الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَالْعِلْمُ الْمَنْفِيُّ فِي قَوْله: فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ
[الْوَاقِعَة: 61] ، هُوَ الْعِلْمُ التَّفْصِيلِيُّ، وَالْعِلْمُ الْمُثْبَتُ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى هُوَ الْعِلْمُ الْإِجْمَالِيُّ، وَالْإِجْمَالِيُّ كَافٍ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى التَّفْصِيلِيِّ إِذْ لَا أَثَرَ لِلتَّفْصِيلِ فِي الْاِعْتِقَادِ.
وَفِي الْمُقَابَلَةِ بَين قَوْله: فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ
[الْوَاقِعَة: 61] بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ مُحَسِّنُ الطِّبَاقَ.
وَلَمَّا كَانَ عِلْمُهُمْ بِالنَّشْأَةِ الْأُولَى كَافِيًا لَهُمْ فِي إِبْطَالِ إِحَالَتِهِمُ النَّشْأَةَ الثَّانِيَةَ رَتَّبَ عَلَيْهِ مِنَ التَّوْبِيخِ مَا لَمْ يُرَتِّبْ مِثْلَهُ عَلَى قَوْلِهِ: وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ [الْوَاقِعَة: 60، 61] فَقَالَ: فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ، أَيْ هَلَّا تَذَكَّرْتُمْ بِذَلِكَ فَأَمْسَكْتُمْ عَنِ الْجَحْدِ، وَهَذَا تَجْهِيلٌ لَهُمْ فِي تَرْكِهِمْ قِيَاسَ الْأَشْبَاهِ عَلَى أَشْبَاهِهَا، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ آنِفًا: نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ [الْوَاقِعَة: 57] .
وَجِيءَ بِالْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: تَذَكَّرُونَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ بَابَ التَّذَكُّرِ مَفْتُوحٌ فَإِنْ فَاتَهُمُ التَّذَكُّرُ فِيمَا مَضَى فَلْيَتَدَارَكُوهُ الْآنَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ النَّشْأَةَ بِسُكُونِ الشِّينِ تَلِيهَا هَمْزَةٌ مَفْتُوحَةٌ مَصْدَرَ نَشَأَ عَلَى وَزْنِ الْمَرَّةِ وَهِي مرّة للْجِنْس. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحْدَهُ بِفَتْحِ الشِّينِ بَعْدَهَا أَلِفٌ تَلِيهَا هَمْزَةٌ، وَهُوَ مَصْدَرٌ عَلَى وَزْنِ الْفَعَالَةِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَة العنكبوت.
[63، 64]
[سُورَة الْوَاقِعَة (56) : الْآيَات 63 إِلَى 64]
أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64)
انْتِقَالٌ إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ وَصَلَاحِيَةِ قُدْرَةِ اللَّهِ لَهُ بِضَرْبٍ آخَرَ مِنْ ضُرُوبِ الْإِنْشَاءِ بَعْدَ الْعَدَمِ.
فَالْفَاءُ لِتَفْرِيعِ مَا بَعْدَهَا عَلَى جُمْلَةِ: نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ [الْوَاقِعَة: 57] كَمَا فَرَّعَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ [الْوَاقِعَة: 58] لِيَكُونَ الْغَرَضُ مِنْ هَذِهِ الْجُمَلِ مُتَّحِدًا وَهُوَ الْاِسْتِدْلَالُ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ، فَقَصَدَ تَكْرِيرَ الْاِسْتِدْلَالِ وَتَعْدَادَهُ بِإِعَادَةِ جُمْلَةِ
أَفَرَأَيْتُمْ وَإِنْ كَانَ مَفْعُولُ فِعْلِ الرُّؤْيَةِ مُخْتَلِفًا وَسَيَجِيءُ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ بَعْدَهُ أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ [الْوَاقِعَة: 68] وَقَوْلِهِ: أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ [الْوَاقِعَة: 71] .
وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ الْفَاءَ لِتَفْرِيعِ مُجَرَّدِ اسْتِدْلَال على اسْتِدْلَالٍ لَا لِتَفْرِيعِ مَعْنَى مَعْطُوفِهَا عَلَى مَعْنَى الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، عَلَى أَنَّهُ لَمَّا آلَ الْاِسْتِدْلَالُ السَّابِقُ إِلَى عُمُومِ صَلَاحِيَّةِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ جَازَ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُرَادًا بِهَا تَمْثِيلٌ بِنَوْعٍ عَجِيبٍ مِنْ أَنْوَاعِ تَعَلُّقَاتِ الْقُدْرَةِ بِالْإِيجَادِ دُونَ إِرَادَةِ الْاِسْتِدْلَالِ عَلَى خُصُوصِ الْبَعْثِ فَيَصِحُّ جَعْلُ الْفَاءِ تَفْرِيعًا عَلَى جُمْلَةِ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا اقْتَضَتْ سِعَةَ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ.
وَمُنَاسِبَةُ الْاِنْتِقَالِ مِنَ الْاِسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ النَّسْلِ إِلَى الْاِسْتِدْلَالِ بِنَبَاتِ الزَّرْعِ هِيَ التَّشَابُهُ الْبَيِّنُ بَيْنَ تَكْوِينِ الْإِنْسَانِ وَتَكْوِينِ النَّبَاتِ، قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: 17] .
وَالْقَوْلُ فِي أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ [الْوَاقِعَة: 58] .
وَمَا تَحْرُثُونَ مَوْصُول وصلَة وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ.
وَالْحَرْثُ: شَقُّ الْأَرْضِ لِيُزْرَعَ فِيهَا أَوْ يُغْرَسَ.
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: مَا تَحْرُثُونَ أَنَّهُ الْأَرْضُ إِلَّا أَنَّ هَذَا لَا يُلَائِمُ ضَمِيرَ تَزْرَعُونَهُ فَتَعَيَّنَ تَأْوِيلُ مَا تَحْرُثُونَ بِأَنْ يُقَدَّرَ: مَا تَحْرُثُونَ لَهُ، أَيْ لِأَجْلِهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ، وَالَّذِي يَحْرُثُونَ لِأَجْلِهِ هُوَ النَّبَاتُ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا ضَمِيرُ النَّصْبِ فِي أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ لِأَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ فِي مَعْنَى النَّفْيِ وَالَّذِي يُنْفَى هُوَ مَا يَنْبُتُ مِنَ الْحَبِّ لَا بَذْرُهُ.
فَإِنَّ فِعْلَ (زَرَعَ) يُطْلَقُ بِمَعْنَى: أَنْبَتَ، قَالَ الرَّاغِبُ: الزَّرْعُ، الْإِنْبَاتُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ فَنَفَى عَنْهُمُ الزَّرْعَ وَنَسَبَهُ إِلَى نَفْسِهِ اه وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ، وَيُطْلَقُ فِعْلُ (زَرَعَ) بِمَعْنَى: بَذَرَ الْحَبَّ فِي الْأَرْضِ لِقَوْلِ صَاحِبِ «لِسَانِ الْعَرَبِ» : زَرَعَ الْحَبَّ: بَذَرَهُ، أَيْ وَمِنْهُ سُمِّيَ الْحَبُّ الَّذِي يُبْذَرُ فِي الْأَرْضِ زَرِيعَةً لَكِنْ لَا يَنْبَغِي حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْإِطْلَاقِ. فَالْمَعْنَى: أَفَرَأَيْتُمْ