الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ فِي تَطَوُّعِ أَحَدٍ عَنْ أَحَدٍ بِقُرْبَةٍ، وَأَمَّا الِاسْتِئْجَارُ عَلَى النِّيَابَةِ فِي الْقُرَبِ: فَأَمَّا الْحَجُّ فَقَدْ ذَكَرُوا فِيهِ جَوَازَ الِاسْتِئْجَارِ بِوَصِيَّةٍ، أَوْ بِغَيْرِهَا، لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ مِنْ مُقَوِّمَاتِ الْحَجِّ، وَيَظْهَرُ أَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ لَا يَجُوزُ أَخْذُ فَاعِلِهَا أُجْرَةً عَلَى فِعْلِهَا كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ لَا يَصِحُّ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الِاسْتِنَابَةِ فِيهَا، وَأَنَّ الْقُرَبَ الَّتِي يَصِحُّ أَخْذُ الْأَجْرِ عَلَيْهَا يَصِحُّ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى النِّيَابَةِ فِيهَا مِثْلَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، فَقَدَ أَقَرَّ النَّبِيءُ صلى الله عليه وسلم فِعْلَ الَّذِينَ أَخَذُوا أَجْرًا عَلَى رُقْيَةِ الْمَلْدُوغِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ.
وَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا كُلَّهُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى هُوَ حُكْمٌ كَانَ فِي شَرِيعَةٍ سَالِفَةٍ، فَالْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ لَا يَنْسَحِبُ عَلَيْنَا لَمْ يَكُنْ فِيمَا وَرَدَ مِنَ الْأَخْبَارِ بِصِحَّةِ
النِّيَابَةِ فِي الْأَعْمَالِ فِي دِينِنَا مَعَارِضٌ لِمُقْتَضَى الْآيَةِ، وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ شَرْعَ غَيْرِنَا شَرْعٌ لَنَا مَا لَمْ يَرِدْ نَاسِخٌ، مِنْهُمْ مَنْ أَعْمَلَ عُمُومَ الْآيَةِ وَتَأَوَّلَ الْأَخْبَارَ الْمُعَارِضَةَ لَهَا بِالْخُصُوصِيَّةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا مُخَصِّصَةً لِلْعُمُومِ، أَوْ نَاسِخَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَ ظَاهِرَ الْآيَةِ بِأَنَّ الْمُرَادَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ حَقِيقَةً بِحَيْثُ يَعْتَمِدُ عَلَى عَمَلِهِ، أَوْ تَأَوَّلَ السَّعْيَ بِالنِّيَّةِ. وَتَأَوَّلَ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ:
لِلْإِنْسانِ بِمَعْنى (على) ، أَي لَيْسَ عَلَيْهِ سَيِّئَاتُ غَيْرِهِ.
وَفِي تَفْسِير سُورَة الرحمان مِنَ «الْكَشَّافِ» : أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ طَاهِرٍ قَالَ لِلْحُسَيْنِ بْنِ الْفَضْلِ: أُشْكِلَتْ عَلَيَّ ثَلَاثُ آيَاتٍ. فَذَكَرَ لَهُ مِنْهَا قَوْلَهُ تَعَالَى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى فَمَا بَالُ الْأَضْعَافِ، أَيْ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً [الْبَقَرَة: 245]، فَقَالَ الْحُسَيْنُ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إِلَّا مَا سَعَى عَدْلًا، وَلِي أَنْ أُجْزِيَهُ بِوَاحِدَةٍ ألفا فضلا (1) .
[40، 41]
[سُورَة النَّجْم (53) : الْآيَات 40 إِلَى 41]
وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (40) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (41)
يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [النَّجْم: 38] فَهِيَ مِنْ تَمام تَفْسِير بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ [النَّجْم: 36، 37] فَيَكُونُ تَغْيِيرُ الْأُسْلُوبِ إِذْ جِيءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِحَرْفِ أَنَّ الْمُشَدَّدَةِ لِاقْتِضَاءِ الْمَقَامِ أَنْ يَقَعَ الْإِخْبَارُ عَنْ سَعْيِ الْإِنْسَانِ بِأَنَّهُ
(1) انْظُر مَا يَأْتِي عِنْد قَوْله تَعَالَى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ فِي سُورَة الرحمان [29] .
يُعْلَنُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (وَذَلِكَ مِنْ تَوَابِعِ أَن لَيْسَ بِهِ إِلَّا مَا سَعَى)، فَلَمَّا كَانَ لَفْظُ سَعْيَهُ صَالِحًا لِلْوُقُوعِ اسْمًا لِحَرْفِ أَنَّ زَالَ مُقْتَضَى اجْتِلَابِ ضَمِيرِ الشَّأْنِ فَزَالَ مُقْتَضَى (أَنِ) الْمُخَفَّفَةِ. وَقَدْ يَكُونُ مَضْمُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ [الشُّعَرَاء: 87] .
وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ قَوْلِهِ مَضْمُونُ قَوْلِهِ: وَأَنَّ سَعْيَهُ مَشْمُولًا لِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ فَعَطْفُهُ عَلَى (مَا) الْمَوْصُولَةِ مِنْ قَوْلِهِ: بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ [النَّجْم:
36، 37] ، عَطْفُ الْمُفْرَدِ عَلَى الْمُفْرَدِ فَيَكُونُ مَعْمُولًا لِبَاءِ الْجَرِّ فِي قَوْلِهِ: فِي صُحُفِ مُوسى إِلَخْ، وَالتَّقْدِيرُ: لَمْ يُنَبَّأْ بِأَنَّ سَعْيَ الْإِنْسَانِ سَوْفَ يُرَى، أَيْ لَا بُدَّ أَنْ يُرَى، أَيْ يُجَازَى عَلَيْهِ، أَيْ لَمْ يُنَبَّأْ بِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ الدِّينِيَّةِ وَعَلَيْهِ فَلَا نَتَطَلَّبُ ثُبُوتَ مَضْمُونِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام.
وسَوْفَ حَرْفُ اسْتِقْبَالٍ وَالْأَكْثَرُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمُسْتَقْبَلُ الْبَعِيدُ.
وَمَعْنَى يُرى يُشَاهَدُ عِنْدَ الْحِسَابِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حاضِراً [الْكَهْف: 49]، فَيَجُوزُ أَنْ تُجَسَّمَ الْأَعْمَالُ فَتَصِيرَ مُشَاهَدَةً وَأُمُورُ الْآخِرَةِ مُخَالِفَةٌ لِمُعْتَادِ أُمُورِ الدُّنْيَا. وَيَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ عَلَامَاتٍ عَلَى الْأَعْمَالِ يُعْلَنُ بِهَا عَنْهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ [التَّحْرِيم: 8] . وَمَا
فِي الْحَدِيثِ «يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادَرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانٍ»
فَيُقَدَّرُ مُضَافٌ تَقْدِيرُهُ: وَأَنَّ عُنْوَانَ سَعْيِهِ سَوْفَ يُرَى.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِإِشْهَارِ الْعَمَلِ وَالسَّعْيِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ [الْأَعْرَاف: 49] الْآيَةَ، وَكَمَا
قَالَ النَّبِيءُ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَمَّعَ بِأَخِيهِ فِيمَا يَكْرَهُ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ سَامِعَ خَلْقِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
، فَتَكُونُ الرُّؤْيَةُ مُسْتَعَارَةً لِلْعِلْمِ لِقَصْدِ تحقق الْعلم واشتهاره.
وَحِكْمَةُ ذَلِكَ تَشْرِيفُ الْمُحْسِنِينَ بِحُسْنِ السُّمْعَةِ وَانْكِسَارِ الْمُسِيئِينَ بِسُوءِ الْأُحْدُوثَةِ.
وَقَوْلُهُ: ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْجُمْلَةِ.