الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عَلَى التَّكْذِيبِ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا مُدَاهَنَةً لِقَوْمِكُمْ تَخْشَوْنَ إِنْ صَدَّقْتُمْ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْ تَزُولَ رِئَاسَتُكُمْ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الْأَنْعَام: 33] .
وَعَلَى تَفْسِيرِ مُدْهِنُونَ بِمَعْنَى الْإِلَانَةِ، فَالْمَعْنَى: لَا تَتَرَاخَوْا فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَتَدَبَّرُوهُ وَخُذُوا بِالْفَوْرِ فِي اتِّبَاعِهِ.
وَإِنْ فُسِّرَ مُدْهِنُونَ بِمَعْنَى: تَكْذِبُونَ، فَالْمَعْنَى وَاضِحٌ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِلِاهْتِمَامِ، وَصَوْغُ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ فِي أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ لِأَن المقرّر عَلَيْهِ إِدْهَانٌ ثَابت مستمرّ.
[82]
[سُورَة الْوَاقِعَة (56) : آيَة 82]
وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)
إِذَا جَرَيْنَا عَلَى مَا فَسَّرَ بِهِ الْمُفَسِّرُونَ تَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ [الْوَاقِعَة: 81] عَطَفَ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ فَتَكُونُ دَاخِلَةً فِي حَيِّزِ الِاسْتِفْهَامِ وَمُسْتَقِلَّةً بِمَعْنَاهَا.
وَالْمَعْنَى: أَفَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ، وَهُوَ تَفْرِيعٌ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ الِاسْتِدْلَالُ بِتَكْوِينِ نَسْلِ الْإِنْسَانِ وَخَلْقِ الْحَبِّ، وَالْمَاءِ فِي الْمُزْنِ، وَالنَّارِ مِنْ أَعْوَادِ الِاقْتِدَاحِ، فَإِنَّ فِي مَجْمُوعِ ذَلِكَ حُصُولَ مُقَوِّمَاتِ الْأَقْوَاتِ وَهِيَ رِزْقٌ، وَالنَّسْلُ رِزْقٌ، يُقَالُ: رُزِقَ فُلَانٌ وَلَدًا، لِأَن الرزق يُطلق عَلَى الْعَطَاءِ النَّافِعِ، قَالَ لَبِيدٌ:
رُزِقَتْ مَرَابِيعَ النُّجُومِ وَصَابَهَا
…
وَدْقُ الرَّوَاعِدِ جَوْدُهَا فَرِهَامُهَا
أَيْ أُعْطِيَتْ وَقَالَ تَعَالَى: مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ [الذاريات:
57] فَعَطَفَ الْإِطْعَامَ عَلَى الرِّزْقِ وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ.
وَالْاسْتِفْهَامُ الْمُقَدَّرُ بَعْدَ الْعَاطِفِ إِنْكَارِيٌّ، وَإِذْ كَانَ التَّكْذِيبُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ
رِزْقًا تَعَيَّنَ بِدَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ تَقْدِيرُ مَحْذُوفٍ يُفِيدُهُ الْكَلَامُ فَقَدَّرَهُ الْمُفَسِّرُونَ: شُكْرَ رِزْقِكُمْ، أَوْ نَحْوَهُ، أَيْ تَجْعَلُونَ شُكْرَ اللَّهِ عَلَى رِزْقِهِ إِيَّاكُمْ أَنْ تُكَذِّبُوا بِقُدْرَتِهِ عَلَى إِعَادَةِ الْحَيَاةِ، لِأَنَّهُمْ عَدَلُوا عَنْ شُكْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ فَاسْتَنْقَصُوا قُدْرَتَهُ عَلَى إِعَادَةِ الْأَجْسَامِ، وَنَسَبُوا الزَّرْعَ لِأَنْفُسِهِمْ، وَزَعَمُوا أَنَّ الْمَطَرَ تُمْطِرُهُ النُّجُومُ الْمُسَمَّاةُ بِالْأَنْوَاءِ فَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي قَوْلِهِمْ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا، أَيْ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَهُ عَنِ اعْتِقَادِ تَأْثِيرِ الْأَنْوَاءِ فِي خَلْقِ الْمَطَرِ، فَمَعْنَى قَوْلِ ابْن عَبَّاس: نزلت فِي قَوْلهم: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا، أَنَّهُ مُرَادٌ مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ تَوْبِيخٌ لِلْقَائِلِينَ فِي الْمَطَرِ الَّذِي يُنْزِلُهُ اللَّهُ رِزْقًا: هَذَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا اه.
أَشَارَ هَذَا إِلَى مَا
رُوِيَ فِي «الْمُوَطَّأِ» عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ فَلَمَّا انْصَرَفَ النَّبِيءُ صلى الله عليه وسلم أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَعْلَمُ قَالَ: قَالَ أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَنَوْءِ كَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ،
وَلَيْسَ فِيهِ زِيَادَةٌ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَلَوْ كَانَ نُزُولُهَا يَوْمَئِذٍ لَقَالَهُ الصَّحَابِيُّ الْحَاضِرُ ذَلِكَ الْيَوْمَ.
وَوَقَعَ
فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: «مُطِرَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ النَّبِيءُ أَصْبَحَ مِنَ النَّاسِ شَاكِرٌ وَمِنْهُمْ كَافِرٌ، قَالُوا: هَذِهِ رَحْمَةُ اللَّهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَقَدْ صَدَقَ نَوْءُ كَذَا وَكَذَا. قَالَ فَنَزَلَتْ: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ [الْوَاقِعَة: 75] حَتَّى بَلَغَ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ
فَزَادَ عَلَى مَا فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ قَوْلَهُ فَنَزَلَتْ: فَلا أُقْسِمُ إِلَخْ.
وَزِيَادَةُ الرَّاوِي مُخْتَلَفٌ فِي قَبُولِهَا بِدُونِ شَرْطٍ أَوْ بِشَرْطِ عَدَمِ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ، أَوْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ مِمَّنْ لَا يَغْفُلُ مِثْلُهُ عَنْ مِثْلِ تِلْكَ الزِّيَادَةِ عَادَةً وَهِيَ أَقْوَالٌ لِأَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ يَكُنْ فِي سِنِّ أَهْلِ الرِّوَايَةِ فِي مُدَّةِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَة بِمَكَّة فعل قَوْلَهُ: فَنَزَلَتْ تَأْوِيلٌ مِنْهُ، لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ النَّاسَ مُطِرُوا فِي مَكَّةَ
فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ الْمُؤْمِنُونَ قَوْلًا وَقَالَ الْمُشْرِكُونَ قَوْلًا فَنَزَلَتْ آيَةُ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ تَنْدِيدًا
عَلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْهُمْ بِعَقِيدَةٍ مِنَ الْعَقَائِدِ الَّتِي أَنْكَرَهَا اللَّهَ عَلَيْهِمْ وَأَنَّ مَا وَقَعَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ مَطَرٌ آخَرُ لِأَنَّ السُّورَةَ نَزَلَتْ قَبْلَ الْهِجْرَةِ. وَلَمْ يُرْوَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أُلْحِقَتْ بِالسُّورَةِ بَعْدَ نُزُولِ السُّورَةِ.
وَلَعَلَّ الرَّاوِيَ عَنْهُ لَمْ يُحْسِنِ التَّعْبِيرَ عَنْ كَلَامِهِ فَأُوهِمَ بِقَوْلِهِ فَنَزَلَتْ فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ [الْوَاقِعَة: 75] بِأَنْ يَكُونَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: فَتَلَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ، أَوْ نَحْوَ تِلْكَ الْعِبَارَةِ. وَقَدْ تَكَرَّرَ مِثْلُ هَذَا الْإِيهَامِ فِي أَخْبَارِ أَسْبَابِ النُّزُولِ» وَيَتَأَكَّدُ هَذَا صِيغَةُ تُكَذِّبُونَ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا، لَيْسَ فِيهِ تَكْذِيبٌ بِشَيْءِ، وَلِذَلِكَ احْتَاجَ ابْنُ عَطِيَّةَ إِلَى تَأْوِيلِهِ بِقَوْلِهِ: «فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقاً لِلْعِبادِ [ق: 9- 11] فَهَذَا مَعْنَى أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ أَيْ تُكَذِّبُونَ بِهَذَا الْخَبَرِ.
وَالَّذِي نَحَاهُ الْفَخْرُ مَنْحًى آخَرَ فَجَعَلَ مَعْنَى وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ تَكْمِلَةً لِلْإِدْهَانِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ [الْوَاقِعَة: 81] فَقَالَ: «أَيْ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ إِنْ صَدَّقْتُمْ بِالْقُرْآنِ ومنعتم ضعفاءكم عَن الْكُفْرِ يَفُوتُ عَلَيْكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ مَا تَرْبَحُونَهُ بِسَبَبِهِمْ فَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ الرَّسُولَ أَيْ فَيَكُونُ عَطْفًا على مُدْهِنُونَ [الْوَاقِعَة: 81] عَطْفُ فِعْلٍ عَلَى اسْمٍ شَبِيهٍ بِهِ، وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ، أَيْ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ وَجَاعِلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ، فَهَذَا التَّكْذِيبُ مِنَ الْإِدْهَانِ، أَيْ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ صِدْقَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَلَكِنَّهُمْ يُظْهِرُونَ تَكْذِيبَهُ إِبْقَاءً عَلَى مَنَافِعِهِمْ فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الْأَنْعَام: 33] . وَعَلَى هَذَا يُقَدَّرُ قَوْلُهُ: أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ مَجْرُورًا بِبَاءِ الْجَرِّ مَحْذُوفَةً، وَالتَّقْدِيرُ: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ بِأَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ، أَيْ تَجْعَلُونَ عِوَضَهُ بِأَنْ تُكَذِّبُوا بِالْبَعْثِ