الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والثاني في سورة " الواقع ": (يعرج الملائكة والروح إليه) بالياء.
وهذا جميع ما انفرد به القراء السبعة في هذا الباب. والحمد لله وصلى الله على محمد نبيه وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
ذكر انفراد يعقوب
ثم أضيفت إلى ذلك تفاريد أبي محمد، يعقوب بن إسحاق الحضرمي البصري، من طريق شيخي عنه:
ذكر انفراده من روايتيه:
تفرد بثمانية عشر موضعا:
تفرد باثنتي عشرة ياء:
أولاهن في آخر سورة " البقرة ": (لا يفرق بين أحد) بالياء.
وفي " آل عمران ": (تقية)(1).
وفي " الأنعام ": موضعان " (ويوم يحشرهم)، (ثم يقول) بالياء فيهما.
وفي سورة " يوسف " موضعان: (يرفع درجات من يشاء) بالياء فيهما (2).
وفي بني إسرائيل: (ويخرج له) بالياء.
وفي سورة " مريم "(يساقط عليك) بالياء.
(1) سورة آل عمران 28، وقراءة السبعة (تقاه)، النشر 2/ 239، والإتحاف 172، والقرطبي 4/ 57.
(2)
سورة يوسف 76، والسبعة بالنون، النشر 2/ 296، والإتحاف 266، والبحر 5/ 332.
وفي " الأنبياء ": (أن لن يقدر عليه) بالياء.
وفي آخر " الحج ": (إن الذين يدعون من دون الله) بالياء (1).
وفي سورة " الزخرف ": (يقيض له شيطانا) بالياء.
وفي آخر " الأحقاف ": (يقدر على أن يحيي الموتى) بالياء.
وتفرد بأربع تاءات:
أولاهن في " البقرة ": (والله بصير بما تعملون. قل) بالتاء (2).
وفي " الحج " موضعان: (لن تنال الله لحومها)، (ولكن تناله التقوى) بالتاء فيهما (3).
وفي " الحجرات ": (بين إخوتكم) بالتاء.
وتفرد بنونين:
أولهما في " طه ": (نقضي إليه وحيه) بالنون ونصب (وحيه)(4).
وفي سورة " التغابن ": (يوم نجمعكم ليوم الجمع) بالنون (5).
تم انفراده بعون الله وتأييده (6).
(1) سورة الحج 73، والسبعة (تدعون) النشر 2/ 327، والإتحاف 317، والقرطبي 12/ 97، والبحر 6/ 390.
(2)
سورة البقرة 96، 97، والقراء بالياء، النشر 2/ 219، والإتحاف 144.
(3)
سورة الحج 37، والقراء بالياء فيهما، النشر 2/ 326، والإتحاف 315، والبحر 6/ 370.
(4)
سورة طه 114، والقراء (يقضى إليه وحيه). النشر 2/ 322، والإتحاف 308، والبحر 6/ 282.
(5)
سورة التغابن 9، والقراء (يجمعكم). النشر 2/ 388، والإتحاف 417، والبحر 8/ 278.
(6)
أي فيما اتفق عليه راوياه.
ذكر انفراد رويس بن المتوكل اللؤلؤي عنه
تفرد بثمانية مواضع:
تفرد بخمس مواضع:
أولها في " الأنفال ": (فإن الله بما تعملون بصير) بالتاء (1).
وفي " يونس ": (فبذلك فلتفرحوا) بالتاء (2).
وفي " بني إسرائيل ": (فتغرقكم) بالتاء.
وفي " حم الطول ": (لتنذر يوم التلاق) بالتاء.
وفي " الحديد ": (ولا تكونوا كالذين) بالتاء (3).
وتفرد بياء واحدة في سورة " يس ": (يقدر على أن يخلق)(4).
وتفرد بنونين:
- في سورة " المجادلة ": (إذا انتجيتم فلا تنتجوا) بالنون فيهما.
تم انفراده بعون الله ومنه وتأييده.
ذكر انفراد روح بن عبد المؤمن عنه
تفرد بموضعين:
(1) سورة الأنفال 39، وغيره (يعملون). النشر 2/ 276، والإتحاف 237، والبحر 4/ 495.
(2)
سورة يونس 58، والسبعة (فليفرحوا). النشر 2/ 285، والإتحاف 252، والبحر 5/ 172.
(3)
سورة الحديد 16، وغيره بالياء، النشر 2/ 384، والإتحاف 410.
(4)
سورة يس 81، والسبعة (بقادر على). النشر 2/ 355، والإتحاف 367، والبحر 7/ 348.
تفرد بياء واحد في " يونس ": (ما يمكرون).
وتفرد بتاء واحد في سورة " النحل ": (تنزل الملائكة بالروح) بالتاء (1).
فجميع انفراد يعقوب وصاحبيه ثمانية وعشرون موضعا: التاءات عشرة، والياءات أربعة [عشر، والنونات أربعة](2).
تم انفراد يعقوب من طريقيه المشهورين عنه حسب ما تأدى إلينا رواية وتلاوة.
والحمد لله وحده، وصلواته على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
مصادر التحقيق والدراسة
القرآن الكريم.
إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربع عشر: للدمياطي البنا / مطبعة عبد الحميد حنفي، القاهرة 1359 هـ.
إعراب القرآن: لأبي جعفر النحاس، تحقيق د. زهير غازي زاهد، مكتبة العاني، بغداد، الجزء الثالث 1400 هـ.
الإقناع في القراءات السبع: لابن الباذش، تحقيق د. عبد المجيد قطامش، جامعة أم القرى، مكة المكرمة 1403 هـ.
البحر المحيط: لأبي حيان، مصورة مكتبة النصر الحديثة بالرياض، عن طبعة القاهرة 1329 هـ.
تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن)، مصورة دار إحياء التراث العربي، بيروت، عن طبعة القاهرة.
التيسير في القراءات السبع: لأبي عمرو الداني، تحقيق أوتوبرتزل إستامبول، مطبعة الدولة 1930 م.
السبعة في القراءات: لابن مجاهد، تحقيق د. شوقي ضيف، دار المعارف، القاهرة، 1400 هـ.
غاية النهاية في طبقات القراء: لابن الجزري، تحقيق برجشتراسر، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1351 هـ.
فهرست ما رواه ابن خير الأشبيلي عن شيوخه، مصورة المكتب التجاري، بيروت 1382 هـ.
الكشاف: للزمخشري، مصورة دار المعرفة عن طبعة الحلبي، القاهرة.
الكشف عن وجوه القراءات السبع: لمكي بن أبي طالب، تحقيق د. محيي الدين رمضان، مؤسسة الرسالة، بيروت 1401 هـ.
معرفة القراء الكبار: للذهبي، تحقيق محمد سيد جاد الحق، دار الكتب الحديثة، القاهرة 1387 هـ.
النشر في القراءات العشر - لابن الجزري - مصورة دار الكتب العلمية.
(1) سورة النحل 2، والقراءة (ينزل الملائكة). النشر 2/ 302، والإتحاف 277، والبحر 5/ 473.
(2)
تكملة يستقيم بها النص.
بحث
فيما نسبه الشيخ منصور البهوتي في
الروض المربع إلى عمر بن الخطاب
رضي الله عنه في صلاة
التراويح
في رمضان وتخريجه ومناقشة
أهل العلم في ذلك
بقلم: د. رويعي راجح الرحيلي
أستاذ مساعد بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة أم القرى بمكة المكرمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، أما بعد فهذا تتمة بحث:
استحباب صلاة التراويح عشرين ركعة والوتر ثلاث ركعات جماعة في ليالي رمضان المبارك
ذكر الشيخ البهوتي رحمه الله في كتابه الروض المربع: صلاة التراويح، فقال: والتراويح سنة مؤكدة، سميت بذلك لأنهم يصلون أربع
ركعات ويتروحون ساعة - أي يستريحون -، عشرون ركعة، لما روى أبو بكر عبد العزيز في الشافي: عن ابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في شهر رمضان عشرين ركعة (1)» . تفعل: ركعتين ركعتين في جماعة، مع الوتر بالمسجد أول الليل، والأفضل وسنتها في رمضان، لما روي في الصحيحين من حديث عائشة:«أنه صلى الله عليه وسلم صلاها لياليا، فصلوها معه، ثم تأخر وصلى في بيته باقي الشهر، وقال: إني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها (2)» . ثم قال: وفي البخاري: أن عمر جمع الناس على أبي بن كعب فصلى بهم التراويح (3).
هذا الذي ينسبه الشيخ رحمه الله إلى عمر من رواية البخاري، هو صحيح كما قال:
1 -
ولفظ ما رواه البخاري بسنده إلى عبد الرحمن بن عبد القارئ أنه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط (4)، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر: نعم البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون، يريد آخر الليل، وكان الناس يقومون أوله.
هذا هو الحديث الذي أشار إليه البهوتي رحمه الله، وفيه عدة مسائل:
الأولى: أن هذه الرواية جاء فيها أن عمر رضي الله عنه أمر أبيا أن يؤم الناس في صلاة التراويح، وقد جاءت آثار أخرى
(1) سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1327).
(2)
صحيح البخاري الجمعة (924)، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (761)، سنن النسائي قيام الليل وتطوع النهار (1604)، سنن أبو داود الصلاة (1373)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 169)، موطأ مالك النداء للصلاة (250).
(3)
انظر الروض المربع 1/ 72 - 73 الطبعة السابعة طبع دار الكتب العلمية بيروت.
(4)
قال في النهاية الرهط من الرجال ما دون العشرة وقيل إلى الأربعين انظر مادة رهط.
تدل على أنه أمر غيره بما أمره به.
الثانية: أن هذه الرواية لم يذكر فيها عدد الركعات في صلاة التراويح عند عمر رضي الله عنه، وقد جاءت روايات أخرى تبين ذلك.
الثالثة: أن هذه الرواية بينت بعض الأسباب التي جعلت عمر رضي الله عنه، يجمع الناس على إمام واحد في صلاة التراويح بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءت روايات أخرى توضح أسبابا أخرى.
الرابعة: أن في هذه الرواية ما يشعر بأن صلاة التراويح آخر الليل أفضل عند عمر رضي الله عنه، وجاءت روايات أخرى تؤيد ذلك، والجواب عنه.
الخامسة: أن في هذه الرواية ما يشعر بأنه رضي الله عنه، ما كان يصلي التراويح مع الجماعة في بعض الأحيان، والجواب عن ذلك.
السادسة: أن عمر رضي الله عنه حين أمر بإقامة صلاة التراويح جماعة في أول الليل قال: نعم البدعة هذه، وبيان محمل ذلك.
سنبحث هذه المسائل - إن شاء الله - مع بيان مناقشة أهل العلم لذلك مع ما يرجحه الدليل، وإليك إياها واحدة واحدة.
أما المسألة الأولى:
فهي أن عمر رضي الله عنه أمر في هذا الأثر أبي بن كعب بأن يؤم الناس في صلاة التراويح جماعة، فنعم. .
وقد جاءت آثار أخرى تدل على أنه رضي الله عنه أمر غيره بمثل ما أمر أبيا رضي الله عنه.
2 -
فقد ذكر صاحب كنز العمال: أن ابن سعد روى بسنده إلى ابن أبي مليكة، قال: بلغني أن عمر بن الخطاب أمر عبد الله بن السائب المخزومي حين جمع الناس في رمضان، أن يقوم بأهل مكة (1).
وسيأتي عن عمر رضي الله عنه، أنه صلى خلفه حين قدم مكة معتمرا.
3 -
وروى البيهقي وغيره بسندهم إلى عروة بن الزبير: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين جمع الناس على قيام شهر رمضان، الرجال على أبي بن كعب، والنساء على سليمان بن أبي حثمة.
4 -
وروى الإمام مالك في الموطأ بسنده عن السائب بن يزيد قال: أمر عمر بن الخطاب: أبي بن كعب وتميما الداري أن يقوما للناس في رمضان بإحدى عشرة ركعة، فكان القارئ يقرأ بالمئين حتى يعتمد على العصا من طول القيام، وما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر.
فهؤلاء أربعة أمرهم عمر رضي الله عنه أن يقوموا للناس بصلاة التراويح جماعة.
أبي بن كعب وتميم الداري وعبد الله بن السائب المخزومي وسليمان بن أبي حثمة الذي أمره أن يصلي بالنساء.
(1) كنز العمال 8/ 409، رقم 23470، قال الهندي: رواه ابن سعد. وراجعته في مظانه ولم أعثر عليه.
وفي بعض الروايات: أن عمر رضي الله عنه أمر تميما الداري أن يصلي بالنساء.
فقد ذكر ابن حجر في فتح الباري: أن سعيد بن منصور روى من طريق عروة: أن عمر جمع الناس على أبي بن كعب، فكان يصلي بالرجال وكان تميم الداري يصلي بالنساء (1).
ثم قال ابن حجر رحمه الله: وقد رواه محمد بن نصر في كتاب قيام الليل له من هذا الوجه، فقال: سليمان بن أبي حثمة بدل تميم الداري (2).
ثم جمع بينهما: بإمكان أن يكون عمر رضي الله عنه، أمر تميما الداري بذلك في وقت، وأمر سليمان بن أبي حثمة في وقت آخر فهو يقول: ولعل ذلك في وقتين (3).
وجمعه رحمه الله متجه وحسن حتى لا يكون هناك تضاد بين الروايات، إذن عمر رضي الله عنه كما أمر أبيا بأن يؤم الناس في صلاة التراويح أمر غيره بمثل ذلك - والله أعلم - كما دلت له الآثار السابقة.
المسألة الثانية:
فهي أن هذه الرواية التي ذكرها البخاري وأشار إليها البهوتي رحمه الله، لم يذكر فيها عدد ركعات صلاة التراويح عند عمر رضي الله عنه، ومثلها.
5 -
ما رواه ابن أبي شيبة بسنده إلى عروة: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر أبيا: أن يصلي بالناس في شهر رمضان (4).
فهي رواية مجملة كرواية عبد الرحمن بن عبد القارئ التي رواها
(1) فتح الباري 4/ 203.
(2)
فتح الباري 4/ 203.
(3)
فتح الباري 4/ 203.
(4)
مصنف ابن أبي شيبة 2/ 396، مطبعة الدار السلفية، حدثنا وكيع أخبرنا هشام بن عروة عن أبيه.
البخاري، ولكن جاءت آثار مروية عن عمر رضي الله عنه تبين هذا الإجمال.
6 -
فقد روى الإمام مالك في الموطأ بسنده عن السائب بن يزيد، قال: أمر عمر بن الخطاب أبي بن كعب وتميما الداري أن يقوما للناس في رمضان بإحدى عشرة ركعة، فكان القارئ يقرأ بالمئين حتى يعتمد على العصا من طول القيام، وما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر.
فالأثر هذا دل على أن عمر رضي الله عنه هو بنفسه الذي أمر أبيا وتميما الداري بأن يصليا للناس إحدى عشرة ركعة، لكن ابن أبي شيبة ساقه بلفظ آخر، وأن أبيا وتميما هما اللذان كان يصليانها كذلك، ولم يذكر في الأثر أن عمر أمرهما بذلك.
7 -
فقد روى ابن أبي شيبة بسنده إلى السائب: أن عمر جمع الناس على أبي وتميم، فكانا يصليان إحدى عشرة ركعة، يقرآن بالمئين - يعني في رمضان.
وليس بين الروايتين فيما يظهر لي خلاف لأنه وإن لم يصرح ابن أبي شيبة في روايته بأن عمر أمرهما أن يصلياها إحدى عشرة ركعة إلا أنه لا بد أن يكون قد أقرهما على ذلك فيكون ذلك
هو ما أراده عمر رضي الله عنه: لأنه من المستبعد ألا يكون عنده علم بذلك، وما دام أنه لم ينكر عليهما فقد أقرهما أن تصلى التراويح إحدى عشرة ركعة.
وقد جاءت روايات أخرى تدل على أن عمر رضي الله عنه قد أقر من صلاها - أي التراويح - عشرين ركعة غير الوتر.
8 -
فقد روى البيهقي في المعرفة بسنده عن السائب بن البرقان، قال: كنا نقوم زمن عمر بن الخطاب بعشرين ركعة والوتر (1).
9 -
وروى ابن أبي شيبة بسنده إلى حسن - عبد العزيز - قال: كان أبي ابن كعب يصلي بالناس في رمضان بالمدينة عشرين ركعة ويوتر بثلاث.
فهذان الأثران دلا على أن صلاة التراويح قد صليت في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عشرين ركعة، فلا بد أن يكون قد علم ذلك وأقر من صلاها كذلك ولم ينكر عليهم.
10 -
وروى الإمام مالك عن يزيد بن رومان أنه قال: كان الناس يقومون في زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه بثلاث وعشرين ركعة.
11 -
وذكر ابن قدامة بصيغة الجزم، فقال: ولنا أن عمر لما جمع الناس على أبي بن كعب كان يصلي لهم عشرين ركعة، وقد روى الحسن: أن عمر جمع الناس على أبي بن كعب فكان يصلي لهم عشرين ركعة (2).
(1) انظر حاشية شرح معاني الآثار للشيخ محمد زهري 1/ 352، ووصف إسناده بأنه صحيح.
(2)
انظر المغني والشرح الكبير 1/ 799.
بل إنه ورد عن عمر رضي الله عنه أنه أمر أن تصلى التراويح عشرين ركعة.
12 -
فقد روى ابن أبي شيبة بسنده إلى يحيى بن سعيد: أن عمر بن الخطاب أمر رجلا يصلي بهم عشرين ركعة (1).
وجاءت رواية أخرى تدل على أن الصحابة صلوا التراويح زمن عمر بن الخطاب ثلاث عشرة ركعة.
13 -
قال ابن حجر: وأخرج وهب من طريق محمد بن إسحاق حدثني محمد بن يوسف عن جده السائب بن يزيد قال: كنا نصلي زمن عمر في رمضان ثلاث عشرة ركعة، قال ابن إسحاق - أحد رجال السند - وهذا أثبت ما سمعت في ذلك وهو موافق لحديث عائشة (2).
فابن إسحاق هنا يثبت رواية من روى أنها - أي صلاة التراويح - صليت عشرين ركعة في زمن عمر رضي الله عنه، لكنه كان يرى أن ما روي في هذا الأثر أثبت بصيغة التفضيل، وذلك لما وافقه من حديث عائشة، وحديث عائشة الذي يعنيه هو ما رواه البخاري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه «سأل عائشة رضي الله عنها: كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان؟ فقالت: ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثا، فقلت: يا رسول الله: أتنام قبل أن توتر؟ قال: يا عائشة: إن عيني تنامان ولا ينام قلبي (3)» إذا ظاهر الروايات المأثورة عن
(1) مصنف ابن أبي شيبة 2/ 393، حدثنا وكيع عن مالك بن أنس عن يحيى بن سعيد.
(2)
فتح الباري 4/ 254.
(3)
صحيح البخاري مع فتح الباري 4/ 251.
عمر بن الخطاب رضي الله عنه الاختلاف في كون صلاة التراويح، هل كانت تصلى مع الوتر ثلاثا وعشرين ركعة، أو إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة؟ بل إن السائب بن يزيد نفسه روى مرة أن صلاة التراويح في عهد عمر كانت تصلى إحدى عشرة ركعة، ومرة روى أنها كانت تصلى ثلاث عشرة ركعة على ما سبق، وروى أيضا أنها كانت تصلى ثلاثا وعشرين ركعة.
14 -
فقد روى البيهقي بسنده عن السائب بن يزيد أنه قال: كانوا يقومون على عهد عمر بن الخطاب في شهر رمضان بعشرين ركعة، وكانوا يقرءون بالمئين، وكانوا يتوكئون على عصيهم في عهد عثمان من شدة القيام.
هذه الروايات ظاهرها الاختلاف، وفي نظري أنه لا تعارض حقيقي بينها لأن الجمع بينها ممكن.
فاختلاف الروايات عن السائب بن يزيد الذي جاء النقل عنه بأنه مرة قال: أمر عمر بن الخطاب أبيا وتميما الداري بأن يصليا للناس إحدى عشرة ركعة في رمضان، وجاء عنه في رواية أخرى أنه قال: كنا نصلي على عهد عمر بن الخطاب ثلاث عشرة ركعة، وقال في رواية ثالثة عنه: كانوا يقومون على عهد عمر بن الخطاب بعشرين ركعة والوتر، فإن هذا الاختلاف يجاب عنه من ناحيتين:
الأولى: بأنه لا يستبعد أن يكون السائب بن يزيد قد علم أن عمر رضي الله عنه أمر أبيا وتميما بأن يصليا للناس بإحدى عشرة ركعة في بادئ الأمر، ثم إن الناس صلوا في زمن عمر بن الخطاب ثلاث عشرة
أمر أبيا أركعة، فلم يعبهم عمر رضي الله عنه، وأقرهم على ذلك، فروى ذلك السائب بن يزيد، ثم إن الناس بعد ذلك صلوا التراويح عشرين ركعة والوتر، فلم يعبهم عمر بن الخطاب وأقرهم على ذلك، لدليل علمه أو اجتهاد منه، فروى ذلك السائب بن يزيد، وكان معنى ذلك أن صلاة التراويح إذا صليت على صفة من تلك الصفات الثلاث، كان ذلك جائزا ولا لوم على أحد فعل ذلك.
وقد جمع البيهقي بين الروايات بمثل هذا الجمع، فهو يقول: كانوا يقومون بإحدى عشرة ركعة، ثم كانوا يقومون بعشرين، ويوترون بثلاث والله أعلم (1).
وما زال المسلمون إلى يومنا هذا منهم من يصلي التراويح مع الوتر إحدى عشرة ركعة، ومنهم من يصليها ثلاث عشرة ركعة ومنهم من يصليها ثلاثا وعشرين ركعة لأن كل ذلك سنة.
الثانية: طريق الترجيح، وذلك أن الرواية المأثورة عن عمر من طريق السائب بن يزيد التي ذكر فيها أن صلاة التراويح كانت تصلى في زمن عمر رضي الله عنه ثلاثا وعشرين ركعة، أيدتها روايات أخرى مروية عن السائب بن رومان ويحيى بن سعيد وحسن هو عبد العزيز، والسائب بن برقان والحسن البصري على ما ذكره ابن قدامة، ولا شك أن كثرة الطرق من أسباب الترجيح كما هو معروف في مصطلح الحديث فيكون رواية من روى أن صلاة التراويح كانت في عهد عمر تصلى عشرين ركعة والوتر هي الراجحة، ولعل ذلك كان آخر الأمر يقول ابن حبيب من المالكية: رجع عمر إلى ثلاث وعشرين ركعة.
أما ما ذكر ابن إسحاق من كون رواية السائب بن يزيد التي روى
(1) سنن البيهقي 2/ 496.
فيها عن عمر بأن صلاة التراويح كانت تصلى في عهده ثلاث عشرة ركعة، وأنها أثبت عنده من غيرها من الروايات، لموافقة حديث عائشة رضي الله عنها السابق.
وكذلك قول اللخمي من المالكية: الذي آخذ به ما جمع عليه عمر: إحدى عشرة ركعة (1).
فالجواب عما ذكره ابن إسحاق رحمه الله من وجهين:
أولا: أنه لم ينف صحة صلاة التراويح عشرين ركعة في زمن عمر رضي الله عنه وإنما رجح رواية السائب بن يزيد لأن التراويح كانت تصلى في زمن عمر ثلاث عشرة ركعة لموافقة حديث عائشة رضي الله عنها السابق.
وذكر ابن حجر ما يؤيد هذا الرأي وأنه هو الأولى لحديث عائشة هذا، ثم قال: مع كون عائشة أعلم بحال النبي صلى الله عليه وسلم من غيرها (2).
وقد أجاب بعض أهل العلم عن هذا.
فإن الشيخ محمد زهري النجار: ذكر حديث ابن عباس الذي ذكره ابن حجر في فتح الباري وغيره وهو: «أن النبي صلى الله عليه وسلم: صلى التراويح عشرين ركعة مع الوتر (3)» . ثم قال:
قال: العلامة القارئ مجيبا عنه: ولا يبعد أن ابن عباس حصل له من العلم من غير طريق عائشة من سائر المؤمنين.
قال: وعلى كل تقدير فالعمل بالحديث الضعيف جائز عند الكل
(1) انظر التاج والإكليل لمختصر خليل للمواق المتوفى عام 897 هـ.
(2)
فتح الباري 4/ 254.
(3)
فتح الباري 4/ 254، قال ابن حجر رواه ابن أبي شيبة وإسناده ضعيف، عمدة القارئ 11/ 28، قال القارئ: قلت هذا الحديث رواه أبو القاسم البغوي، وذكر سنده. ثم قال: وأبو شيبة (في سنده) هو إبراهيم بن عثمان العبس الكوفي، قاضي واسط جد أبي بكر بن أبي شيبة كذبه شعبة وضعفه أحمد وابن معين وأورد له ابن عدي في الكامل هذا الحديث في مناكيره. انظر سنن البيهقي 2/ 496.
"يعني فضائل الأعمال "قال ويكفينا ما رواه البيهقي في المعرفة بإسناد صحيح عن السائب بن البرقان "كنا نقوم زمن عمر بن الخطاب بعشرين ركعة والوتر "، فهذا كالإجماع من غير منكر في هذا الإجماع وقد ورد:«عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين بعدي (1)» .
ثانيا: قال ابن قدامة رحمه الله في الجواب عن حديث عائشة رضي الله عنها في كون النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة: بأن كونه صلى الله عليه وسلم لم يزد على إحدى عشرة ركعة محمول على صلاة التهجد - وهي الصلاة في الليل بعد القيام من نوم - لأن سياق حديث عائشة رضي الله عنها يشير إلى ذلك حيث بينته بقولها: «كان يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن (2)» . .
إذن الذي يترجح من سياق هذه الآثار أن صلاة التراويح صليت زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عشرين ركعة مع الوتر، وأنه أقر ذلك، ولم يظهر له مخالف فهو إجماع، أو كالإجماع، كما قال ذلك ابن قدامة والشيخ القارئ، وقد وافقه على ذلك ثلاثة من أئمة أهل العلم، أبو حنيفة والشافعي وأحمد رحمهم الله، ولم يمنعوا أحدا أن يصليها إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة، وهذا يدل على أن فعلها ثلاثا وعشرين ركعة عند الأئمة الثلاثة أفضل، فحذار ممن يتطاول على هؤلاء الأئمة الأعلام، بزعم أن صلاة التراويح ثلاثا وعشرين ركعة بدعة، لأنه لا يقال لعمل فعله عمر رضي الله عنه أو أقره ووافقه عليه أئمة الهدى بأنه بدعة. وذهب الإمام مالك رحمه الله إلى أن صلاة التراويح تصلى تسعا وثلاثين ركعة، وحجته في ذلك عمل أهل المدينة، قال نافع: أدركت الناس يقومون تسعا وثلاثين ركعة، ويوترون منها بثلاث، قال
(1) انظر تعليق الشيخ محمد زهري البخاري على شرح معاني الآثار 1/ 350.
(2)
المغني والشرح الكبير 1/ 773.
مالك: وهو لم يزل عليه الناس، وقد كره رحمه الله أن ينقص من ذلك (1).
ولكن أهل العلم ناقشوا دليل الإمام مالك رحمه الله في ذلك، فإن ابن قدامة رحمه الله قال: بأن صالحا مولى التوأمة، هو الذي قال: أدركت الناس يقومون بإحدى وأربعين ركعة يوترون بخمس، وذلك مردود بأن صالحا ضعيف ثم لا ندري من الناس الذي أخبر عنهم؟ فلعله قد أدرك جماعة من الناس يفعلون ذلك وليس بحجة، ثم لو ثبت أن أهل المدينة كلهم فعلوه لكان ما فعله عمر وأجمع عليه الصحابة في عصره أولى بالاتباع.
ثم قال: قال بعض أهل العلم إنما فعل هذا أهل المدينة لأنهم أرادوا مساواة أهل مكة، فإن أهل مكة يطوفون سبعا بين كل ترويحتين، فيجعل أهل المدينة مكان كل سبع أربع ركعات، وما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى وأحق بالاتباع (2).
إذن الآثار التي رويت عن عمر رضي الله عنه تدل على أن صلاة التراويح كانت تصلى في عهده مع الوتر ثلاثا وعشرين ركعة، وهو إما إجماع أو كالإجماع وقد فعل المسلمون ذلك إلى يومنا هذا، وهو دليل على فضل ذلك على ما سواه، والله أعلم بالصواب.
المسألة الثالثة:
فهي أن رواية البخاري التي أشار إليها الشيخ البهوتي رحمه الله أشارت إلى بعض الأسباب التي جعلت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يجمع الناس في صلاة التراويح على إمام واحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قال عبد الرحمن بن عبد القارئ: خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله
(1) انظر التاج والإكليل لمختصر خليل مع كتاب مواهب الجليل 1/ 71.
(2)
المغني والشرح الكبير 1/ 799.
عنه ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب (1).
فإن الأثر دل على أن السبب الذي جعل عمر رضي الله عنه يجمع المسلمين في صلاة التراويح على إمام واحد هو ما شاهده من تفرقهم في المسجد أوزاعا مع أنهم جميعا يصلون صلاة واحدة، وهذا اجتهاد من عمر ولا أحد ينازع أنه من أهل الاجتهاد بل من أعظم المجتهدين.
لكن هذا الأثر لم يذكر أسبابا أخرى، وقد جاءت آثار أخرى تدل على أسباب أخرى.
منها أن كثيرا من الناس لا يحسنون القراءة، فأراد عمر رضي الله عنه أن يجمع المسلمين في صلاة التراويح على إمام واحد يحسن القراءة.
15 -
فقد ذكر صاحب كنز العمال أن ابن منيع روى عن أبي بن كعب أن عمر بن الخطاب أمره أن يصلي بالليل في رمضان، فقال: إن الناس يصومون النهار ولا يحسنون أن يقرءوا، فلو قرأت عليهم بالليل، فقال: يا أمير المؤمنين، هذا شيء لم يكن، فقال: قد علمت ولكنه حسن، فصلى بهم عشرين ركعة. ومنها أيضا أنه روى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أنه أشار على عمر رضي الله عنه بأن تقام صلاة التراويح جماعة وحرضه على ذلك.
16 -
فقد ذكر صاحب كنز العمال: أن ابن وهب روى بسنده عن
(1) انظر ص 1 رقم الأثر 21.
علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: أنا حرضت عمر على القيام في شهر رمضان وأخبرته أن فوق السماء السابعة حظيرة يقال لها: حظيرة القدس سكنها قوم يقال لهم: الروح، فإذا كان ليلة القدر استأذنوا ربهم تبارك وتعالى في النزول إلى الدنيا فيأذن لهم، فلا يمسون بأحد يصلي، أو على الطريق إلا دعوا له فأصابه منهم بركة، فقال عمر: يا أبا الحسن فحرض الناس على الصلاة حتى تصيبهم البركة، فأمر الناس بالقيام (1).
ومنها أيضا أن بعض الناس، قبل أن يجمعهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه على إمام واحد كانوا يميلون إلى أحسن الناس صوتا، يعني وإن لم يكن يحسن القراءة.
17 -
فقد ذكر صاحب كنز العمال: أن ابن سعد وغيره رووا بسندهم إلى نوفل بن إياس الهذلي قال: كنا نقوم في عهد عمر بن الخطاب فرقا في المسجد في رمضان هاهنا وهاهنا، وكان الناس يميلون إلى أحسنهم صوتا فقال عمر: ألا أراهم قد اتخذوا القرآن أغاني، أما والله لئن استطعت لأغيرن هذا، فلم أمكث ثلاث ليال حتى أمر أبي بن كعب، فصلى بهم، ثم قام في آخر الصف، فقال: لئن كانت هذه البدعة لنعمت البدعة هي.
إذن عمر رضي الله عنه حينما جمع الناس في صلاة التراويح، كانت هناك أسباب دعته إلى الاجتهاد في هذه المسألة، تفرق الناس وهم يصلون صلاة واحدة فكانوا في المسجد أوزاعا، ثم خوفه على أن يجتمع الناس على شخص لا يحسن القراءة، ثم خوفه من الناس أن يجتمعوا على شخص لحسن صوته، وإن لم يحسن القراءة، ثم مشاورة بعض الصحابة له بذلك.
(1) انظر كنز العمال 8/ 400، رقم 23479، قال الهندي: رواه ابن وهب، بسند ضعيف.
فإذا اجتهد عمر رضي الله عنه وجمع الناس على إمام واحد، كان ذلك من حقه، ومن مثل عمر في اجتهاده؟ وقد شهد له أهل العلم بذلك، وليس في الشرع ما يمنع ذلك، فهذا هو الأولى إن شاء الله.
المسألة الرابعة:
فهي أن في رواية البخاري التي أشار إليها البهوتي رحمه الله فيها ما يشعر بأن صلاة التراويح عند عمر رضي الله عنه عند آخر الليل أفضل من صلاتها في أول الليل في جماعة، فقد جاء في أثر عبد الرحمن بن عبد القارئ قول عمر رضي الله عنه: والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون.
وقال عبد الرحمن بن عبد القارئ الذي روى عنه ذلك: يريد آخر الليل وكان الناس يقومون أوله (1).
وليس هذا فقط، بل جاءت روايات أخرى عن عمر رضي الله عنه تؤكد هذا وتقويه.
18 -
فقد ذكر صاحب كنز العمال: أن مسددا روى بسنده: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: استقبل عمر الناس من القيام فقال: ما بقي من الليل أفضل مما مضى.
19 -
وروى ابن أبي شيبة بسنده عن السائب قال: قال عمر: إنكم تدعون أفضل الليل. آخره (2).
20 -
وروى ابن أبي شيبة بسنده عن حبيب قال: قال رجل: ذهب الليل، فقال عمر: ما بقي من الليل خير مما ذهب (3).
(1) انظر رواية البخاري ص 1، الأثر رقم (1) وانظر مصنف ابن شيبة 2/ 396، رواه بسنده.
(2)
مصنف ابن أبي شيبة 2/ 396، حدثنا وكيع قال: حدثنا أسامة بن يزيد عن محمد بن يوسف الأعرج عن السائب.
(3)
مصنف ابن أبي شيبة 2/ 396، حدثنا وكيع، قال أخبرنا مسعر عن حبيب.
هذه الآثار المروية عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، تدل على أن صلاة التراويح آخر الليل، أفضل من صلاتها أول الليل، وهذا يتفق مع سيرته وديدنه، فقد كان رضي الله عنه، يصلي الليل في آخره، وأقره على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما بينته في مجلة التضامن الإسلامي (1).
وهناك بينت أيضا أن أبا بكر رضي الله عنه كان يصليها في أول الليل، وأقره على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكر الطحاوي رحمه الله: أن الأفضل أن يصليها المسلم في البيت منفردا، ولعله يحتج في ذلك بما روي عن عمر رضي الله عنه هنا، وقد ذكر الطحاوي رحمه الله من أدلته: عموم حديث زيد بن ثابت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة (2)» وهو حديث صحيح.
وجمع رحمه الله بين هذا الحديث وحديث أبي ذر الذي جاء فيه «أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه التراويح جماعة. ثم قال: إن القوم إذا صلوا مع الإمام حتى ينصرف كتب لهم قيام تلك الليلة (3)» ، وهو حديث صحيح أيضا يدل على أن صلاة التراويح جماعة أول الليل أفضل، فكان جوابه رحمه الله، أن قال: فتصحيح هذين الأثرين يوجب أن حديث أبي ذر هو على أن يكتب له بالقيام مع الإمام قنوت بقية ليلته، وحديث زيد بن ثابت يوجب أن ما فعل في بيته أفضل من ذلك حتى لا يتضاد هذان الأثران (4).
فحمل رحمه الله حديث أبي ذر على أن الصلاة مع الإمام في التراويح
(1) انظر الجزء الخامس السنة الثالثة والأربعون ذو القعدة عام 1408 هـ، ص 29 من مجلة التضامن الإسلامي.
(2)
شرح معاني الآثار 1/ 350.
(3)
سنن الترمذي الصوم (806)، سنن أبو داود الصلاة (1375)، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1327)، سنن الدارمي الصوم (1777).
(4)
شرح معاني الآثار 1/ 350.
مجزئة ولكن الأفضل أن تصلى في البيت لحديث زيد بن ثابت.
ومن الحجة له أيضا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان آخر الأمرين منه ترك صلاة التراويح جماعة في المسجد وصلاها في البيت منفردا.
ثم ذكر عن بعض الصحابة والتابعين، بأنهم كانوا يحبذون صلاة التراويح في البيت، وما كانوا يصلونها مع الجماعة، ذكر منهم ابن عمر، وإبراهيم النخعي وإسحاق بن سويد، وعروة، وسعيد بن جبير، والقاسم، وسالم، ونافع، ثم قال: فهؤلاء الذين روينا عنهم ما روينا من هذه الآثار، كلهم يفضل صلاته وحده في شهر رمضان على صلاته مع الإمام، وذلك هو الصواب.
ولكن أهل العلم سوى الطحاوي، جنحوا إلى ما ذهب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حين أمر أن تقام صلاة التراويح جماعة في أول الليل، وكلهم نص على أن ذلك أفضل، أعني أبا حنيفة ومالكا والشافعي وأحمد رحمهم الله، وقد نقل عن الإمام مالك رواية غير معتمدة في المذهب: بأن صلاتها في البيت أفضل ولكن أصحابه بينوا بأن المراد من ذلك على هذه الرواية، مشروط بمن قوي على ذلك، وليس كل الناس يقوى عليها، وبأنه مشروط بما إذا كانت المساجد لم تعطل من جراء ذلك، وإلا كانت الصلاة في البيت منفردا مفضولة (1).
وهكذا ذكر النووي عن الشافعية قولا غير معتمد في المذهب، وقال: بأن ذلك مشروط، بأن يكون من فعل ذلك حافظا للقرآن ولا يخاف الكسل في أدائها لو انفرد، ولا تختل الجماعة في المسجد بتخلفه، فإن فقد شرطا من هذه الشروط فالجماعة أفضل بلا خلاف في المذهب (2).
(1) مواهب الجليل 2/ 70، 71.
(2)
المجموع 4/ 30.
وحينما سئل الإمام أحمد رحمه الله: عن تأخير صلاة التراويح قال: لا، سنة المسلمين أحب إلي، ونقل ابن قدامة عنه عند أبي عبد الله فعلها في جماعة (1).
وبهذا يتضح أن الأئمة الأربعة على خلاف رأي الشيخ رحمه الله.
يقول ابن حجر: جنح الجمهور إلى ما ذهب إليه عمر رضي الله عنه (2).
والإجابة عن الآثار التي رويت عن عمر رضي الله عنه وهي تدل بظاهرها على أن صلاة التراويح آخر الليل في البيت أفضل بإطلاق بعضها، يعني سواء كانت في صلاة ليال رمضان أو غيره مثل أثري السائب وحبيب، وبعضها في صلاة التراويح خاصة، كما في أثري عبد الرحمن بن عبد القارئ وابن عباس.
فالجواب عنها بأنه من المستبعد أن يأمر عمر بن الخطاب المسلمين بالمفضول ليتركوا الأفضل لا سيما وقد وافقه جماعة الصحابة ولا يستبعد أن يكون فهم ذلك من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان قد صلاها وقد ذكر ذلك الباجي رحمه الله (3).
ثم إن ما جاء في أثري عبد الرحمن بن عبد القارئ وغيره يمكن حمله على أن المراد من أخر صلاتها في آخر الليل جماعة لا منفردا.
وقد نقل النووي عن صاحب الشامل: أن الجماعة أفضل عند أبي العباس وأبي إسحاق من الشافعية واحتجا بإجماع الصحابة وإجماع أهل الأمصار على ذلك.
(1) المغني والشرح الكبير 1/ 799، 800.
(2)
فتح الباري 4/ 252.
(3)
انظر تنوير الحوالك 1/ 138.
واحتج النووي على كونها أفضل وأنه هو المذهب عند الشافعية بما روي عن عمر رضي الله عنه حين جمع الناس على أبي بن كعب (1).
وقد ناقش ابن قدامة رحمه الله: ما احتج به الطحاوي فقال: حديث أبي ذر: وهو أن القوم إذا صلوا مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام تلك الليلة، فقال: إن هذا خاص في قيام رمضان وهو مقدم على عموم ما احتجوا به - يعني من حديث زيد بن ثابت - الذي جاء فيه: «إن صلاة النافلة في البيت أفضل إلا المكتوبة (2)» . ثم قال: أما ترك النبي صلى الله عليه وسلم: صلاته التراويح جماعة فمعلل بكونه صلى الله عليه وسلم خشي أن تفرض على أمته، وقد أمن أن يفعل ذلك بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.
وأما الآثار التي احتجوا بها عن بعض الصحابة والتابعين فيقول ابن قدامة: إن من فضل منهم الصلاة وحده في البيت في النوافل، مرادهم صلاة الليل دون ما يعمها، يعني ما كانوا يعنون صلاة التراويح لأنها تصلى في جماعة (3).
وقد ذكر النووي: بأن الدليل على كون صلاة النافلة في البيت أفضل ليس على عمومه وأنه مخصوص: لأن كثيرا من النوافل شرعت فيها الجماعة، وذلك كصلاة العيدين، والكسوف، والاستسقاء، وكذلك التراويح مشروع فيها الجماعة في المسجد وأنه الأفضل بخلاف غيرها من النوافل (4).
والذي يظهر مما سبق أن حجة من يقول: بأن صلاة التراويح الأفضل أن تصلى جماعة في أول الليل، هي الراجحة، وهذه مذهب عمر رضي الله عنه لأنه من المستبعد أن يأمر بذلك ويحث الناس عليه وغيره أفضل
(1) انظر المجموع 4/ 30.
(2)
صحيح البخاري الأذان (731)، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (781)، سنن الترمذي الصلاة (450)، سنن النسائي قيام الليل وتطوع النهار (1599)، سنن أبو داود الصلاة (1044)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 186)، موطأ مالك النداء للصلاة (293)، سنن الدارمي الصلاة (1366).
(3)
انظر: المغني والشرح الكبير 1/ 800.
(4)
انظر شرح صحيح مسلم للنووي 6/ 41.
منه، ويكفينا في ترجيح ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعل ذلك وشاهد من فعله ولم ينكره ولولا خشية أن تفرض لاستمر على ذلك صلى الله عليه وسلم، بل إن عمر رضي الله عنه فعل ذلك بمشاهدة الصحابة، ولم ينكر عليه منهم أحد، وقال في ذلك: نعمت البدعة على ما سيأتي وهذا ما درج عليه المسلمون في الحرمين الشريفين وغيرهما إلى يومنا هذا.
المسألة الخامسة:
فهي أن في هذه الرواية التي رواها البخاري، وأشار إليها البهوتي رحمه الله من رواية عبد الرحمن بن عبد القارئ ما يشعر بأن عمر رضي الله عنه حين أمر بأن تصلى صلاة التراويح جماعة، ما كان يصلي معهم في بعض الأوقات وذلك أنه جاء في الأثر قول عبد الرحمن بن عبد القارئ، فخرجت معه - يعني عمر - ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة إمامهم.
قال ابن حجر عند كلامه على الأثر: وقوله: فخرجت معه ليلة والناس يصلون بصلاة إمامهم فيه إشعار بأن عمر كان لا يواظب على الصلاة معهم، وكان يرى أن الصلاة في بيته ولا سيما في آخر الليل أفضل (1).
ويؤيد ما قاله ابن حجر رحمه الله:
21 -
ما رواه محمد بن نصر في قيام الليل من طريق طاوس عن ابن عباس قال: كنت عند عمر في المسجد فسمع هيعة الناس فقال: ما هذا؟ قيل: خرجوا من المسجد، وذلك في رمضان، قال: ما بقي من الليل أحب إلي مما مضى (2).
22 -
وقد روى ابن أبي شيبة هذا الأثر، لكنه لم يقل في روايته: أن
(1) فتح الباري 4/ 253.
(2)
فتح الباري 4/ 253، قال ابن حجر: رواه محمد بن نصر في قيام الليل.
ابن عباس قال: كنت عنده في المسجد، وإنما قال: دعاني عمر رضي الله عنه لأتغذى عنده - قال أبو بكر: يعني "السحور "في رمضان. وذكر الأثر.
فإن هذه الآثار تدل على أن عمر لم يكن يواظب على صلاة التراويح جماعة كما يقول ابن حجر رحمه الله، ولا غضاضة في ذلك فهذه حال السنة، لم يؤمر بها عمر ولا غيره أمر إيجاب، فكونه رضي الله عنه لم يواظب عليها لدلالة هذه الآثار على ذلك فنعم.
لكن كونه كان يؤخر ذلك من أجل أن يصليها في بيته لأنه أفضل كما يقول ابن حجر رحمه الله، فلا لما بينته في المسألة التي قبل هذه، ولأن أثر ابن عباس هنا محمول على أن عمر رضي الله عنه، لم يدرك صلاة التراويح كلها فقد يكون صلى معهم بعضها ثم انصرف، يدل عليه أن ابن عباس يقول: كنت عند عمر في المسجد. وهذا يوحي بأنه صلى معهم شيئا منها، وإلا لماذا كان في المسجد.
وقد جاءت روايات أخرى عن عمر رضي الله عنه تدل على أنه كان يصلي التراويح مع جماعة المسلمين في أول الليل.
23 -
فقد روى ابن أبي شيبة بسنده عن عبد الله بن السائب، قال: كنت أصلي في رمضان فبينما أنا أصلي سمعت تكبير عمر على باب المسجد قدم معتمرا فدخل فصلى خلفي.
24 -
وجاء في أثر نوفل رقم (17) أن عمر حين أمر أبي بن كعب: أقام في آخر الصف (1).
(1) انظر ص 14، رقم الأثر 17.
25 -
وروى البيهقي بسنده إلى زيد بن وهب قال: كان عمر بن الخطاب يروحنا في رمضان، - يعني بين الترويحتين - قدر ما يذهب الرجل من المسجد إلى سلع (1).
وسلع جبل معروف بالمدينة، قريب من المسجد النبوي، حوالي ربع ساعة، للمشي على الأقدام.
وفي نظري أنه لا داعي للتأويل، إذ لا يستبعد أن يكون عمر رضي الله عنه هو إمامهم في تلك الليلة بناء على ظاهر الرواية، وقد نقل ابن قدامة عن الإمام أحمد، ما يشير على أن عمر كان يصلي بهم التراويح في بعض الأحيان.
قال ابن قدامة: وقال الإمام أحمد: وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم «اقتدوا بالخلفاء» ، وقد جاء عن عمر أنه كان يصلي في الجماعة (2).
إذن عمر رضي الله عنه خالف عادته حين أمر المسلمين بأن يصلوا صلاة التراويح جماعة في أول الليل فكان يصلي معهم وذلك دليل على أنه كان يرى ذلك أفضل وبخاصة حين قال في ذلك: نعم هذه البدعة على ما سيأتي.
المسألة السادسة:
فهي أن رواية البخاري التي أشار إليها البهوتي رحمه الله، جاء فيها قول عمر رضي الله عنه حين أمر بأن تقام صلاة التراويح جماعة في أول الليل ورأى المسلمين قد فعلوا ذلك، قال: نعم البدعة.
(1) كنز العمال 8/ 409، رقم 3472، قال الهندي: رواه البيهقي.
(2)
المغني والشرح الكبير 1/ 799.
والبدعة لها عند أهل العلم معنى لغوي ومعنى شرعي اصطلاحي. فالمعنى اللغوي: هو أن يبدع الإنسان وينشئ أمرا لم يكن معهودا له. والبدع كما يقول صاحب اللسان: الشيء الذي يكون أولا (1).
وعليه فلو أن الإنسان كان من عادته ألا يأكل اللحم مثلا، وأكله أخيرا فإنه يعد مبتدعا في اللغة، لأنه عمل عملا وأنشأه على غير عادته، والظاهر أن عمر رضي الله عنه عنى بقوله في صلاة التراويح أو الليل: نعمت البدعة المعنى اللغوي، وذلك لأنه رضي الله تعالى عنه كان من عادته وديدنه أنه يصلي صلاة الليل ومنها التراويح والوتر آخر الليل لا أوله، فلما أمر المسلمين أن يصلوا تلك الصلاة في أول الليل وصلى معهم على خلاف عادته قال: نعمت البدعة يعني في حق نفسه لا أنه عنى البدعة الشرعية، التي قال الشاطبي معناها: أن يحدث أمرا في الشرع على غير مثال (2). فهي أخص من البدعة اللغوية ومن ظن: أن قول عمر رضي الله عنه من ذلك القبيل فقد أخطأ الصواب ويعجبني ما قاله الشاطبي في قول عمر رضي الله عنه، فهو يقول: فالعلوم الخادمة للشريعة وما كان له أصل في الشرع ليس ببدعة شرعية، ومن سمى ذلك بدعة، فإما على المجاز، كما سمى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قيام الناس في ليالي رمضان بدعة، وإما جهلا بجوامع السنة والبدعة، فلا يكون قول من قال ذلك معتدا به ولا معتمدا عليه (3).
وهذا الذي قاله الشاطبي رحمه الله حق، ولكنني لست معه، في أن عمر رضي الله عنه سمى قيام الناس في ليالي رمضان بدعة.
وإنما كان يعني بقوله هذا نفسه لأنه كان قد خالف عادته وديدنه في أنه يصلي صلاة الليل ومنها الوتر في آخر الليل، وأقره رسول الله
(1) انظر: مادة بدع في اللسان لابن منظور 8/ 6.
(2)
انظر: الاعتصام 1/ 36، 37.
(3)
انظر: الاعتصام 1/ 36، 37.
(صلى الله عليه وسلم على ذلك كما هو ثابت.
فهي إذن بدعة لغوية وليست شرعية، ولو كانت شرعية، فإن عمر قطعا لا يريدها بل هي مجاز كما قال الشاطبي رحمه الله.
والدليل على أن عمر رضي الله عنه ما كان يقصد بقوله: البدعة الشرعية التي هي إحداث أمر في الشرع على غير مثال، ما يأتي:
1 -
أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى التراويح جماعة في رمضان.
فقد روى البخاري في صحيحه بسنده إلى عروة بن الزبير: أن عائشة رضي الله عنها أخبرته «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ليلة من جوف الليل فصلى في المسجد، فصلى رجال بصلاته فأصبح الناس فتحدثوا فاجتمع أكثر منهم، فصلوا معه، فأصبح الناس، فتحدثوا فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى فصلوا بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح فلما قضى الفجر، أقبل على الناس فتشهد ثم قال: أما بعد: فإنه لم يخف علي مكانكم، ولكني خشيت أن تفرض عليكم، فتعجزوا عنها، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك (1)» .
أفترى أن عمر يسمي صلاة التراويح جماعة بدعة وقد فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وهل فعل عمر رضي الله عنه بعد ذلك على غير مثال سابق؟ كلا.
2 -
وروى الطحاوي بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم شاهد أناسا يصلون بصلاة أبي فقال: نعم ما صنعوا (2)» .
قال ابن حجر معقبا على هذا الحديث: هو ضعيف، والمحفوظ:
(1) صحيح البخاري م 1 ج2، 253.
(2)
شرح معاني الآثار 1/ 349، 352، فتح الباري 4/ 252، قال ابن حجر: هو ضعيف لأن فيه مسلم بن خالد.
أن عمر هو الذي جمع الناس على أبي بن كعب، يعني على إمام واحد (1).
لكن هذا المحفوظ عن عمر رضي الله عنه، لا يمنع أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم رأى بعض الناس فعل ذلك تطوعا فلم يمنعهم، وما كل الناس اجتمعوا على إمام واحد في عهده صلى الله عليه وسلم، وإنما كان ذلك في عهد عمر رضي الله عنه.
3 -
ونقل ابن حجر عن ابن التين: من أن عمر استنبط ذلك من تقرير النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليالي وإن كان كره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فإنما كرهه خشية أن تفرض عليه، وترجح هذا عند عمر رضي الله عنه لما في الاختلاف من افتراق الكلمة (2) وهذا مؤيد لهذا الحديث الذي قال فيه ابن حجر أنه ضعيف.
وأهل العلم المعتد بهم يعرفون أن ما سنه عمر سواء كان عن توقيف أو عن اجتهاد منه لا يقال فيه أنه بدعة شرعية في الدين.
ولما ذكر ابن قدامة مشروعية صلاة الجماعة في التراويح قال: ولنا إجماع الصحابة على ذلك - يعني في عهد عمر - وجمع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وأهله في حديث أبي ذر (3).
أفترى أن الصحابة يجمعون على بدعة في الدين ولا يعارضون عمر في ذلك لو كانت كذلك، بل إن بعض الصحابة امتدح عمر رضي الله عنه في صنيعه ذلك بعد وفاته.
4 -
فقد ذكر صاحب كنز العمال: أن ابن شاهين روى عن أبي إسحاق الهمداني قال: خرج علي بن أبي طالب في أول ليلة من
(1) فتح الباري 4/ 252.
(2)
فتح الباري 4/ 252.
(3)
المغني والشرح الكبير 1/ 800.
رمضان والقناديل تزهر - أي تضاء - وكتاب الله يتلى فقال: نور الله لك يا ابن الخطاب في قبرك كما نورت مساجد الله تعالى بالقرآن.
فهل يدعو علي رضي الله عنه لعمر بن الخطاب بالمغفرة والرحمة لو كان عمله بدعة شرعية أحدثت على غير مثال في الشرع، أو كان ذلك العمل في مقابل السنة، لو كان الأمر كذلك لكانت مذمومة ولما وافقه الصحابة ولما دعا له علي بن أبي طالب بعد وفاته.
ثم لو لم يشهد لعمر رضي الله عنه فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإجماع الصحابة رضي الله عنهم في عهده على جواز اجتماع الناس على إمام واحد في صلاة التراويح بخصوصها لكان في أصول الشرع ما يشهد لعمله لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أقام صلاة الجماعة في كثير من النوافل كصلاة العيدين والاستسقاء والكسوف، وأوضح من ذلك.
5 -
ما رواه البخاري في باب - صلاة النوافل جماعة - بسنده إلى ابن شهاب قال: أخبرني محمود بن الربيع الأنصاري: «أنه عقل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعقل مجة مجها في وجهه من بئر كانت في دارهم فزعم محمود: أنه سمع عتبان بن مالك الأنصاري رضي الله عنه وكان ممن شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كنت أصلي لقوم ببني سالم، وكان يحول بيني وبينهم واد إذا جاءت الأمطار فيشق علي اجتيازه قبل مسجدهم، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: إني أنكرت بصري، وإن الوادي الذي بيني
وصلاتها جماعة هو البدعة، لأن الفعل في مقابلة الترك كما ذكره في مواهب الجليل: فإنه قال: يعني البدعة جمعهم على قارئ واحد، لأنهم كانوا قبل ذلك يصلون أوزاعا فجمعهم رضي الله عنه على قارئ واحد، فهذا الجمع هو البدعة، فإن قيل قد صلى بهم صلى الله عليه وسلم ثم ترك، فكيف يجعل جمعهم بدعة، فيقال: لما فعله عليه الصلاة والسلام ثم تركه فتركه السنة، وصار جمعهم بعد ذلك بدعة حسنة (1).
وقد ثبت بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك صلاة التراويح جماعة وتوفي على ذلك.
فقد روى البخاري بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقد من ذنبه (2)» ، قال ابن شهاب - أحد رواة السند - فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأمر على ذلك، ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدرا من خلافة عمر رضي الله عنهما (3).
قال ابن حجر في فتح الباري: يعني على ترك الجماعة (4).
وفي نظري أن هذا ليس فيه دليل على أن عمر أراد بدعة شرعية، لأن ترك الرسول صلى الله عليه وسلم إنما كان شفقة وخشية أن تفرض، فليس جمع الناس بعد وفاته صلى الله عليه وسلم بدعة شرعية، وعمر رضي الله عنه هو أولى من غيره بمعرفة ذلك، ولو كانت بدعة شرعية لما عملها ولما حث عليها رضي الله عنه. وأما ما أراده عمر رضي الله عنه بقوله: نعمت البدعة، فإن صاحب مواهب الجليل بعد أن ذكر أقوال بعض أهل العلم في معنى المراد من قول عمر قال: وأجاب سند - من علماء المالكية - بأنه أراد بالبدعة جمعهم مواظبة في المسجد في أول الليل على قارئ واحد،
(1) مواهب الجليل 2/ 70.
(2)
صحيح البخاري الإيمان (37)، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (760)، سنن الترمذي الصوم (683)، سنن النسائي الصيام (2202)، سنن أبو داود الصلاة (1371)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 241)، سنن الدارمي الصوم (1776).
(3)
صحيح البخاري م1 ج2/ 251، وانظر كنز العمال 8/ 407، رقم 23466.
(4)
فتح الباري 4/ 252.
لا أصل الصلاة، أما قيام رمضان فكان مشروعا كما بينا بأن قيام الليل بينهم معتاد فضلا عن رمضان، ألا ترى إلى قول عمر: والتي تنامون عنها أفضل؟ فخير قيام صلاة الليل آخر الليل فلم تستحق البدعة في ذلك من كل وجه (1).
وأخيرا أنقل كلام ابن الأثير رحمه الله في النهاية فإنه قال: وفي حديث عمر رضي الله عنه في قيام رمضان "ونعمت البدعة هذه "البدعة بدعتان: بدعة هدى، وبدعة ضلالة، فما كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو في حيز الذم والإنكار، وما كان واقعا تحت عموم ما ندب الله إليه، وحض عليه الله ورسوله، فهو في حيز المدح، وما لم يكن له مثال موجود كنوع من الجود والسخاء وفعل المعروف فهو من الأفعال المحمودة، ولا يجوز أن يكون ذلك في خلاف ما ورد الشرع به، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل له في ذلك ثوابا «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها (2)» وقال في ضده:«ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها (3)» وذلك إذا كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن هذا النوع قول عمر رضي الله عنه:"نعمت البدعة هذه "لما كانت من أفعال الخير وداخلة في حيز المدح سماها بدعة مدحها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسنها لهم، وإنما صلاها ليالي ثم تركها ولم يحافظ عليها ولا جمع الناس ولا كانت في زمن أبي بكر، وإنما عمر رضي الله عنه جمع الناس عليها وندبهم إليها، فبهذا سماها بدعة وهي على الحقيقة سنة لقوله صلى الله عليه وسلم:«عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي (4)» ، وقوله:«اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر (5)» (6).
(1) مواهب الجليل 2/ 70.
(2)
صحيح مسلم الزكاة (1017)، سنن النسائي الزكاة (2554)، سنن ابن ماجه المقدمة (203)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 359)، سنن الدارمي المقدمة (512).
(3)
صحيح مسلم الزكاة (1017)، سنن الترمذي العلم (2675)، سنن النسائي الزكاة (2554)، سنن ابن ماجه المقدمة (203)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 359)، سنن الدارمي المقدمة (512).
(4)
سنن الترمذي العلم (2676)، سنن ابن ماجه المقدمة (44)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 126)، سنن الدارمي المقدمة (95).
(5)
سنن الترمذي المناقب (3662)، سنن ابن ماجه المقدمة (97)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 382).
(6)
انظر النهاية مادة: بدع.
وأنا قلت فيما مضى بأن عمر قصد البدعة في حق نفسه لأنه من عادته أن يؤخر صلاة الليل فلما صلاها مع المسلمين حين أمر بها أن تصلى جماعة، قال ما قال: وقصد البدعة اللغوية، إن شاء الله ولم أر من قال ذلك.
وأخيرا أختتم حديثي عن صلاة التراويح جماعة في رمضان في فقه عمر رضي الله عنه وأهل العلم بعده بأثر رواه البيهقي في القراءة في التراويح فقد روى البيهقي وغيره بسندهم إلى أبي عثمان النهدي قال: دعا عمر رضي الله عنه بثلاثة قراء، فاستقرأهم، فأمر أسرعهم: أن يقرأ للناس في رمضان ثلاثين آية، وأمر أوسطهم أن يقرأ خمسا وعشرين آية وأمر أبطأهم أن يقرأ عشرين آية.
صفحة فارغة
مسألة
دفع الخصومة
للشيخ مسفر بن حسين القطحاني
تمهيد:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وأتباعه أجمعين. أما بعد: -
فإن جواب المدعى عليه - في مجلس القضاء - من المسائل التي حرر فقهاؤنا رحمهم الله أحكامها في مواضع مجتمعة أو متفرقة من مصفاتهم الفقهية. وذكروا - رحمهم الله تعالى - أن جواب المدعى عليه على دعوى المدعي قد يكون إقرارا. وقد يكون إنكارا. وقد يمتنع المدعى عليه عن الجواب، كما قد يجيب المدعى عليه بدفع الخصومة عن نفسه إلى غيره، أو يجيب بدفع الدعوى ذاتها. ومحل بحثنا - في هذا المقام - هو ما إذا أجاب المدعى عليه بما يدفع الخصومة عن نفسه إلى غيره. فنقول وبالله العون والتوفيق.
معنى دفع الخصومة
ذكر فقهاء الحنفية - رحمهم الله تعالى - ضوابط لمعنى دفع
الخصومة، فقال الفقيه الكاساني - في كتابه بدائع الصنائع - " المدعى عليه يخرج عن كونه خصما للمدعي بكون يده غير يد المالك "(1). وقال القاضي أحمد بن علي الرازي المعروف بالجصاص " الأصل في هذا الباب - أي مسألة دفع الخصومة - أن المدعى عليه متى أحال الخصومة على خصم معروف بوجهه، ببينة أقامها، لم يكن بينه وبين المدعي خصومة "(2). وقال صاحب درر الحكام شرح مجلة الأحكام: " في الخصم ضابطان: الأول: إذا ادعى أحد شيئا، وكان يترتب على إقراره حكم إذا أقر يكون بإنكاره خصما في الدعوى وإقامة البينة في بعض الأحوال.
الضابط الثاني: وإذا كان لا يصح إقرار المدعى عليه، أي أنه في حالة إقراره لا يترتب حكم على إقراراه، فبإنكاره لا يكون خصما في الدعوى وإقامة البينة؛ لأن البينة تقام على الخصم المنكر (3).
أما فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة فإن ذكر مسألة دفع الخصومة ترد عند ذكرهم مسألة إقرار المدعى عليه لثالث.
صور دفع الخصومة:
ذكر الفقهاء - رحمهم الله تعالى - من صور دفع الخصومة ما يلي:
1 -
أن يجيب المدعى عليه الحائز للعين محل النزاع بقوله: هذه العين التي يدعيها المدعي ليست لي.
(1) بدائع الصنائع 6/ 231.
(2)
شرح أدب القضاء للجصاص 406.
(3)
درر الحكام 4/ 200.
2 -
أو يقول: هذه العين التي يدعيها المدعي هي لفلان ابن فلان الغائب.
3 -
أو يقول: هذه العين التي يدعيها المدعي هي لفلان ابن فلان الغائب استأجرتها أو استعرتها منه ونحو ذلك من الأسباب.
4 -
أو يجيب بقوله: هذه العين التي يدعيها المدعي هي لفلان الحاضر.
5 -
أو يقول: هذه العين التي يدعيها المدعي لرجل لا أعرفه أو لرجل لا أسميه.
قلت: الحكم في الصورة الأولى: هل جواب المدعى عليه إقرار فتسلم العين إلى المدعي أم ليس بإقرار لعدم صراحته، فيطلب منه الجواب الصريح بالإقرار أو الإنكار أو ليس بإقرار ولا إنكار ولكن تسليم العين إلى مدعيها لعدم المنازع، وإذا سلمت إلى المدعي، فكيف يضيفها إلى ملكه بلا سبب، وهل يتعين حينئذ أن يطالب بإثبات دعواه. ثم هل تبقى العين في يد صاحب اليد إلى حيث الإثبات، أم تحفظ لدى القاضي. وكذلك الأمر في الصورة الثانية: هل تجري المحاكمة مع صاحب اليد، ولا يلتفت لجوابه أن العين لفلان الغائب؟ أو تنتقل الخصومة إلى فلان الغائب بمجرد الإقرار بالملكية؟ وإذا قلنا بانتقال الخصومة: فهل كان قصد صاحب اليد صحيحا؟ أم كان يقصد الاحتيال لدفع الخصومة عن نفسه، ويلزمه حينئذ إثبات ملكية الغائب للعين محل الدعوى، ثم إن ألزمناه بإثبات ملكية للغائب فكيف نثبت الملكية للغائب ولم يكن حاضرا، ولم يوكل صاحب اليد بالإثبات والمخاصمة عنه، ثم إن عجز صاحب اليد عن إثبات الملكية للغائب، فهل يحلف المدعي لنفي دعوى دفع الخصومة؟ فإن نكل اندفعت الخصومة وإن حلف سار القاضي في الدعوى الأصلية.
ولك أن تسأل نحو هذا في الصور الأخرى.
وإذا كان الأمر كذلك، فإننا لا نكاد نعدم لكل سؤال من جواب في أقوال الفقهاء - رحمهم الله تعالى.
وحيث يتعذر حصر أقوال الفقهاء في مسألة دفع الخصومة، لكثرة اختلافهم فيها، فإن من المتعين أن نطلع على ما نص عليه فقهاء كل مذهب في هذه المسألة.
حكم دفع الخصومة:
أولا: المذهب الحنفي:
يقول الفقيه الكاساني صاحب كتاب "بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ": " وأما بيان ما تندفع به الخصومة عن المدعى عليه ويخرج عن كونه خصما للمدعي، فنقول وبالله التوفيق: إنه يخرج عن كونه خصما للمدعي بكون يده غير يد المالك وذلك يعرف بالبينة أو بالإقرار أو بعلم القاضي نحو ما إذا ادعى على رجل دارا أو ثوبا أو دابة فقال الذي في يده: هو ملك فلان الغائب أودعنيه.
وجملة الكلام فيه: أن المدعي لا يخلو: إما أن يدعي عليه ملكا مطلقا ولم يدع عليه فعلا أو يدعي عليه فعلا، فإن ادعى ملكا مطلقا ولم يدع عليه فعلا، فقال الذي في يده: أودعنيها فلان الغائب أو رهنها، أو آجرها أو أعارها، أو غصبتها أو سرقتها، أو أخذتها أو انتزعتها، أو ضلت منه فوجدتها، وأقام البينة على ذلك تندفع عنه الخصومة عند عامة العلماء " (1). ثم قال:" هذا إذا لم يكن الرجل معروفا بالافتعال والاحتيال، فإن كان، تندفع عنه الخصومة عند أبي حنيفة ومحمد أيضا، وعند أبي يوسف: لا تندفع، وهي المسألة المعروفة بالمخمسة ".
ثم قال: " وكذلك لو ادعى لنفسه والفعل على غير ذي اليد، بأن قال
(1) انظر بدائع الصنائع 6/ 231 نشر دار الكتاب العربي - بيروت - لبنان.
هذا ملكي غصبه مني فلان: لأنه لم يدع على ذي اليد فعلا، فصار في حق ذي اليد دعوى مطلقة؛ فكان على الخلاف الذي ذكرنا. فأما إذا ادعى فعلا على ذي اليد؛ بأن قال: هذه داري، أو دابتي، أودعتكها، أو غصبتنيها أو سرقتها، أو استأجرتها، أو ارتهنتها مني، وقال الذي في يديه: إنها لفلان الغائب أودعنيها، أو غصبتها منه، ونحو ذلك، وأقام البينة على ذلك لا تندفع عنه الخصومة، ووجه الفرق: أن ذا اليد في دعوى الملك المطلق إنما يكون خصما بيده، ألا ترى أنه لو لم يكن المدعى في يده لم يكن خصما.
فإذا أقام البينة على أن اليد لغيره، كان الخصم ذلك الغير وهو غائب فأما في دعوى الفعل فإنما يكون خصما بفعله، لا بيده، ألا ترى أن الخصومة متوجهة عليه بدون يده، وإذا كان خصما بفعله بالبينة لا يتبين أن الفعل منه لم يكن، فبقي خصما.
ولو ادعى فعلا لم يسم فاعله، بأن قال: غصبت مني أو أخذت مني، فأقام ذو اليد البينة على الإيداع، تندفع عنه الخصومة؛ لأنه ادعى الفعل على مجهول، وأنه باطل فالتحق بالعدم، فبقي دعوى ملك مطلق. فتندفع الخصومة. ولو قال: سرق مني، فالقياس أن تندفع عنه الخصومة، كما في الغصب والأخذ، وهو قول محمد وزفر، وفي الاستحسان لا تندفع، فرقا بين الغصب والأخذ، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - ووجه الفرق يعرف في الجامع. ولو قال المدعي: هذه الدار كانت لفلان فاشتريتها منه، وقال الذي في يده: أودعني فلان الذي ادعيت الشراء من جهته، أو سرقتها منه أو غصبتها، تندفع الخصومة من غير إقامة البينة على ذلك؛ لأنه ثبت كون يده يد غيره بتصادقهما، أما المدعى عليه فظاهر، أما المدعي فبدعواه الشراء منه؛ لأن الشراء منه
لا يصح بدون اليد " (1).
ثم قال رحمه الله " ولو قال الذي في يديه: ابتعته من فلان الغائب لا تندفع الخصومة، لأنه ادعى الملك واليد لنفسه، وهذا مقر بكونه خصما فكيف تندفع الخصومة؟ ولو أقام المدعي البينة أنه ابتاعه من عبد الله وقال الذي في يديه: أودعني عبد الله ذلك، تندفع الخصومة من غير بينة، لأنهما تصادقا على الوصول إليه من يد عبد الله فأثبتا اليد له وهو غائب (2).
ثانيا: المذهب المالكي:
يقول الفقيه ابن فرحون المالكي رحمه الله في كتابه الذي أسماه "تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام "، يقول: " فصل: لو ادعى رجل بملك، فكان إنكاره بإقراره به لغيره، كقوله: ليس لي فيه شيء. وإنما هو وقف على الفقراء، أو على ولدي، أو هو لطفل سماه، فيقال للمدعي: أثبت أنه لك، فإن هذا لا ينازعك فيه، إلا أن يثبت المدعى عليه ما ذكره من ذلك، فتقف المخاصمة على حضور من ثبت له عليه الولاية. ولو قال: ليس هو لي أو هو لمن لا أسميه لم يمنع المدعي ذلك من تمام المحاكمة. ولو قال: هو لفلان، وفلان حاضر في البلد، فحضر وادعى به، فللمدعي أن يحلف المقر له، فإن نكل حلف المدعي وأخذه، وإن حلف المقر له فللمدعي أن يحلف المقر؛ لأنه أتلف عليه بإقراره، فإن نكل حلف المدعي وأخذ ثمن المقر به.
أما لو أضافه إلى ملك غائب، فإن أثبت ذلك ببينة انصرفت الخصومة عنه إلى الغائب، وإن لم يثبت ذلك لم يصدق، وحلف المقر له، فإن نكل أخذه المدعي بغير يمين، فإن جاء المقر له فصدق المقر أخذه؛ لأن
(1) انظر بدائع الصنائع 6/ 231 نشر دار الكتاب العربي - بيروت - لبنان.
(2)
انظر بدائع الصنائع 6/ 232 نشر دار الكتاب العربي - بيروت - لبنان.
من هو بيده يتهم أن يكون أراد صرف الخصومة عن نفسه " (1).
ثالثا: المذهب الشافعي:
يقول القاضي أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله المعروف بابن أبي الدم الحموي الشافعي في كتابه "آداب القضاء وهو الدرر المنظومات في الأقضية والحكومات ": المسألة الخامسة: الإقرار لثالث، إذا ادعى ملكا في يد إنسان، فقال: ليس هو لي، ولا لك، فيه أحوال خمس:
الأولى:
أن يضيفها إلى حاضر ثالث، فيحضر، فإن صدقه، سلمت العين إلى الحاضر، وانصرفت الخصومة إليه، وإن كذبه، فيه ثلاثة أوجه، أصحها أن القاضي يحفظها إلى حين حجة لمدعيها، وأضعفها أنها تسلم إلى المدعي، ووجه ثالث: أنها تترك في يد ذي اليد، فلو رجع المقر بعد تكذيب المقر له، وقال: غلطت، هل يقبل؟ فيه وجهان قبل إزالة يده، ولا يقبل قوله بعد إزالة سلطته.
ولو رجع أيضا المقر له بعد أن كذب: فيه وجهان، ثم إذا سلمت العين المقر بها إلى الحاضر المقر له، هل للمدعي تحليف المقر؟ إن قلنا: إنه لو أقر لغرم للحيلولة القولية بالإقرار للثالث فله تحليفه، وإن قلنا: لا يغرم لم يحلفه.
فإذا قلنا يحلفه، فلو أحلفه فنكل، وردت اليمين على المدعي، فحلف، وقلنا: إن يمين الرد بمنزلة البينة، قال بعض الأصحاب: تؤخذ العين من يد المقر له الثالث، وتسلم إلى المدعى الحالف، لأن يمين الرد بمنزلة البينة.
والصحيح أنا لا نأخذ من يد هذا المقر له، ولا نسلمها إلى المدعي
(1) تبصرة الحكام 1/ 193، وكذا في كتاب البهجة شرح التحفة 1/ 48.
الحالف، بل نقتصر على وجوب القيمة، لأن يمين الرد، وإن جعلت كالبينة، لكن في حق المتداعين، ولا تتعدى إلى ثالث.
ثم قال الإمام بعد ذكر هذا: فرع: بعض المتكلفين على الوجه الضعيف القائل بانتزاع العين من يد المقر له، وتسلميها إلى المدعي الحالف، فقال: إذا أخذت منه، فهل له أن يغرم المدعى عليه الذي أقر له بها، ونكل عن اليمين، قيمة العين، لأنه يقول له: لو حلفت يمينا صادقة ما استردها مني هذا المدعي، فصار نكولك سببا لإزالة يدي؟ فيه وجهان، أصحهما لا يغرم له شيئا.
الحالة الثانية:
الإقرار بها لغائب: إذا أضاف العين إلى غائب فتصرف الخصومة إلى الغائب. وقال العراقيون لا نحلفه لأجل الغرم، وإن قلنا يغرم للحيلولة لو أقر الثاني. وقال الشيخ أبو محمد والغوراني: بل يحلف لينتزع العين من يده باليمين المردودة إن نكل؛ إذ لو فتح هذا الباب صار ذريعة إلى إسقاط الدعوى بالإضافة إلى الغائب الذي يتعذر رجوعه، ثم متى رجع الغائب ردت العين إليه، وعلى المدعي استئناف الخصومة معه.
ويتفرع على هذه المسألة: أن المدعي في هذه الحالة، إن أقام البينة على أن العين ملكه سلمت إليه قولا واحدا، ولكن: هل هو قضاء على الغائب فيحتاج إلى يمين أم هو قضاء على الحاضر المضيف العين إلى الغائب، فلا يحتاج إلى يمين المدعي؟ قال العراقيون: هو قضاء على الغائب، فلا بد من يمين، وعند الشيخ أبي محمد والغوراني هو قضاء على الحاضر، فلا يحتاج إلى يمين، هذا نقل الإمام. وقال القاضي أبو الطيب والشيخ أبو نصر: هل يحلف المدعي - والحالة هذه - إذا أقام بينة؟ اختلف أصحابنا فيه؛ فمنهم من قال: نعم؛ لأنه قضاء على الغائب ومنهم من قال: لا يحلف - وهو أبو إسحاق - لأنه قضاء على حاضر. ثم قال القاضي
أبو الطيب والشيخ أبو نصر: وإن كان للمقر بينة أنها للغائب، سمعت بينته، فإذا أقام المدعي بينة أنها له قدمت بينته على بينة المقر، ويكون قضاء على الغائب قولا واحدا.
قال: فإن قيل: فلم سمعتم بينة المقر؟ قلنا: الفائدة زوال التهمة عنه، وإسقاط اليمين عنه، إذا ادعى المدعي أنه يعلم أنها له.
هذا ما قاله هؤلاء الأئمة.
وقال الإمام: إذا كان لصاحب اليد بينة أنها للغائب، فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: لا تسمع، إلا أن يثبت كونه وكيلا عنه.
والثاني: تسمع، لا لإثبات ملك الغائب، بل لقطع التحليف والخصومة عنه.
والثالث: اختاره القاضي حسين، إن ادعى لنفسه علقة من وديعة أو عارية سمعت، وإلا فلا. ثم إن سمعت بينة المقر للغائب بعد ثبوت وكالته وأقام المدعي بينة بالملك له، قدمت بينة الوكيل، لأجل اليد. وإن سمعت بينته دون الوكالة، لصرف اليمين عنه، قدمت بينة المدعي. وقال القاضي أبو الطيب والشيخ أبو نصر: إذا ادعى المقر أن العين للغائب، وأنها في يده بإعارة أو إجارة، وأقام بذلك بينة، هل يقضي بهذه البينة؟ فيه وجهان. ومهما سلمت العين إلى المدعي ببينته المترجمة على بينة المقر الحاضر، كتب في سجل أن الغائب على حجته ويده مهما عاد. ثم متى عاد الغائب وادعى، وجب عليه إعادة البينة، ولا يغنيه ما أقامه صاحب اليد، ولكن متى رجع جعلناه صاحب اليد، حتى إذا أقام بينة قدمت على بينة المدعي، وانتزعت من يده، وإن كان قد تسلمها قبل حضور الغائب. وفرع المراوزة على هذه الحالة، ما لو ادعى الحاضر المقر رهنا أو إجارة لنفسه، هل تسمع بينته؟ فيه وجهان، فإن قلنا: تسمع، هل تقدم على بينة المدعي؟ فيه وجهان.
قال الإمام: الأظهر لا تقدم؛ لأنه إنما تثبت إجارته ورهنه بعد ثبوت ملك الغائب، فإذن لم تؤثر بينته إلا صرف الحلف عنه.
الحالة الثالثة:
الإقرار لرجل مبهم:
إذا قال: هذه العين لرجل لا أسميه، المذهب أن الخصومة لا تنصرف عنه بذلك، بل يحلف، فإن نكل حلف المدعي وأخذ، وقيل: يأخذ القاضي العين، ويودعها إلى أن تظهر حجته.
الحالة الرابعة:
الإقرار لصبي أو مجنون:
أن يضيفها على صبي أو مجنون انصرفت الخصومة إلى الولي، ولا يحلف الولي أصلا، بل تؤخر اليمين إلى وقت الأهلية.
الحالة الخامسة:
الإقرار بها وقفا:
أن يقول: هي وقف على ولدي، أو على الفقراء، انصرفت الخصومة عنه إليهم، ولم يبق على المقر إلا التحليف للتغريم " (1).
رابعا: المذهب الحنبلي:
يقول أبو محمد، عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة صاحب كتاب المغني شرح مختصر الخرقي (2): " مسألة ولو كان في يده دار، فادعاها رجل فأقر بها لغيره، فإن كان المقر له بها حاضرا جعل الخصم فيها، وإن كان غائبا - وكانت للمدعي بينة - حكم بها للمدعي ببينته، وكان الغائب على خصومته متى حضر.
(1) مغني المحتاج، وكذا متن المنهاج مع شرحه.
(2)
الجزء التاسع ص 301 فما بعدها. ونحو ذلك في كشاف القناع 6/ 342.
وجملته: أن الإنسان إذا ادعى دارا في يد غيره، فقال الذي هي في يده: ليست لي، إنما هي لفلان، وكان المقر له بها حاضرا سئل عن ذلك، فإن صدقه صار الخصم فيها مكان صاحب اليد؛ لأن من هي في يده اعترف أن يده نائبة عن يده، وإقرار الإنسان بما في يده إقرار صحيح؛ فيصير خصما للمدعي، فمن كانت للمدعي بينة حكم له بها، وإن لم تكن له بينة فالقول قول المدعى عليه مع يمينه، وإن قال المدعي أحلفوا لي المقر الذي كانت العين في يده أنه لا يعلم أنها لي فعليه اليمين، لأنه لو أقر له بها بعد اعترافه لزمه الغرم، كما لو قال هذه العين لزيد ثم قال هي لعمرو فإنها تدفع لزيد ويدفع فقيمتها لعمرو، ومن لزمه الغرم مع الإقرار لزمته اليمين مع الإنكار، فإن رد المقر له الإقرار، وقال: ليست لي وإنما هي للمدعي حكم له بها، وإن لم يقل: هي للمدعي، ولكن قال: ليست لي، فإن كانت للمدعي بينة حكم به بها، وإن لم تكن له بينة ففيه وجهان:
أحدهما: تدفع إلى المدعي؛ لأنه يدعيها ولا منازع له فيها؛ ولأن من هي في يده لو ادعاها ثم نكل قضينا بها للمدعي فمع عدم ادعائه لها أولى.
والثاني: لا تدفع إليه؛ لأنه لم يثبت لها مستحق؛ لأن المدعي لا يد له ولا بينة وصاحب اليد معترف أنها ليست له؛ فيأخذها الإمام، فيحفظها لصاحبها، وهذا الوجه الثاني ذكره القاضي والأول أولى؛ لما ذكرنا من دليله. ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين، ووجه ثالث: أن المدعي يحلف أنها له وتسلم إليه، ويتخرج لنا مثله بناء على القول برد اليمين إذا نكل المدعى عليه.
وإن قال المقر له: هي لثالث، انتقلت الخصومة إليه، وصار بمنزلة
صاحب اليد؛ لأنه أقر له بها من اليد له حكما. وأما إن أقر بها المدعى عليه لمجهول: قيل ليس هذا بجواب؛ فإن أقررت بها لمعروف، وإلا جعلناك ناكلا وقضينا عليك، فإن أصر قضى عليه بالنكول. وإن أقر لغائب أو لغير مكلف، معين كالصبي والمجنون صارت الدعوى عليه، فإن لم تكن للمدعي بينة لم يقض له بها؛ لأن الحاضر يعترف أنها ليست له، ولا يقضى على الغائب بمجرد الدعوى، ويقف الأمر حتى يقدم الغائب ويصير غير المكلف مكلفا. فتكون الخصومة معه. فإن قال المدعي: أحلفوا لي المدعى عليه أحلفناه لما تقدم.
وإن أقر بها للمدعي لم تسلم إليه. لأنه اعترف أنها لغيره، ويلزمه أن يغرم له قيمتها، لأنه فوتها عليه بإقراره بها لغيره. وإن كان مع المدعي بينة سمعها الحاكم، وقضى بها، وكان الغائب على خصومته متى حضر له أن يقدح في بينة المدعي وأن يقيم بينة تشهد بانتقال الملك إليه من المدعي، وإن أقام بينة أنها ملكه فهل يقضي بها؟ على وجهين بناء على تقديم بينة الداخل والخارج. فإن قلنا: تقدم بينة الخارج فأقام الغائب بينة تشهد له بالملك والنتاج. أو سبب من أسباب الملك؟ فهل تسمع بينته ويقضى بها؟ على وجهين، وإن كان مع المقر بينة تشهد بها للغائب سمعها الحاكم ولم يقض بها، لأن البينة للغائب والغائب لم يدعها هو ولا وكيله، وإنما سمعها الحاكم لما فيها من الفائدة، وهو: زوال التهمة عن الحاضر، وسقوط اليمين عنه إذا ادعى أنك تعلم أنها لي. ويتخرج أن يقضي بها إذا قلنا بتقديم بينة الداخل، وأن للمودع المخاصمة في الوديعة إذا غصبت؛ ولأنها بينة مسموعة فيقضي بها، كبينة المدعي إذا لم تعارضها بينة أخرى. فإن ادعى من هي في
يده أنها معه بإجارة أو إعارة، وأقام بينة بالملك للغائب لم يقض بها لوجهين:
أحدهما: أن ثبوت الإجارة والإعارة يترتب على الملك للمؤجر بهذه البينة؛ فلا تثبت الإجارة المترتبة عليها.
والثاني: أن بينة الخارج مقدمة على بينة الداخل، ويخرج القضاء بها على تقديم بينة الداخل، وكون الحاضر له فيها حق؛ فإنه يقضي بها وجها واحدا، ومتى عاد المقر بها لغيره، وادعاها لنفسه لم تسمع دعواه؛ لأنه أقر بأنه لا يملكها فلا يسمع منه الرجوع عن إقراره، والحكم في غير المكلف كالحكم في الغائب على ما ذكرنا ".
خامسا:
رأي القاضي ابن شبرمة: لا يرى القاضي ابن شبرمة رحمه الله القول بدفع الخصومة مطلقا، سواء أقام صاحب اليد البينة على دفعه الخصومة عن نفسه أو لم يقم البينة، وفي ذلك يقول محمد بن محمود البابرتي من فقهاء الحنفية في كتابه: العناية على الهداية "وقال ابن شبرمة: لا تندفع وإن أقامها، ووجه قوله: أنه أثبت ببينته الملك للغائب، وإثبات الملك للغائب بدون خصم متعذر، إذ ليس لأحد ولاية إدخال شيء في ملك غيره بغير رضاه، ودفع الخصومة بناء على إثبات الملك والبناء على المتعذر متعذر. والجواب: أن مقتضى هذه البينة شيئان: ثبوت الملك للغائب ولا خصم فيه، فلا يثبت، ودفع الخصومة عن نفسه وهو خصم فيه، وبناء الثاني على الأول ممنوع؛ لانفكاكه عنه، كالوكيل بنقل المرأة إلى زوجها إذا أقامت البينة على الطلاق، فإنها تقبل لقصر يد الوكيل عنها. ولم يحكم بوقوع الطلاق ما لم يحضر الغائب كما مر. ولئن سلمنا
البناء، لكن مقصود المدعى عليه بإقامة البينة ليس إثبات الملك للغائب، إنما مقصود إثبات أن يده يد حفظ، لا يد خصومة؛ فيكون ذلك ضمنيا ولا معتبر به (1).
سادسا:
رأي القاضي ابن أبي ليلى: يرى القاضي ابن أبي ليلى رحمه الله عكس ما يراه القاضي ابن شبرمة. أي أن صاحب اليد المدعى عليه إذا أقر بالملكية لغيره فإن الخصومة تندفع عنه مطلقا، سواء أقام البينة أو لم يقم البينة، بل لا حاجة - عنده - إلى إثبات الدفع بالبينة إذ يكفي مجرد الإقرار بالملكية للغير. وفي ذلك يقول صاحب العناية على الهداية " وقال ابن أبي ليلى: تندفع بمجرد الإقرار، ووجه قوله: أن ذا اليد أقر بالملك لغيره، والإقرار يوجب الحق لنفسه فتبين أن يده يد حفظ فلا حاجة إلى البينة. والجواب (2): أنه صار خصما بظاهر يده وبإقراره، يريد أن يحول حقا مستحقا على نفسه؛ فهو متهم في إقراره، فلا يصدق إلا بحجة، كما إذا ادعى تحول الدين من ذمته إلى ذمة غيره بالحوالة فإنه لا يصدق إلا بحجة. لا يقال: يلزم إثبات إقرار نفسه ببينة، وهو غير معهود في الشرع؛ لأنها لإثبات اليد الحافظة التي أنكرها المدعي، لا لإثبات الإقرار (3).
الترجيح:
إذا أمعنا النظر في صور دفع الخصومة، وإلى ما استدل به كل فريق
(1) العناية مع فتح القدير تكملة 8/ 239 فما بعدها.
(2)
أي جواب الإمام البابرتي صاحب العناية على الهداية.
(3)
العناية مع تكملة فتح القدير 8/ 239 فما بعدها.
من فرق العلماء - رحمهم الله تعالى - فإننا نجد أن تلك الصور هي وقائع لا دليل عليها من نص ولا إجماع ولا قياس جلي، وإنما دليلها المصلحة المرسلة. ولذا فإن ما نقعده: هو أن على المجتهد أن يميز بين كون النظر في هذه الوقائع نظرا سياسيا شرعيا سنده المصلحة، وبين كون النظر فيها قضائيا يلتزم طريق الحكم القضائي وصفته. أي أن النظر في صور دفع الخصومة، إنما يعود إلى تصرفات القاضي باعتباره إماما لا باعتباره قاضيا، وهناك فرق بين التصرفين ليس هذا مكانه، وممن حرر الفرق بين التصرفين القاضيان: الماوردي وأبو يعلى الفراء في كتاب كل منهما المسمى بالأحكام السلطانية. فإذا اتضحت للقاضي هذه القاعدة، فإن له أن يجتهد في صور دفع الخصومة بما تقضى به المصلحة، ويؤيد ضرورة التفريق بين التصرفين - في هذه المسألة - ما يلي:
1 -
صرح الفقهاء - أنفسهم -: أن سماع بينة دافع الخصومة إنما كان للمصلحة ولم تسمع بدليل شرعي معين، وكل حكم سنده المصلحة فهو حكم سياسي لا قضائي وعليه: فإن بينة دافع الخصومة هي بينة سياسية لا قضائية.
2 -
أن سماع بينة دافع الخصومة المدعى عليه - باعتبارها بينة قضائية - مخالف لنص: «البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه (1)» وقاعدة "بينة الخارج مقدمة على بينة الداخل "فإن دافع الخصومة مدعى عليه بقرينة وضع اليد، وبينته بينة الداخل باعتبار
(1) سنن الترمذي الأحكام (1341).
وضع اليد أيضا، ولا مخرج من هذه المخالفة إلا باعتبار بينته بينة سياسية لا قضائية.
3 -
أنه على التسليم باعتبار بينة دافع الخصومة بينة قضائية فإن هذا القول يكون ذريعة إلى الخروج عن طريق الحكم وصفته؛ وذلك لأن تعليل الأحكام القضائية بالمصلحة يقضي إلى الحكم بالرأي والهوى - أعاذنا الله من ذلك - لأن المصالح تتفاوت في إدراكها العقول السليمة، هذا إذا لم تخالف نصا شرعيا، فكيف إذا خالفت نصا شرعيا، ثم خول إدراكها إلى عقول غلبتها الأهواء. فلا مخرج من هذا إلا أن يكون سماع بينة دافع الخصومة حكما سياسيا لا حكما قضائيا.
4 -
أننا إذا اعتبرنا بينة دافع الخصومة بينة سياسية سندها المصلحة فلا يرد القول: بأن سماعها قضاء بالملكية للغائب، الذي لم يحضر ولم يوكل؛ وذلك لأن هذه البينة ليست قضائية، والأحكام القضائية إنما تبنى على البينات القضائية.
هذا، ولا يعني أن فيما ذكرناه تعطيلا للأخذ بأقوال الفقهاء - رحمهم الله تعالى - بل إن ما بينوه فيه ما يغني عما سواه، ولكن ما ذكرناه يتضح فيه المخرج من جميع المحاذير والإيرادات التي أشرنا إليها فيما تقدم.
بعد هذا، فإن الترجيح بين أقوال الفقهاء - في هذه المسألة، من جهة أن تلك الأحكام التي أوردوها إنما هي أحكام سلطانية سندها المصلحة، وليست أحكاما قضائية فإننا نقول وبالله التوفيق: -
إذا أعدنا النظر في أقوال الفقهاء - رحمهم الله تعالى - فإن جملة ما صوروه في هذه المسألة - ينحصر في ثلاث صور، هي:
1 -
أن يدفع صاحب اليد الخصومة عن نفسه بعدم المنازعة.
2 -
أن يدفع صاحب اليد الخصومة عن نفسه إلى خصم معين.
3 -
أن يدفع صاحب اليد الخصومة عن نفسه إلى خصم غير معين.
وإذا أعدنا النظر في أقوال الفقهاء في حكم كل صورة من هذه الصور الثلاث فإن ما نرجحه من تلك الأقوال هو ما يلي:
أولا: الترجيح في حكم الصورة الأولى، ومثالها في أقوال الفقهاء:
أن يجيب صاحب اليد بقوله: إن هذه العين ليست لي، وقد تقدم القول أن في هذه الصور ثلاثة أوجه في المذهب الشافعي، وهي ذاتها وجهان وتخريج في المذهب الحنبلي أحدها: تسليم العين للمدعي، والثاني: حفظها لدى القاضي حتى يأتي المدعي بحجة، والثالث: إبقاؤها في يد المدعى عليه. وقد سبق الكلام على أدلة كل وجه من الأوجه الثلاثة، والذي يترجح من هذه الأوجه هو القول بحفظها لدى القاضي حتى يأتي المدعي ببينة وذلك لما يلي:
1 -
أنه يلزم من الوجه القائل بتسليم العين إلى المدعي تمكين المتخاصمين من الاحتيال لتملك العين بطريق القضاء. وقد يجاب على هذا: بأن صاحب اليد لو أقر للمدعي لورد إمكان الاحتيال كذلك. قلنا: هذا قياس مع الفارق لأن المقر يضمن العين المقر بها في حال ظهور من يدعيها وصحة دعواه، وذلك عكس ما لو لم يقر بها لأحد.
2 -
أنه يلزم من الوجه القائل بإبقاء العين في يد صاحب اليد، ضياع العين أو تلفها؛ لأن صاحب اليد لم يذكر أن يده على العين يد أمانة أو يد حفظ، فتعين القول بحفظها لدى القاضي حتى ظهور
حجة للمدعي.
قلت: لم يبين القائلون بحفظ العين لدى القاضي حتى ظهور حجة للمدعي ما هي قوة تلك الحجة؟ والظاهر أن قوتها لديهم هي قوة البينات الشرعية في حال المنازعة. ولكن الفقيه ابن رجب الحنبلي يرى أن العين تسلم إلى المدعي بأقرب البينات. يقول رحمه الله في كتابه جامع العلوم والحكم (1):
" أما من ادعى ما ليس له مدع لنفسه، منكر لدعواه، فهذا أسهل من الأول ولا بد للمدعي - هنا - من بينة، ولكن يكتفى من البينة - هنا - بما لا يكتفى بها في الدعوى على المدعي لنفسه المنكر، ويشهد لذلك مسائل:
1 -
منها اللقطة إذا جاء من وصفها، فإنها تدفع إليه من غير بينة بالاتفاق، لكن منهم من يقول: يجوز الدفع إذا غلب على الظن صدقه، ولا يجب، كقول الشافعي وأبي حنيفة. ومنهم من يقول: يجب دفعها بذكر الوصف المطابق كقول مالك وأحمد.
2 -
ومنها الغنيمة إذا جاء من يدعي منها شيئا، وأنه كان له واستولى عليه الكفار، وأقام على ذلك ما يبين أنه له اكتفى به، وسئل عن ذلك أحمد وقيل له: فتريد على ذلك بينة؟ قال: لا بد من بيان يدل على أنه له، وإن علم ذلك دفعه إلى الأمير.
3 -
وروى الخلال بإسناده عن الركين بن الربيع عن أبيه قال: أحمس (أي شرد) لأخي فرس بعين القمر، فرآه في مربط سعد فقال فرسي، قال سعد: ألك بينة؟ قال: لا، ولكن أدعوه فيحمحم، فدعاه سعد فحمحم، فأعطاه إياه، وهذا يحتمل أنه كان لحق بالعدو ثم ظهر عليه المسلمون ويحتمل أنه عرف أنه ضال، فوضع
(1) ص 312.
بين الدواب الضالة، فيكون كاللقطة.
4 -
ومنها: الغصوب إذا علم ظلم الولاة فطلب ردها من بيت المال، قال أبو الزناد: كان عمر بن عبد العزيز يرد المظالم إلى أهلها بغير البينة القاطعة، كان يكتفي باليسير. إذا عرف صدق مظلمة الرجل ردها عليه، ولم يكلفه تحقيق البينة لما يعرف من غشم الولاة قبله على الناس، ولقد انقضت أموال العراق في رد المظالم حتى حمل إليها من الشام.
5 -
وذكر أصحابنا: أن الأموال المغصوبة مع قطاع الطريق واللصوص يكتفى من مدعيها بالصفة كاللقطة، ذكره القاضي في خلافه وأنه ظاهر كلام أحمد والله أعلم "انتهى كلام ابن رجب رحمه الله.
ثانيا: الترجيح في حكم الصورة الثانية:
وهي ما إذا دفع المدعى عليه الخصومة إلى معين. وقد فرق جمهور فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة بين ما إذا كان هذا المعين المدفوع إليه الخصومة حاضرا في البلد أم غائبا عنها: فإن كان حاضرا في البلد اندفعت إليه الخصومة بلا بينة. أما أكثر فقهاء الحنفية فإن الخصومة - عندهم - لا تندفع إلا ببينة كما لو كان المدفوع إليه الخصومة غائبا عن البلد. والراجح ما ذهب إليه جمهور فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة؛ وذلك لأن تكليف المدعى عليه بالبينة على دفع الخصومة لا ثمرة له مع وجود المدفوع إليه الخصومة وحضوره.
أما إن كان المدفوع إليه الخصومة غائبا عن البلد، فقد اتفق عامة الفقهاء على أن الخصومة لا تندفع عن المدعى عليه إلا ببينة.
ثالثا: الترجيح في حكم الصورة الثالثة:
وهي ما إذا دفع المدعى عليه الخصومة عن نفسه إلى غير معين. وقد اتفق الفقهاء على أن الخصومة - في هذه الصورة - لا تندفع بحال عن نفس المدعى عليه.
استنتاج
لا تنحصر صور دفع الخصومة فيما ذكره الفقهاء - رحمهم الله تعالى - من صور دفع الخصومة، فإن دفع الخصومة - سواء كان دفعا مطلقا أو مقيدا - يأتي في صور أخرى سوى ما ذكره الفقهاء. فمثال دفع الخصومة دفعا مطلقا: أن يقول المدعى عليه: إن هذه الدعوى سبق الفصل فيها بحكم شرعي. فإذا ثبتت صحة هذا القول، فإن القاضي لا يعيد النظر في الخصومة، وبذلك يدفع المدعى عليه الخصومة عن نفسه في هذه الصورة.
وقد قال أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة - في حكم هذه الصور - " فصل: فإن ادعى رجل على الحاكم أنك حكمت لي بهذا الحق على خصمي، فذكر الحاكم حكمه أمضاه وألزم خصمه ما حكم به عليه، وليس هذا حكما بالعلم، إنما هو إمضاء لحكمه السابق. وإن لم يذكره القاضي فشهد عنده شاهدان على حكمه لزمه قبولها وإمضاء القضاء. وبه قال ابن أبي ليلى ومحمد بن الحسن. قال القاضي: هذا قياس قول أحمد؛ لأنه قال: يرجع الإمام إلى قول اثنين فصاعدا من المأمومين "(1).
ومثال: دفع الخصومة دفعا مقيدا: أن يقول المدعى عليه للقاضي المرفوع إليه الشكوى: إن نظره لدعوى المدعي لا يدخل فيما هو مختص
(1) انظر المغني شرح متن الخرقي 9/ 76، 77.
بالنظر فيه. فإذا ثبت قول المدعى عليه هذا فإن الخصومة تندفع عن المدعى عليه - مؤقتا - حتى ترفع الشكوى إلى القاضي المختص بنظرها.
ومثال: دفع الخصومة دفعا مقيدا - أيضا - أن يذكر المدعى عليه أن للمدعي مع القاضي الذي رفعت إليه الشكوى صلة قرابة بنوة أو أبوة، فإذا ثبت ذلك، فإن الخصومة تندفع عن المدعى عليه حتى ترفع الشكوى لقاض آخر.
وقاعدة القول في ذلك كله - كما نراه - أن المدعى عليه متى ادعى اختلال ركن من أركان القضاء أو شرط من شروطه، أو ادعى وجود مانع من موانع القضاء المتفق على حكمها، فإن الخصومة تندفع حتى يستقيم الركن أو الشرط أو ينتفي المانع.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
صفحة فارغة
من قرارات المجمع الفقهي
القرار الثالث
حكم القاديانية
والانتماء إليها
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه. وبعد:
فقد استعرض مجلس المجمع الفقهي موضوع الفئة القاديانية التي ظهرت في الهند في القرن الماضي (التاسع عشر الميلادي) والتي تسمى أيضا (الأحمدية) ودرس المجلس نحلتهم التي قام بالدعوة إليها مؤسس النحلة ميرزا غلام أحمد القادياني 1876 م مدعيا أنه نبي يوحى إليه، وأنه المسيح الموعود، وأن النبوة لم تختم بسيدنا محمد بن عبد الله رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم (كما هي عليه عقيدة المسلمين بصريح القرآن العظيم والسنة)، وزعم أنه قد نزل عليه، وأوحي إليه أكثر من عشرة آلاف آية، وأن من يكذبه كافر، وأن المسلمين يجب عليهم الحج إلى قاديان، لأنها البلدة المقدسة كمكة والمدينة، وأنها هي المسماة في القرآن بالمسجد الأقصى كل ذلك مصرح به في كتابه الذي نشره بعنوان (براهين أحمدية) وفي رسالته التي نشرها بعنوان (التبليغ).
واستعرض مجلس المجمع أيضا أقوال وتصريحات ميرزا بشير الدين بن
غلام أحمد القادياني وخليفته، ومنها ما جاء في كتابه المسمى (آينة صداقت) من قوله "أن كل مسلم لم يدخل في بيعة المسيح الموعود (أي والده ميرزا غلام أحمد) سواء سمع باسمه أو لم يسمع هو كافر وخارج عن الإسلام " (الكتاب المذكور صفحة 35) وقوله أيضا في صحيفتهم القاديانية (الفضل) فيما يحكيه هو عن والده غلام أحمد نفسه إنه قال:"إننا نخالف المسلمين في كل شيء: في الله، في الرسول، في القرآن، في الصلاة، في الصوم، في الحج، في الزكاة، وبيننا وبينهم خلاف جوهري في كل ذلك "صحيفة (الفضل) في 30 من تموز (يوليو) 1931 م.
وجاء أيضا في الصحيفة نفسها (المجلد الثالث) ي ما نصه "إن ميرزا هو النبي محمد صلى الله عليه وسلم "زاعما أنه هو مصداق قول القرآن حكاية عن سيدنا عيسى عليه السلام {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} (1) كتاب إنذار الخلافة ص 21 "واستعرض المجلس أيضا ما كتبه ونشره العلماء والكتاب الإسلاميون الثقات عن هذه الفئة القاديانية الأحمدية لبيان خروجهم عن الإسلام خروجا كليا.
وبناء على ذلك اتخذ المجلس النيابي الإقليمي لمقاطعة الحدود الشمالية في دولة باكستان قرارا في عام 1974 م بإجماع أعضائه يعتبر فيه الفئة القاديانية بين مواطني باكستان أقلية غير مسلمة. ثم في الجمعية الوطنية (مجلس الأمة الباكستاني العام لجميع المقاطعات وافق أعضاؤها بالإجماع أيضا على اعتبار فئة القاديانية أقلية غير مسلمة).
يضاف إلى عقيدتهم هذه ما ثبت بالنصوص الصريحة من كتب ميرزا غلام أحمد نفسه ومن رسائله الموجهة إلى الحكومة الإنكليزية في الهند التي يستدرها ويستديم تأييدها وعطفها من إعلانه تحريم الجهاد، وأنه ينفي فكرة الجهاد ليصرف قلوب المسلمين إلى الإخلاص للحكومة الإنجليزية المستعمرة في الهند لأن فكرة الجهاد التي يدين بها بعض جهال
(1) سورة الصف الآية 6
المسلمين تمنعهم من الإخلاص للإنكليز. ويقول في هذا الصدد في ملحق كتابه (شهادة القرآن) الطبعة السادسة ص 17 ما نصه (أنا مؤمن بأنه كلما ازداد أتباعي وكثر عددهم قل المؤمنون بالجهاد لأنه يلزم من الإيمان بأني المسيح أو المهدي إنكار الجهاد) تنظر رسالة الأستاذ الندوي نشر الرابطة ص 25.
وبعد أن تداول مجلس المجمع الفقهي في هذه المستندات وسواها من الوثائق الكثيرة المفصحة عن عقيدة القاديانيين ومنشئها وأسسها وأهدافها الخطيرة في تهديم العقيدة الإسلامية الصحيحة وتحويل المسلمين عنها تحويلا وتضليلا، قرر المجلس بالإجماع اعتبار العقيدة القاديانية المسماة أيضا بالأحمدية عقيدة خارجة عن الإسلام خروجا كاملا، وأن معتنقيها كفار مرتدون عن الإسلام، وأن تظاهر أهلها بالإسلام إنما هو للتضليل والخداع، ويعلن مجلس المجمع الفقهي أنه يجب على المسلمين حكومات وعلماء وكتابا ومفكرين ودعاة وغيرهم مكافحة هذه النحلة الضالة وأهلها في كل مكان في العالم. . وبالله التوفيق.
نائب الرئيس
…
الرئيس
محمد علي الحركان الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي
…
عبد الله بن حميد رئيس مجلس القضاء الأعلى في المملكة العربية السعودية
الأعضاء
عبد العزيز بن عبد الله بن باز الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد في المملكة العربية السعودية
…
محمد محمود الصواف
…
محمد بن صالح بن عثيمين
…
محمد بن عبد الله السبيل
…
محمد رشيد قباني
مصطفى الزرقاء
…
محمد رشيدي
…
عبد القدوس الهاشمي الندوي
…
أبو بكر جومي
…
القرار الخامس
التأمين
بشتى صوره وأشكاله
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه. أما بعد:
فإن مجمع الفقه الإسلامي قد نظر في موضوع التأمين بأنواعه المختلفة بعد ما اطلع على كثير مما كتبه العلماء في ذلك وبعد ما اطلع أيضا على ما قرره مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية في دورته العاشرة المنعقدة بمدينة الرياض بتاريخ 4/ 4 / 1397 هـ من التحريم للتأمين بأنواعه.
وبعد الدراسة الوافية وتداول الرأي في ذلك قرر المجلس بالأكثرية تحريم التأمين بجميع أنواعه سواء كان على النفس أو البضائع التجارية أو غير ذلك من الأموال.
كما قرر مجلس المجمع بالإجماع الموافقة على قرار مجلس هيئة كبار العلماء من جواز التأمين التعاوني بدلا من التأمين التجاري المحرم والمنوه عنه آنفا وعهد بصياغة القرار إلى لجنة خاصة.
تقرير اللجنة المكلفة بإعداد قرار مجلس المجمع حول التأمين:
بناء على قرار مجلس المجمع المتخذ بجلسة الأربعاء 14 شعبان 1398 هـ المتضمن تكليف كل من أصحاب الفضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز والشيخ محمد محمود الصواف والشيخ محمد بن عبد الله السبيل
بصياغة قرار مجلس المجمع حول التأمين بشتى أنواعه وأشكاله.
وعليه فقد حضرت اللجنة المشار إليها وبعد المداولة أقرت ما يلي:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه. أما بعد:
فإن المجمع الفقهي الإسلامي في دورته الأولى المنعقدة في 10 شعبان 1398 هـ بمكة المكرمة بمقر رابطة العالم الإسلامي نظر في موضوع التأمين بأنواعه بعد ما اطلع على كثير مما كتبه العلماء في المملكة العربية السعودية في دورته العاشرة بمدينة الرياض بتاريخ 4/ 4 / 1397 هـ بقراره رقم (55) من التحريم للتأمين التجاري بأنواعه.
وبعد الدراسة الوافية وتداول الرأي في ذلك قرر مجلس المجمع الفقهي بالإجماع عدا فضيلة الشيخ مصطفى الزرقا تحريم التأمين التجاري بجميع أنواعه سواء كان على النفس أو البضائع التجارية أو غير ذلك للأدلة الآتية:
الأول: عقد التأمين التجاري من عقود المعاوضات المالية الاحتمالية المشتملة على الغرر الفاحش، لأن المستأمن لا يستطيع أن يعرف وقت العقد مقدار ما يعطي أو يأخذ فقد يدفع قسطا أو قسطين ثم تقع الكارثة فيستحق ما التزم به المؤمن، وقد لا تقع الكارثة أصلا فيدفع جميع الأقساط ولا يأخذ شيئا وكذلك المؤمن لا يستطيع أن يحدد ما يعطي ويأخذ بالنسبة لكل عقد بمفرده، وقد ورد في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن بيع الغرر.
الثاني: عقد التأمين التجاري ضرب من ضروب المقامرة لما فيه من المخاطرة في معاوضات مالية ومن الغرم بلا جنابة أو تسبب
فيها ومن الغنم بلا مقابل أو مقابل غير مكافئ، فإن المستأمن قد يدفع قسطا من التأمين ثم يقع الحادث فيغرم المؤمن كل مبلغ التأمين وقد لا يقع الخطر ومع ذلك يغنم المؤمن أقساط التأمين بلا مقابل وإذا استحكمت فيه الجهالة كان قمارا ودخل في عموم النهي عن الميسر في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1)
والآية بعدها.
الثالث: عقد التأمين التجاري يشتمل على ربا الفضل والنسأ فإن الشركة إذا دفعت للمستأمن أو لورثته أو للمستفيد أكثر مما دفعه من النقود لها فهو ربا فضل والمؤمن يدفع ذلك للمستأمن بعد مدة فيكون ربا نسأ وإذا دفعت الشركة للمستأمن مثل ما دفعه لها يكون ربا نسأ فقط وكلاهما محرم بالنص والإجماع.
الرابع: عقد التأمين التجاري من الرهان المحرم لأن كلا منهما فيه جهالة وغرر ومقامرة ولم يبح الشرع من الرهان إلا ما فيه نصرة للإسلام وظهور لإعلامه بالحجة والسنان وقد حصر النبي صلى الله عليه وسلم رخصة الرهان بعوض في ثلاثة بقوله صلى الله عليه وسلم «لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل (2)» وليس التأمين من ذلك ولا شبيها به فكان محرما.
الخامس: عقد التأمين التجاري فيه أخذ مال الغير بلا مقابل، وأخذ بلا مقابل في عقود المعاوضات التجارية محرم لدخوله في عموم النهي في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (3)
(1) سورة المائدة الآية 90
(2)
سنن الترمذي الجهاد (1700)، سنن أبو داود الجهاد (2574)، سنن ابن ماجه الجهاد (2878)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 474).
(3)
سورة النساء الآية 29
السادس: في عقد التأمين التجاري الإلزام بما لا يلزم شرعا فإن المؤمن لم يحدث الخطر منه ولم يتسبب في حدوثه وإنما كان منه مجرد التعاقد مع المستأمن على ضمان الخطر على تقدير وقوعه مقابل مبلغ يدفعه المستأمن له والمؤمن لم يبذل عملا للمستأمن فكان حراما.
وأما ما استدل به المبيحون للتأمين التجاري مطلقا أو في بعض أنواعه فالجواب عنه ما يلي:
(أ) الاستدلال بالاستصلاح غير صحيح فإن المصالح في الشريعة الإسلامية ثلاثة أقسام: قسم شهد الشرع باعتباره فهو حجة، وقسم سكت عنه الشرع فلم يشهد له بإلغاء ولا اعتبار فهو مصلحة مرسلة وهذا محل اجتهاد المجتهدين، والقسم الثالث ما شهد الشرع بإلغائه وعقود التأمين التجاري فيها جهالة وغرر وقمار وربا فكانت مما شهدت الشريعة بإلغائه لغلبة جانب المفسدة فيه على جانب المصلحة.
(ب) الإباحة الأصلية لا تصلح دليلا هنا لأن عقود التأمين التجاري قامت الأدلة على مناقضتها لأدلة الكتاب والسنة. والعمل بالإباحة الأصلية مشروط بعدم المناقل عنها وقد وجد فبطل الاستدلال بها.
(ج) الضرورات تبيح المحظورات لا يصح الاستدلال به هنا، فإن ما أباحه الله من طرق كسب الطيبات أكثر أضعافا مضاعفة مما حرمه عليهم فليس هناك ضرورة معتبرة شرعا تلجئ إلى ما حرمته الشريعة من التأمين.
(د) لا يصح الاستدلال بالعرف فإن العرف ليس من أدلة تشريع الأحكام وإنما يبنى عليه في تطبيق الأحكام وفهم المراد من ألفاظ النصوص ومن عبارات الناس في أيمانهم وتداعيهم وأخبارهم وسائر
ما يحتاج إلى تحديد المقصود منه من الأفعال والأقوال فلا تأثير له فيما تبين أمره وتعين المقصود منه وقد دلت الأدلة دلالة واضحة على منع التأمين فلا اعتبار به معها.
(هـ) الاستدلال بأن عقود التأمين التجاري من عقود المضاربة أو في معناه غير صحيح. فإن رأس المال لم يخرج عن ملك صاحبه وما يدفعه المستأمن يخرج بعقد التأمين من ملكه إلى ملك الشركة حسبما يقضي به نظام التأمين، وأن رأس مال المضاربة يستحقه ورثة مالكه عند موته، وفي التأمين قد يستحق الورثة نظاما مبلغ التأمين ولو لم يدفع مورثهم إلا قسطا واحدا، وقد لا يستحقون شيئا إذا جعل المستفيد سوى المستأمن وورثته، وأن الربح في المضاربة يكون بين الشريكين نسبا مئوية مثلا بخلاف التأمين فربح رأس المال وخسارته للشركة وليس للمستأمن إلا مبلغ التأمين أو مبلغ غير محدد.
(و) قياس عقود التأمين على ولاء الموالاة عند من يقول به غير صحيح، فإنه قياس مع الفارق ومن الفروق بينهما أن عقود التأمين هدفها الربح المادي المشوب بالغرر والقمار وفاحش الجهالة بخلاف عقد ولاء الموالاة فالقصد الأول فيه التآخي في الإسلام والتناصر والتعاون في الشدة والرخاء وسائر الأحوال وما يكون من كسب مادي فالقصد إليه بالتبع.
(ز) قياس عقد التأمين التجاري على الوعد الملزم عند من يقول به لا يصح لأنه قياس مع الفارق ومن الفروق أو الوعد بقرض أو إعارة أو تحمل خسارة مثلا من باب المعروف المحض فكان الوفاء به واجبا أو من مكارم الأخلاق بخلاف عقود التأمين فإنها معاوضة تجارية باعثها الربح المادي فلا يغتفر فيها ما يغتفر في التبرعات من
الجهالة والغرر.
(ح) قياس عقود التأمين التجاري على ضمان المجهول وضمان ما لم يجب قياس غير صحيح لأنه قياس مع الفارق أيضا، ومن الفروق أن الضمان نوع من التبرع يقصد به الإحسان المحض بخلاف التأمين فإنه عقد معاوضة تجارية يقصد منها أولا الكسب المادي فإن ترتب عليه معروف فهو تابع غير مقصود إليه والأحكام يراعى فيها الأصل لا التابع ما دام تابعا غير مقصود إليه.
(ط) قياس عقود التأمين التجاري على ضمان خطر الطريق لا يصح فإنه قياس مع الفارق كما سبق في الدليل قبله.
(ى) قياس عقود التأمين التجاري على نظام التقاعد غير صحيح فإنه قياس مع الفارق أيضا لأن ما يعطى من التقاعد حق التزم به ولي الأمر باعتباره مسئولا عن رعيته وراعى في صرفه ما قام به الموظف من خدمة الأمة ووضع له نظاما راعى فيه مصلحة أقرب الناس إلى الموظف، ونظر إلى مظنة الحاجة فيهم فليس نظام التقاعد من باب المعاوضات المالية بين الدولة وموظفيها وعلى هذا لا شبه بينه وبين التأمين الذي هو من عقود المعاوضات المالية التجارية التي يقصد بها استغلال الشركات للمستأمنين والكسب من ورائهم بطرق غير مشروعة. لأن ما يعطى في حالة التقاعد يعتبر حقا التزم به من حكومات مسئولة عن رعيتها وتصرفها لمن قام بخدمة الأمة كفاء لمعروفه وتعاونا نعه جزاء تعاونه معها ببدنه وفكره وقطع الكثير من فراغه في سبيل النهوض معها بالأمة.
(ك) قياس نظام التأمين التجاري وعقوده على نظام العاقلة لا يصح فإنه قياس مع الفارق ومن الفروق أن الأصل في تحمل العاقلة لدية الخطأ وشبه العمد ما بينهما وبين القاتل خطأ أو شبه العمد من الرحم
والقرابة التي تدعو إلى النصرة والتواصل والتعاون وإسداء المعروف ولو دون مقابل، وعقود التأمين التجارية استغلالية تقوم على معاوضات مالية محضة لا تمت إلى عاطفة الإحسان وبواعث المعروف بصلة.
(ل) قياس عقود التأمين التجاري على عقود الحراسة غير صحيح لأنه قياس مع الفارق أيضا ومن الفروق أن الأمان ليس محلا للعقد في المسألتين وإنما محله في التأمين الأقساط ومبلغ التأمين، وفي الحراسة الأجرة وعمل الحارس، أما الأمان فغاية ونتيجة وإلا لما استحق الحارس الأجرة عند ضياع المحروس.
(م) قياس التأمين على الإيداع لا يصح لأنه قياس مع الفارق أيضا فإن الأجرة في الإيداع عوض عن قيام الأمين بحفظ شيء في حوزته يحوطه بخلاف التأمين فإن ما يدفعه المستأمن لا يقابله عمل من المؤمن ويعود إلى المستأمن بمنفعة إنما هو ضمان الأمن والطمأنينة وشرط العوض عن الضمان لا يصح بل هو مفسد للعقد وإن جعل مبلغ التأمين في مقابلة الأقساط كان معاوضة تجارية جعل فيها مبلغ التأمين أو زمنه فاختلف في عقد الإيداع بأجر.
(ن) قياس التأمين على ما عرف بقضية تجار البز مع الحاكة لا يصح والفرق بينهما أن المقيس عليه من التأمين التعاوني وهو تعاون محض والمقيس تأمين تجاري وهو معاوضات تجارية فلا يصح القياس.
كما قرر مجلس المجمع بالإجماع الموافقة على قرار مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية رقم (51) وتاريخ 4/ 4 / 1397 هـ من جواز التأمين التعاوني بدلا من التأمين التجاري المحرم والمنوه عنه آنفا للأدلة الآتية:
الأول: إن التأمين التعاوني من عقود التبرع التي يقصد بها أصالة
التعاون على تفتيت الأخطار والاشتراك في تحمل المسئولية عند نزول الكوارث وذلك عن طريق إسهام أشخاص بمبالغ مالية نقدية تخصص لتعويض من يصيبه الضرر فجماعة التأمين التعاوني لا يستهدفون تجارة ولا ربحا من أموال غيرهم وإنما يقصدون توزيع الأخطار بينهم والتعاون على تحمل الضرر.
الثاني: خلو التأمين التعاوني من الربا بنوعيه ربا الفضل وربا النسأ فليس عقود المساهمين ربوية ولا يستغلون ما جمع من الأقساط في معاملات ربوية.
الثالث: إنه لا يضر جهل المساهمين في التأمين التعاوني بتحديد ما يعود عليهم من النفع لأنهم متبرعون فلا مخاطرة ولا غرر ولا مقامرة بخلاف التأمين التجاري فإنه عقد معاوضة مالية تجارية.
الرابع: قيام جماعة من المساهمين أو من يمثلهم باستثمار ما جمع من الأقساط لتحقيق الغرض الذي من أجله أنشئ هذا التعاون سواء كان القيام بذلك تبرعا أو مقابل أجر معين. ورأى المجلس أن يكون التأمين التعاوني على شكل شركة تأمين تعاونية مختلطة للأمور الآتية:
أولا: الالتزام بالفكر الاقتصادي الإسلامي الذي يترك للأفراد مسئولية القيام بمختلف المشروعات الاقتصادية ولا يأتي دور الدول إلا كعنصر مكمل لما عجز الأفراد عن القيام به وكدور موجه ورقيب لضمان نجاح هذه المشروعات وسلامة عملياتها.
ثانيا: الالتزام بالفكر التعاوني التأميني الذي بمقتضاه يستقل المتعاونون بالمشروع كله من حيث تشغيله ومن حيث الجهاز التنفيذي ومسئولية إدارة المشروع.
ثالثا: تدريب الأهالي على مباشرة التأمين التعاوني وإيجاد المبادرات الفردية والاستفادة من البواعث الشخصية فلا شك أن مشاركة الأهالي في الإدارة تجعلهم أكثر حرصا ويقظة على تجنب وقوع المخاطر التي يدفعون مجتمعين تكلفة تعويضها مما يحقق بالتالي مصلحة لهم في إنجاح التأمين التعاوني إذ إن تجنب المخاطر يعود عليهم بأقساط أقل في المستقبل، كما أن وقوعها قد يحملهم أقساطا أكبر في المستقبل.
رابعا: إن صورة الشركة المختلطة لا يجعل التأمين كما لو كان هبة أو منحة من الدولة للمستفيدين منه بل بمشاركة منها معهم فقط لحمايتهم ومساندتهم باعتبارهم هم أصحاب المصلحة الفعلية وهذا موقف أكثر إيجابية ليشعر معه المتعاونون بدور الدولة ولا يعفيهم في نفس الوقت من المسئولية.
ويرى المجلس أن يراعى في وضع المواد التفصيلية للعمل بالتأمين التعاوني الأسس الآتية:
الأول: أن يكون لمنظمة التأمين التعاوني مركز له فروع في كافة المدن وأن يكون بالمنظمة أقسام تتوزع بحسب الأخطار المراد تغطيتها وبحسب مختلف فئات ومهن المتعاونين كأن يكون هناك قسم للتأمين الصحي وثان للتأمين ضد العجز والشيخوخة. إلخ. أو يكون هناك قسم لتأمين الباعة المتجولين وآخر للتجار وثالث للطلبة ورابع لأصحاب المهن الحرة كالمهندسين والأطباء والمحامين. إلخ.
الثاني: أن تكون منظمة التأمين التعاوني على درجة كبيرة من المرونة
والبعد عن الأساليب المعقدة.
الثالث: أن يكون للمنظمة مجلس أعلى يقرر خطط العمل ويقترح ما يلزمها من لوائح وقرارات تكون نافذة إذا اتفقت مع قواعد الشريعة.
الرابع: يمثل الحكومة في هذا المجلس من تختاره من الأعضاء ويمثل المساهمين من يختارونهم ليكونوا أعضاء في المجلس ليساعد ذلك على إشراف الحكومة عليها واطمئنانها على سلامة سيرها وحفظها من التلاعب والفشل.
الخامس: إذا تجاوزت المخاطر موارد الصندوق بما قد يستلزم زيادة الأقساط فتقوم الدولة والمشتركون بتحمل هذه الزيادة.
ويؤيد مجلس المجمع الفقهي ما اقترحه مجلس هيئة كبار العلماء في إقراره المذكور بأن يتولى وضع المواد التفصيلية لهذه الشركة التعاونية جماعة من الخبراء المختصين في هذا الشأن.
والله ولي التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
نائب الرئيس
…
الرئيس
محمد علي الحركان الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي
…
عبد الله بن حميد رئيس مجلس القضاء الأعلى في المملكة العربية السعودية
الأعضاء
عبد العزيز بن عبد الله بن باز الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد في المملكة العربية السعودية
…
محمد محمود الصواف
…
محمد بن صالح بن عثيمين
…
محمد بن عبد الله السبيل
…
محمد رشيد قباني
…
مصطفى الزرقاء
…
محمد رشيدي
…
عبد القدوس الهاشمي الندوي
…
أبو بكر جومي
…
مخالفة الأستاذ الدكتور مصطفى الزرقاء
إخواني الأساتذة الفضلاء أعضاء المجمع الفقهي.
إني أخالف ما ذهبتم إليه من اعتبار التأمين الذي أسميتموه تجاريا بمختلف أنواعه وصوره حراما، وميزتم بينه وبين ما أسميتموه تعاونيا. وأرى أن التأمين من حيث إنه طريق تعاوني منظم لترميم الأضرار التي تقع على رؤوس أصحابها من المخاطر التي يتعرضون لها هو في ذاته جائز شرعا بجميع صوره الثلاث وهي: التأمين على الأشياء والتأمين على المسئولية المسمى (تأمين ضد الغير) والتأمين المسمى خطأ بالتأمين على الحياة جائز شرعا.
وإن أدلتي الشرعية من الكتاب العزيز والسنة النبوية وقواعد الشريعة ومقاصدها العامة والشواهد الفقهية بالقياس السليم عليها ودفع توهم أنه يدخل في نطاق القمار أو الرهان المحرمين، ودفع شبهة أنه ربا، كل ذلك موضح تمام الإيضاح في كتابي المنشور بعنوان (عقد التأمين، وموقف الشريعة الإسلامية منه) وأنتم مطلعون عليه مع بيان حاجة الناس في العالم كله إليه.
وقد بينت لكم في هذه الجلسة أيضا أن التمييز بين تأمين تعاوني وتجاري لا سند له. فكل التأمين قائم على فكرة التعاون على تفتيت الأضرار وترميمها ونقلها عن رأس المصاب وتوزيعها على أكبر عدد ممكن بين عدد قليل من الأشخاص الذين تجمعهم حرفة صغيرة - أو سوق ويتعرضون لنوع من الأخطار فيساهمون في تكوين صندوق مشترك حتى إذا أصاب أحدهم الخطر والضرر عوضوه عنه من الصندوق الذي هو أيضا مساهم فيه هذا النوع الذي يسمى في الاصطلاح تبادليا وسميتموه
(تعاونيا) لا تحتاج إدارته إلى متفرغين لها ولا إلى نفقات إدارة وتنظيم وحساب إلخ.
فإذا كثرت الرغبات في التأمين وأصبح يدخل فيه الألوف - عشراتها أو مئاتها أو آلافها من الراغبين وأصبح يتناول عددا كبيرا من أنواع الأخطار المختلفة فإنه عندئذ يحتاج إلى إدارة متفرغة وتنظيم ونفقات كبيرة من أجور محلات وموظفين ووسائل آلية وغير آلية إلخ. . وعندئذ لا بد لمن يتفرغون لإدارته وتنظيمه من أن يعيشوا على حساب هذه الإدارة الواسعة كما يعيش أي تاجر أو صانع أو محترف أو موظف على حساب عمله.
وعندئذ لا بد من أن يوجد فرق بين الأقساط التي تجبى من المستأمنين وبين ما يؤدى من نفقات وتعويضات للمصابين عن أضرارهم لتربح الإدارة المتفرغة هذا الفرق وتعيش منه كما يعيش التاجر من فرق السعر بين ما يشتري ويبيع.
ولتحقيق هذا الربح يبنى التأمين الذي أسميتموه تجاريا على حساب إحصاء دقيق لتحديد القسط الذي يجب أن يدفعه المستأمن في أنواع من الأخطار. هذا هو الفرق الحقيقي بين النوعين. أما المعنى التعاوني فلا فرق فيه بينهما أصلا من حيث الموضوع.
كما إني أحب أن أضيف إلى ذلك أن هذه الدورة الأولى لهذا المجمع الفقهي الميمون الذي لم يجتمع فيها إلا نصف أعضائه فقط والباقون تخلفوا أو اعتذروا عن العضوية لظروفهم الخاصة لا ينبغي أن يتخذ فيها قرار بهذه السرعة بتحريم موضوع كالتأمين من أكبر الموضوعات المهمة اليوم خطورة وشأنا لارتباط مصالح جميع الناس به في جميع أنحاء المعمورة والدول كلها تفرضه إلزاميا في حالات كالتأمين على السيارات ضد الغير صيانة لدماء المصابين في حوادث السيارات من أفئدة تذهب هدرا إذا
كان قائد السيارة أو مالكها مفلسا.
فإذا أريد اتخاذ قرار خطير كهذا وفي موضوع اختلفت فيه آراء علماء العصر اختلافا كبيرا في حله أو حرمته يجب في نظري أن يكون في دورة يجتمع فيها أعضاء المجمع كلهم أو إلا قليلا منهم وعلى أن يكتب لغير أعضاء المجمع من علماء العالم الإسلامي الذين لهم وزنهم العلمي ثم يبت في مثل هذا الموضوع الخطير في ضوء أجوبتهم على أساس الميل إلى التيسير على الناس عند اختلاف آراء العلماء لا إلى التعسير عليهم.
ولا بد لي ختاما من القول بأنه إذا كانت شركات التأمين تفرض في عقودها مع المستأمنين شروطا لا يقرها الشرع، أو تفرض أسعارا للأقساط في أنواع الأخطار غالية بغية الربح الفاحش فهذا يجب أن تتدخل فيه السلطات المسئولة لفرض رقابة وتسعير لمنع الاستغلال، كما توجب المذاهب الفقهية وجوب التسعير والضرب على أيدي المحتكرين لحاجات الناس الضرورية وليس علاجه تحريم التأمين. لذلك أرجو تسجيل مخالفتي هذه مع مزيد من الاحترام لآرائكم.
دكتور مصطفى الزرقاء