الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَعُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ: أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أَن غَيرهم لاحظ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ لِأَنَّ مَعْنَى إِعْدَادِ شَيْءٍ لِشَيْءٍ قَصْرُهُ عَلَيْهِ.
وَجَمْعُ الرُّسُلِ هُنَا يَشْمَلُ كُلَّ أُمَّةٍ آمَنُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِمُ الَّذِي أَرْسَلَهُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ، وَلَيْسَ يَلْزَمُهَا أَنْ تُؤْمِنَ بِرَسُولٍ أُرْسِلَ إِلَى أُمَّةٍ أُخْرَى وَلَمْ يَدْعُ غَيْرَهَا إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ.
وَالْإِشَارَةُ فِي ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنَ الْمَغْفِرَة وَالْجنَّة.
[22، 23]
[سُورَة الْحَدِيد (57) : الْآيَات 22 إِلَى 23]
مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَاّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مَا فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (23)
لَمَّا جَرَى ذِكْرُ الْجِهَادِ آنِفًا بِقَوْلِهِ: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ [الْحَدِيد: 10] وَقَوْلِهِ: وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ [الْحَدِيد: 19] عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمين هُنَا لَك، وَجَرَى ذِكْرُ الدُّنْيَا فِي قَوْلِهِ: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ [الْحَدِيد: 20] وَكَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ مِمَّا تَحْدُثُ فِيهِ الْمَصَائِبُ مِنْ قَتْلٍ وَقَطْعٍ وَأَسْرٍ فِي الْجِهَادِ، وَمِنْ كَوَارِثَ تَعْرِضُ فِي الْحَيَاةِ مِنْ فَقْدٍ وَأَلَمٍ وَاحْتِيَاجٍ، وَجَرَى مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِالنَّبَاتِ، وَكَانَ ذَلِكَ مَا يَعْرِضُ لَهُ الْقَحْطُ وَالْجَوَائِحِ، أُتْبِعَ ذَلِكَ بِتَسْلِيَةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَا يُصِيبُهُمْ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا قَدْ تَخَلَّقُوا بِآدَابِ الدُّنْيَا مِنْ قَبْلُ فَرُبَّمَا لَحِقَهُمْ ضُرٌّ أَوْ رُزْءٌ خَارِجٌ عَنْ نِطَاقِ قُدْرَتِهِمْ وَكَسْبِهِمْ فَأُعْلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا اقْتَضَاهُ ارْتِبَاطُ أَسْبَابِ الْحَوَادِثِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ عَلَى
مَا سَيَّرَهَا عَلَيْهِ نِظَامُ جَمِيعِ الْكَائِنَاتِ فِي هَذَا الْعَالَمِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها [الْحَدِيد: 22] كَمَا سَتَعْلَمُهُ، فَلَمْ يَمْلِكْهُمُ الْغَمُّ وَالْحُزْنُ، وَانْتَقَلُوا عَنْ ذَلِكَ إِلَى الْإِقْبَالِ عَلَى مَا يُهِمُّهُمْ مِنَ الْأُمُورِ وَلَمْ يُلْهِمْهُمُ التَّحَرُّقُ عَلَى مَا فَاتَ عَلَى نَحْوِ مَا وَقَعَ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لَا تَشْعُرُونَ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ [الْبَقَرَة: 154- 156] ، وَلَعَلَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ أَصَابَتْهُمْ
شِدَّةٌ فِي إِحْدَى الْمَغَازِي أَوْ حَبْسُ مَطَرٍ أَو نَحْو ذَلِكُم مِمَّا كَانَ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ.
وَ (مَا) نَافِيَةٌ وَ (مِنْ) زَائِدَةٌ فِي النَّفْيِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى نَفْيِ الْجِنْسِ قَصْدًا لِلْعُمُومِ.
وَمَفْعُولُ أَصابَ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: مَا أَصَابَكُمْ أَوْ مَا أَصَابَ أَحَدًا.
وَقَوْلُهُ: فِي الْأَرْضِ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَصَائِبِ الْعَامَّةِ كَالْقَحْطِ وَفَيَضَانِ السُّيُولِ وَمَوَتَانِ الْأَنْعَامِ وَتَلَفِ الْأَمْوَالِ.
وَقَوْلُهُ: وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَصَائِبِ اللَّاحِقَةِ لِذَوَاتِ النَّاسِ مِنَ الْأَمْرَاضِ وَقَطْعِ الْأَعْضَاءِ وَالْأَسْرِ فِي الْحَرْبِ وَمَوْتِ الْأَحْبَابِ وَمَوْتِ الْمَرْءِ نَفْسِهِ فَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ مُصِيبَةً فِي قَوْلِهِ: فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ [الْمَائِدَة: 106] . وَتَكْرِيرُ حَرْفِ النَّفْيِ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَى الْمَنْفِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ لِقَصْدِ الِاهْتِمَامِ بِذَلِكَ الْمَذْكُورِ بِخُصُوصِهِ فَإِنَّ الْمَصَائِبَ الْخَاصَّةَ بِالنَّفْسِ أَشَدُّ وَقْعًا عَلَى الْمُصَابِ، فَإِنَّ الْمَصَائِبَ الْعَامَّةَ إِذَا أَخْطَأَتْهُ فَإِنَّمَا يَتَأَثَّرُ لَهَا تَأَثُّرًا بِالتَّعَقُّلِ لَا بِالْحِسِّ فَلَا تَدُومُ مُلَاحَظَةُ النَّفْسِ إِيَّاهُ.
وَالْاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا فِي كِتابٍ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ أَحْوَالٍ مَنْفِيَّةٍ بِ (مَا)، إِذِ التَّقْدِيرُ: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ كَائِنَةٍ فِي حَالٍ إِلَّا فِي حَالِ كَوْنِهَا مَكْتُوبَةً فِي كِتَابٍ، أَيْ مُثْبَتَةً فِيهِ.
وَالْكِتَابُ: مَجَازٌ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَوَجْهُ المشابهة عدم قبُوله التَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ وَالتَّخَلُّفِ، قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ:
حَذَرَ الْجَوْرِ وَالتَّطَاخِي وَهَلْ
…
يَنْقُضُ مَا فِي الْمَهَارِقِ الْأَهْوَاءُ
وَمِنْ ذَلِكَ عِلْمُهُ وَتَقْدِيرُهُ لِأَسْبَابِ حُصُولِهَا وَوَقْتِ خَلْقِهَا وَتَرَتُّبِ آثَارِهَا وَالْقَصْرِ الْمُفَادِ بِ (إِلَّا) قَصْرُ مَوْصُوفٍ عَلَى صِفَةٍ وَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، أَيْ إِلَّا فِي حَالِ كَوْنِهَا فِي كِتَابٍ دُونَ عَدَمِ سَبْقِ تَقْدِيرِهَا فِي عِلْمِ اللَّهِ رَدًّا عَلَى اعْتِقَادِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ
تَعَالَى: وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا مَا ماتُوا وَما قُتِلُوا [آل عمرَان: 156] وَقَوْلِهِ: الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا مَا قُتِلُوا [آل عمرَان: 168] .
وَهَذَا الْكَلَامُ يَجْمَعُ الْإِشَارَةَ إِلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَ نِظَامَ هَذَا الْعَالَمِ عَلَى أَنْ تَتَرَتَّبَ الْمُسَبِّبَاتُ عَلَى أَسْبَابِهَا، وَقَدَّرَ ذَلِكَ وَعَلِمَهُ، وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ: وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ [فاطر: 11] وَنَحْوُ ذَلِكَ.
وَالْبَرْءُ: بِفَتْحِ الْبَاءِ: الْخَلْقُ وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الْبَارِئُ، وَضَمِيرُ النَّصْبِ فِي نَبْرَأَها عَائِدٌ إِلَى الْأَرْضِ أَوْ إِلَى الْأَنْفُسِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ رَدٌّ عَلَى أَهْلِ الضَّلَالِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَبَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ لَا يُثْبِتُونَ لِلَّهِ عُمُومَ الْعِلْمِ وَيُجَوِّزُونَ عَلَيْهِ الْبَدَاءَ وَتَمَشِّي الْحِيَلِ، وَلِأَجْلِ قَصْدِ الرَّدِّ عَلَى الْمُنْكِرِينَ أَكَّدَ الْخَبَرَ بِ (إِنَّ) .
وَالتَّعْلِيلُ بِلَامِ الْعِلَّةِ وَ (كَيْ) مُتَعَلِّقٌ بِمُقَدَّرٍ دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الْإِخْبَارُ الْحَكِيمُ، أَيْ أَعْلَمْنَاكُمْ بِذَلِكَ لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ إِلَخْ، أَيْ لِفَائِدَةِ اسْتِكْمَالِ مُدْرِكَاتِكُمْ وَعُقُولِكُمْ فَلَا تَجْزَعُوا لِلْمَصَائِبِ لِأَنَّ مَنْ أَيْقَنَ أَنَّ مَا عِنْدَهُ مِنْ نعْمَة دنيوية مَفْقُود يَوْمًا لَا مَحَالَةَ لَمْ يَتَفَاقَمْ جَزَعُهُ عِنْدَ فَقْدِهِ لِأَنَّهُ قَدْ وَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ أَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى كُثَيِّرٌ فِي قَوْلِهِ:
فَقُلْتُ لَهَا يَا عَزُّ كُلُّ مُصِيبَةٍ
…
إِذَا وُطِّنَتْ يَوْمًا لَهَا النَّفْسُ ذَلَّتِ
وَقَوْلُهُ: وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ تتميم لقَوْله: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مَا فاتَكُمْ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْكَلَامِ أَنْ لَا يَأَسَوْا عِنْدَ حُلُولِ الْمَصَائِبِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ قَوْلُهُ: مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ
…
إِلَّا فِي كِتابٍ ثُمَّ يَعْلَمُ أَنَّ الْمَسَرَّاتِ كَذَلِكَ بِطَرِيقِ الِاكْتِفَاءِ فَإِنَّ مِنَ الْمَسَرَّاتِ مَا يَحْصُلُ لِلْمَرْءِ عَنْ غَيْرِ تَرَقُّبٍ وَهُوَ أَوْقَعُ فِي الْمَسَرَّةِ كَمُلَ أَدَبُهُ بِطَرِيقِ الْمُقَابَلَةِ.
وَالْفَرَحُ الْمَنْفِيُّ هُوَ الشَّدِيدُ مِنْهُ الْبَالِغُ حَدَّ الْبَطَرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ قَارُونَ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [الْقَصَص: 76] . وَقَدْ فَسَّرَهُ التَّذْيِيلُ مِنْ قَوْلِهِ:
وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ.
وَالْمَعْنَى: أَخْبَرْتُكُمْ بِذَلِكَ لِتَكُونُوا حُكَمَاءَ بُصَرَاءَ فَتَعْلَمُوا أَنَّ لِجَمِيعِ ذَلِكَ أَسْبَابًا وَعِلَلًا، وَأَنَّ لِلْعَالَمِ نِظَامًا مُرْتَبِطًا بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، وَأَنَّ الْآثَارَ حَاصِلَةٌ عَقِبَ مُؤْثِرَاتِهَا
لَا مَحَالَةَ، وَأَنَّ إِفْضَاءَهَا إِلَيْهَا بَعْضُهُ خَارِجٌ عَنْ طَوْقِ الْبَشَرِ وَمُتَجَاوِزٌ حَدَّ مُعَالَجَتِهِ وَمُحَاوَلَتِهِ، وَفِعْلُ الْفَوَاتِ مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْفَائِتَ قَدْ سَعَى الْمُفَوَّتُ عَلَيْهِ فِي تَحْصِيلِهِ ثُمَّ غُلِبَ عَلَى نَوَالِهِ
بِخُرُوجِهِ عَنْ مِكْنَتِهِ، فَإِذَا رَسَخَ ذَلِكَ فِي عِلْمِ أَحَدٍ لَمْ يَحْزَنْ عَلَى مَا فَاتَهُ مِمَّا لَا يَسْتَطِيعُ دَفْعَهُ وَلَمْ يَغْفُلْ عَنْ تَرَقُّبِ زَوَالِ مَا يَسُرُّهُ إِذَا كَانَ مِمَّا يَسُرُّهُ، وَمَنْ لَمْ يَتَخَلَّقْ بِخُلُقِ الْإِسْلَامِ يتخبط فِي الْجُوع إِذَا أَصَابَهُ مُصَابٌ وَيُسْتَطَارُ خُيَلَاءً وَتَطَاوُلًا إِذَا نَالَهُ أَمْرٌ مَحْبُوبٌ فَيَخْرُجُ عَنِ الْحِكْمَة فِي الْحَالين.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُفَرِّحَاتِ صَائِرَةٌ إِلَى زَوَالٍ وَأَنَّ زَوَالَهَا مُصِيبَةٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا مَقَامُ الْمُؤْمِنِ مِنَ الْأَدَبِ بَعْدَ حُلُولِ الْمُصِيبَةِ وَعِنْدَ نَوَالَ الرَّغِيبَةِ.
وَصِلَةُ الْمَوْصُولِ فِي بِما آتاكُمْ مُشْعِرَةٌ بِأَنَّهُ نِعْمَةٌ نَافِعَةٌ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مَقَامَ الْمُؤْمِنِ مِنَ الْأَدَبِ بَعْدَ حُلُولِ الْمُصِيبَةِ وَعِنْدَ انْهِيَالِ الرَّغِيبَةِ، هُوَ أَنْ لَا يَحْزَنَ عَلَى مَا فَاتَ وَلَا يَبْطُرَ بِمَا نَالَهُ مِنْ خَيْرَاتٍ، وَلَيْسَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنْ يَتْرُكَ السَّعْيَ لِنَوَالِ الْخَيْرِ وَاتِّقَاءِ الشَّرِّ قَائِلًا: إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْأُمُورَ كُلَّهَا فِي الْأَزَلِ، لِأَنَّ هَذَا إِقْدَامٌ عَلَى إِفْسَادِ مَا فَطَرَ عَلَيْهِ النَّاسَ وَأَقَامَ عَلَيْهِ نِظَامَ الْعَالَمِ. وَقَدْ
قَالَ النَّبِيءُ صلى الله عليه وسلم لِلَّذِينَ قَالُوا أَفَلَا نَتَّكِلُ «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ»
. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ تَحْذِيرٌ مِنَ الْفَرَحِ الْوَاقِعِ فِي سِيَاقِ تَعْلِيلِ الْأَخْبَارِ بِأَنَّ كُلَّ مَا يَنَالُ الْمَرْءَ ثَابِتٌ فِي كِتَابٍ، وَفِيهِ بَيَانٌ لِلْمُرَادِ مِنَ الْفَرَحِ أَنَّهُ الْفَرَحُ الْمُفْرِطُ الْبَالِغُ بِصَاحِبِهِ إِلَى الِاخْتِيَالِ وَالْفَخْرِ.
وَالْمَعْنَى: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ أَحَدًا مُخْتَالًا وفخورا وَلَا تَتَوَهَّمْ أَنَّ مَوْقِعَ (كُلَّ) بَعْدَ النَّفْيِ يُفِيدُ النَّفْيَ عَنِ الْمَجْمُوعِ لَا عَنْ كُلِّ فَرْدٍ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِمَّا يَقْصُدُهُ أَهْلُ اللِّسَانِ، وَوَقَعَ لِلشَّيْخِ عَبْدِ القاهر ومتابعيه توعم فِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [276] وَنَبَّهْتُ عَلَيْهِ فِي تَعْلِيقِي عَلَى دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ آتاكُمْ بِمَدٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ مُحَوَّلٌ عَنْ هَمْزَةٍ ثَانِيَةٍ هِيَ فَاءُ الْكَلِمَةِ، أَيْ مَا جَعَلَهُ آتِيَا لكم، أَي حَاصِلا عنْدكُمْ، فَالْهَمْزَةُ الْأُولَى لِلتَّعْدِيَةِ إِلَى مَفْعُولٍ ثَانٍ، وَالتَّقْدِيرُ: بِمَا آتَاكُمُوهُ. وَالْإِتْيَانُ هُنَا أَصْلُهُ مَجَازٌ وَغَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ حَتَّى