الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سُورَة النَّجْم (53) : الْآيَات 33 إِلَى 35]
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (35)
الْفَاءُ لِتَفْرِيعِ الِاسْتِفْهَامِ التَّعْجِيبِيِّ عَلَى قَوْلِهِ: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النَّجْم: 31] إِذْ كَانَ حَالُ هَذَا الَّذِي تَوَلَّى وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى جَهْلًا بِأَنَّ لِلْإِنْسَانِ مَا سَعَى، وَقَدْ حَصَلَ فِي وَقْتِ نُزُولِ الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَوْ قَبْلَهَا حَادِثٌ أَنْبَأَ عَنْ سُوءِ الْفَهْمِ لِمُرَادِ اللَّهِ مِنْ عِبَادِهِ مَعَ أَنَّهُ وَاضِحٌ لِمَنْ صَرَفَ حَقَّ فَهْمِهِ. فَفُرِّعَ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ تَعْجِيبٌ مِنِ انْحِرَافِ أَفْهَامِهِمْ.
فَالَّذِي تَوَلَّى وَأَعْطَى قَلِيلًا هُوَ هُنَا لَيْسَ فَرِيقًا مِثْلَ الَّذِي عَنَاهُ قَوْلُهُ: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا [النَّجْم: 29] بَلْ هُوَ شَخْصٌ بِعَيْنِهِ. وَاتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ وَالرُّوَاةُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هُنَا مُعَيَّنٌ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ وَجْهُ التَّعْبِيرِ عَنْهُ بِلَفْظِ الَّذِي دُونَ كَلِمَةِ (مَنْ) لِأَنَّ الَّذِي أَظْهَرُ فِي الْإِطْلَاقِ عَلَى الْوَاحِدِ الْمُعَيَّنِ دُونَ لَفْظِ (مَنْ) .
وَاخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِ هَذَا الَّذِي تَوَلَّى وَأَعْطى قَلِيلًا،
فَرَوَى الطَّبَرِيُّ وَالْقُرْطُبِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ وَابْنِ زَيْدٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ قَالُوا: كَانَ يَجْلِسُ إِلَى النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم وَيَسْتَمِعُ إِلَى قِرَاءَتِهِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعِظُهُ فَقَارَبَ أَنْ يُسْلِمَ فَعَاتَبَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (لَمْ يُسَمُّوهُ) وَقَالَ: لِمَ تَرَكْتَ دِينَ الْأَشْيَاخِ وَضَلَّلْتَهُمْ وَزَعَمْتَ أَنَّهُمْ فِي النَّارِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَنْصُرَهُمْ فَكَيْفَ يُفْعَلُ بِآبَائِكَ فَقَالَ: «إِنِّي خَشِيتُ عَذَابَ اللَّهِ» فَقَالَ: «أَعْطِنِي شَيْئًا وَأَنَا أَحْمِلُ عَنْكَ كُلَّ عَذَابٍ كَانَ عَلَيْكَ»
فَأَعْطَاهُ (وَلَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ عِنْدَهُمُ الْتِزَامًا يَلْزَمُ مُلْتَزِمَهُ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِجَزَاءِ الْآخِرَةِ فَلَعَلَّهُ تَفَادَى مِنْ غَضَبِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَرَجَعَ إِلَى الشِّرْكِ) وَلَمَّا سَأَلَهُ الزِّيَادَةَ بَخِلَ عَنْهُ وَتَعَاسَرَ وَأَكْدَى.
وَرَوَى الْقُرْطُبِيُّ عَنِ السُّدِّيِّ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ: نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ، وَعَنِ الضَّحَّاكِ: نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ.
وَوَقَعَ فِي «أَسْبَابِ النُّزُول» لِلْوَاحِدِيِّ و «الْكَشَّاف» أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ حِينَ صَدَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ عَنْ نَفَقَةٍ فِي الْخَيْرِ كَانَ يَنْفِقُهَا (أَيْ قَبْلَ أَنْ
يُسْلِمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ) رَوَاهُ الثَّعْلَبِيُّ عَنْ قَوْمٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَذَلِكَ بَاطِلٌ وَعُثْمَانُ مُنَزَّهٌ عَنْ مِثْلِهِ، أَيْ عَنْ أَنْ يُصْغِيَ إِلَى ابْنِ أَبِي سَرْحٍ فِيمَا صَدَّهُ.
فَأَشَارَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِي تَوَلَّى إِلَى أَنَّهُ تَوَلَّى عَنِ النَّظَرِ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ أَنَّ قَارَبَهُ.
وَأَشَارَ قَوْلُهُ: وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى إِلَى مَا أَعْطَاهُ لِلَّذِي يَحْمِلُهُ عَنْهُ الْعَذَابَ.
وَلَيْسَ وَصْفُهُ بِ تَوَلَّى دَاخِلًا فِي التَّعْجِيبِ وَلَكِنَّهُ سِيقَ مَسَاقَ الذَّمِّ، وَوُصِفَ عَطَاؤُهُ بِأَنَّهُ قَلِيلٌ تَوْطِئَةٌ لِذَمِّهِ بِأَنَّهُ مَعَ قِلَّةِ مَا أَعْطَاهُ قَدْ شَحَّ بِهِ فَقَطَعَهُ. وَأَشَارَ قَوْلُهُ: وأَكْدى إِلَى بُخْلِهِ وَقَطْعِهِ الْعَطَاءَ يُقَالُ: أَكْدَى الَّذِي يَحْفُرُ، إِذَا اعْتَرَضَتْهُ كُدْيَةٌ أَيْ حَجَرٌ لَا يَسْتَطِيعُ إِزَالَتَهُ. وَهَذِهِ مَذَمَّةٌ ثَانِيَةٌ بِالْبُخْلِ زِيَادَةً عَلَى بُعْدِ الثَّبَاتِ عَلَى الْكُفْرِ فَحَصَلَ التَّعْجِيبُ مِنْ حَالِ الْوَلِيدِ كُلِّهِ تَحْقِيرًا لِعَقْلِهِ وَأَفَنِ رَأْيِهِ. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَأَعْطى قَلِيلًا أَنَّهُ أعْطى من قبله وَمَيْلُهُ لِلْإِسْلَامِ قَلِيلًا وَأَكْدَى، أَيِ انْقَطَعَ بَعْدَ أَنِ اقْتَرَبَ كَمَا يُكْدِي حَافِرُ الْبِئْرِ إِذَا اعْتَرَضَتْهُ كُدْيَةٌ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ إِنْكَارِيٌّ عَلَى تَوَهُّمِهِ أَنَّ اسْتِئْجَارَ أَحَدٍ لِيَتَحَمَّلَ عَنْهُ عَذَابَ اللَّهِ يُنْجِيهِ مِنَ الْعَذَابِ، أَيْ مَا عِنْدَهُ عَلِمُ الْغَيْبِ. وَهَذَا الْخَبَرُ كِنَايَةٌ عَنْ خَطَئِهِ فِيمَا تَوَهَّمَهُ.
وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِلِاسْتِفْهَامِ التَّعْجِيبِيِّ مِنْ قَوْلِهِ: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى إِلَخْ.
وَتَقْدِيمُ عِنْدَهُ وَهُوَ مُسْنَدٌ عَلَى عِلْمُ الْغَيْبِ وَهُوَ مُسْنَدٌ إِلَيْهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذِهِ الْعِنْدِيَّةِ الْعَجِيبِ ادِّعَاؤُهَا، وَالْإِشَارَة إِلَى يعده عَنْ هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ.
وَعِلْمُ الْغَيْبِ: مَعْرِفَةُ الْعَوَالِمِ الْمَغِيبَةِ، أَيِ الْعِلْمُ الْحَاصِلُ مِنْ أَدِلَّةٍ فَكَأَنَّهُ شَاهَدَ الْغَيْبَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: فَهُوَ يَرى.
وَفَرَّعَ عَلَى هَذَا التَّعْجِيبِ قَوْلَهُ: فَهُوَ يَرى أَيْ فَهُوَ يُشَاهِدُ أُمُورَ الْغَيْبِ، بِحَيْثُ عَاقِدٌ عَلَى التَّعَارُضِ فِي حُقُوقِهَا. وَالرُّؤْيَةُ فِي قَوْلِهِ: فَهُوَ يَرى بَصَرِيَّةٌ وَمَفْعُولُهَا مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَهُوَ يَرَى الْغَيْبَ.