الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سُورَة الرَّحْمَن (55) : آيَة 77]
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (77)
هَذِهِ الْجُمْلَةُ آخِرُ الْجُمَلِ الْمُكَرَّرَةِ وَبِهَا انْتَهَى الكَّلَامُ الْمَسُوقُ لِلْاِسْتِدْلَالِ عَلَى تَفَرُّدِ اللَّهِ بالإنعام وَالتَّصَرُّف.
[78]
[سُورَة الرَّحْمَن (55) : آيَة 78]
تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (78)
إِيذَانٌ بِانْتِهَاءِ الْكَلَامِ وَفَذْلَكَةً لِمَا بُنِيَتْ عَلَيْهِ السُّورَةُ مِنَ التَّذْكِيرِ بِعَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَعْمَائِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَالكَّلَامُ: إِنْشَاءُ ثَنَاءٍ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مَبَالِغٍ فِيهِ بِصِيغَةِ التَّفَعُّلِ الَّتِي إِذَا كَانَ فِعْلُهَا غَيْرَ صَادِرٍ مِنِ اثْنَيْنِ فَالْمَقْصُودُ مِنْهَا الْمُبَالَغَةُ.
وَالْمَعْنَى: وَصَفُهُ تَعَالَى بِكَمَالِ الْبَرَكَةِ، وَالْبَرَكَةُ: الْخَيْرُ الْعَظِيمُ وَالنَّفْعُ، وَقَدْ تُطْلَقُ الْبَرَكَةُ عَلَى عُلُوِّ الشَّأْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْفُرْقَانِ.
وَالْاِسْمُ مَا دَلَّ عَلَى ذَاتٍ سَوَاءَ كَانَ عَلَمًا مِثْلَ لَفْظِ «اللَّهِ» أَوْ كَانَ صِفَةً مِثْلَ الصِّفَاتِ الْعُلَى وَهِيَ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى، فَأَيُّ اسْمٍ قَدَّرْتَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ فَهُوَ دَالٌّ عَلَى ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَأَسْنَدَ تَبارَكَ إِلَى اسْمُ وَهُوَ مَا يُعْرَفُ بِهِ الْمُسَمَّى دُونَ أَنْ يَقُولَ: تَبَارَكَ رَبُّكَ، كَمَا قَالَ: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ [الْفُرْقَانَ: 1] وَكَمَا قَالَ: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [الْمُؤْمِنُونَ: 14] لقصد الْمُبَالغَة فِي وَصفه تَعَالَى بِصِفَةِ الْبَرَكَةِ عَلَى طَرِيقَةِ الْكِنَايَةِ لِأَنَّهَا أَبْلَغُ مِنَ التَّصْرِيحِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي، وَأَطْبَقَ عَلَيْهِ الْبُلَغَاءُ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ اسْمُهُ قَدْ تَبَارَكَ فَإِنَّ ذَاتَهُ تَبَارَكَتْ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّ الْاِسْمَ دَالٌّ عَلَى الْمُسَمَّى، وَهَذَا عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى:
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الْأَعْلَى: 1] فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ التَّنْزِيهُ مُتَعَلِّقًا بِاسْمِهِ فَتَعَلُّقُ التَّنْزِيهِ بِذَاتِهِ أَوْلَى وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر: 4] عَلَى التَّأْوِيلِ الشَّامِلِ، وَقَوْلُ عَنْتَرَةَ:
فَشَكَكْتُ بِالرُّمْحِ الْأَصَمِّ ثِيَابَهُ
…
لَيْسَ الْكَرِيمُ عَلَى الْقَنَا بِمُحْرِمٍ
أَرَادَ: فَشَكَكْتُهُ بِالرُّمْحِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الْوَاقِعَة: 96] فَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [النَّصْر: 3] عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنْ يَقُولَ كَلَامًا فِيهِ تَنْزِيهٌ اللَّهِ فَيكون من قبيل قَوْله: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، [الْفَاتِحَة: 1] وَيَحْتَمِلُ زِيَادَةَ الْبَاءِ فَيَكُونُ مُسَاوِيًا لِقَوْلِهِ:
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الْأَعْلَى: 1] .
وَهَذِهِ الْكِنَايَةُ مِنْ دَقَائِقِ الْكَلَامِ كَقَوْلِهِمْ: لَا يَتَعَلَّقُ الشَّكُّ بِأَطْرَافِهِ وَقَوْلِ
…
:
يَبِيتُ بِنَجَاةٍ مِنَ اللُّؤْمِ بَيْتُهَا
…
إِذَا مَا بُيُوتٌ بِالْمَلَامَةِ حَلَّتْ
وَنَظِيرُ هَذَا فِي التَّنْزِيهِ أَنَّ الْقُرْآنَ يَقْرَأُ أَلْفَاظَهُ من لَيْسَ بمتوضىء وَلَا يُمْسِكُ الْمُصْحَفَ إِلَّا الْمُتَوَضِّئُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
فَذِكْرُ اسْمُ فِي قَوْلِهِ: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ مُرَاعًى فِيهِ أَنَّ مَا عدّد من شؤون اللَّهِ
تَعَالَى وَنِعَمِهِ وَإِفْضَالِهِ لَا تُحِيطُ بِهِ الْعِبَارَةُ، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِهَذِهِ الْمُبَالَغَةِ إِذْ هِيَ أَقْصَى مَا تَسْمَحُ بِهِ اللُّغَةُ فِي التَّعْبِيرِ، لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّهُمْ مَحْقُوقُونَ لِلَّهِ تَعَالَى بِشُكْرٍ يُوَازِي عِظَمَ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ.
وَفِي اسْتِحْضَارِ الْجَلَالَةِ بِعُنْوَانِ (رَبِّ) مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطب وَهُوَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِشَارَةٌ إِلَى مَا فِي مَعْنَى الرَّبِّ مِنَ السِّيَادَةِ الْمَشُوبَةِ بِالرَّأْفَةِ وَالتَّنْمِيَةِ، وَإِلَى مَا فِي الْإِضَافَةِ مِنَ التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ وَإِلَى كَوْنِ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم هُوَ الْوَاسِطَةُ فِي حُصُولِ تِلْكَ الْخَيِّرَاتِ لِلَّذِينِ خَافُوا مَقَامَ رَبِّهِمْ بِمَا بَلَّغَهُمُ النَّبِيءُ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْهُدَى.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ ذِي الْجَلَالِ بِالْيَاءِ مَجْرُورًا صِفَةً لِ رَبِّكَ وَهُوَ كَذَلِكَ مَرْسُومٌ فِي غَيْرِ الْمُصْحَفِ الشَّامِيِّ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ ذُو الْجَلالِ صِفَةً لِ اسْمَ كَمَا فِي قَوْلِهِ:
وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [الرَّحْمَن: 27] . وَكَذَلِكَ هُوَ مَرْسُومٌ فِي غَيْرِ مُصْحَفِ أَهْلِ الشَّامِ. وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ عَلَى الْاِعْتِبَارَيْنِ.
وَلَكِنَّ إِجْمَاعَ الْقُرَّاءِ عَلَى رَفْعِ ذُو الْجَلالِ الْوَاقِعِ مَوْقِعَ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ وَاخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ فِي جَرِّ ذِي الْجَلالِ هُنَا يُشْعِرُ بِأَنَّ لَفْظَ وَجْهُ أَقْوَى دَلَالَةٍ عَلَى الذَّاتِ مَنْ لَفْظِ اسْمُ لِمَا عَلِمْتَ مِنْ جَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى جَرَيَانَ الْبَرَكَةِ
عَلَى التَّلَفُّظِ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ فَذَلِكَ مِنْ حِكْمَةِ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ.
وَالْجَلَالُ: الْعَظَمَةُ، وَهُوَ جَامِعٌ لِصِفَاتِ الْكَمَالِ اللَّائِقَةِ بِهِ تَعَالَى.
وَالْإِكْرَامُ: إِسْدَاءُ النِّعْمَةِ وَالْخَيْرِ، فَهُوَ إِذْنٌ حَقِيقٌ بِالثَّنَاءِ وَالشُّكْرِ.