يَتَلَقَّوْنَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِالْجَنَّةِ، قَالَ تَعَالَى: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ [الرَّعْد: 23، 24] وَيَتَلَقَّاهُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ كَمَا
قَالَ تَعَالَى: وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ [يُونُس: 10] .
وَإِنَّمَا جِيءَ بِلَفْظِ: سَلاماً مَنْصُوبًا دُونَ الرَّفْعِ مَعَ كَوْنِ الرَّفْعِ أَدَلَّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ كَمَا ذَكَرُوهُ فِي قَوْلِهِ: قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فِي سُورَةِ هُودٍ [69] وَسُورَةِ الذَّارِيَاتِ [25] لِأَنَّهُ أُرِيدَ جَعْلُهُ بَدَلًا من قِيلًا.