الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدِّمة التّحقيق
إنَ الحَمد لله، نحمدُهُ وَنَسْتعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرورِ أَنْفُسِنَا وَمِن سَيئاتٍ أَعْمَالِنَا.
مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ، فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ، فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
"وأحمد الله حمد الشاكرين على عظيم نعمائه وجميل بلائه، وأسأله تعالى أن يكف عنا نوائب الزمان، وأرغب إليه في التوفيق والعصمة، وأبرأ إليه من الحول والقوة، سائله يقيناً يملأ الصدر ويعمر القلب، ويستولي على النفس حتى يَكُفَّها إذا نزعت، ويردها إذا تطلعت. فالخير والشر بيده، والنعم كلها من عنده، لا سلطان لأحد مع سلطانه، نوجه رغباتنا إليه، ونخلص نِياتنا في التوكل عليه: أن يجعلنا ممَّن همُّه الصدق، وبغيته
الحق، وغرضه الصواب.
ونعوذ بالله من ادعاء شيء لا نعلمه، ونسأله متوجهين إليه تعالى أن لا يجعلنا مِمَّن يعجبهم أن يجادلوا بالباطل ويموهوا على السامع، ولا من الذين قال فيهم:{لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 188].
اللهم سدد خطانا، وخذ بيدنا إلى الحق والخير، اهدنا فيما اختلف فيه إلى الحق بإذنك يا أكرم مسؤول، ويا أسرع من يجيب" (1).
أما بعد فإن الحمد لله الذي خلق الإنسان وجهزه بجهاز الحس والفكر، ولفت نظره إلى عظيم هذه القدرة، وجزيل هذه النعمة اللذين يفرضان على الإنسان عميق الشكر والامتنان فقال تعالى:{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78].
وقال أيضاً: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [الملك: 23].
لقد خلق الله الإنسان لعبادته في إطار إعمار الأرض واستثمار خيراتها، وحسن استخدامها، والعدل في توزيع خيراتها وعطاءاتها، ولكنه لم يتركه يتخبط في عشواء محاولاً أن يعبد ربه وفق ما يخترعه من طرق، أو ما يستحسنه ويروق له من أساليب، فأرسل له الرسل مبشرين ومنذرين، وختمهم بالرسول العظيم خاتم المرسلين، الذي أوتي القرآن ومثله معه:
القرآن العظيم، والسنة المطهرة وهما البرنامج العام للعقل الإنساني، فهو على الصراط المستقيم ما دام منفذاً ما أمرا به، مبتعداً عما نهيا عنه، لأن
(1) من مقدمتي لمسند أبي يعلى الموصلي.
الله هو الذي خلق بعلمه وقدرته، وأرشد وهدى بلطفه ورحمته، فأرسل إلى الإنسان ما يحقق إنسانيته ويرشده إلى قيمة القيم في السلوك الإنساني والحياة البشرية بامتدادها الأفقي، وعمقها الشاقولي، ومن المسلم به أن مخترع الحاجة أعلم بما يصونها ويحفظها من التلف، وهو الأدرى بإصلاحها إن أصابها شيء من عطب، فالله هو الخالق، والله هو الهادي، والله على كل شيء قدير:{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} .
وما أجمل وصف الرسول الكريم لما أتى به، وما أوجز عبارته وأعمقها تحذيراً من التفلتْ وترغيباً في الالتزام حيث قال:"أَلَا وَإِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ: أَحَدُهُمَا كِتَابُ اللهِ عز وجل هُوَ حَبْلُ اللهِ، مَنِ اتَّبَعَهُ، كَانَ عَلَى الْهُدَى، وَمَنْ تَرَكَهُ، كَانَ عَلَى ضَلَالَةٍ"
…
مسلم (2408)(37). وحيث قال: "تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ الله، وَسُنَّتِي".
لقد آمن الصحابة الكرام الإيمان العميق بصدق الرسالة وخيرها فاحتضنوها وأحاطوها بمقل العيون، بل زرعوها في سويداء القلوب، وحولوا ما جاء فيها من مبادئ إلى سلوك يومي لأنها دستور الإصلاح العام:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} .
فهي تهذيب للنفس وسمو بها إلى عالم الأمن والأمان والسلامة والإسلام، ترسم لها أسلوب التعامل مع ذاتها، وتوضح لها أطر العلاقات مع الخلق الذين هم عيال الله، وتزرع في عمقها "أَن أَحَبَّ الْخَلْقِ إلَى الله أَنْفَعُهُمْ لِعِيَالِهِ".
وهي تهذيب للمجتمع حتى لا يُفْرِطَ ولا يُفَرِّط، فهو الحامي للفرد من كل طغيان، وهو الصاعد بالفرد من حدود الذات، فالمجتمع كالجسم يكون سليماً بسلامة أعضائه. ولكنه يضعف إذا اعتل أحد الأعضاء، فهو الذي
عليه أن يأخذ منه إذا احتاج، ولكن دون إرهاق، وهو الذي عليه أن يقدم له ما يحتاج إليه أمثاله نوعاً وكمّاً إذا عرض لهذا الفرد ما يجعله بحاجة إلى هذا الإمداد.
وهي التي تحدد العلاقة بين الخالق والمخلوق بأسلوب عملي واضح لا مجال فيه لاجتهاد مجتهد، أو افتراء متنطع، "صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي"، و"خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ"، و"مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرَنَا هذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ، فَهُوَ رَدٌّ".
لذلك فإن الصحابة قد حملوا هذه الرسالة أمانة أغلى عندهم من أموالهم وأولادهم بل ومن أنفسهم، فوقَّعوا على صك البيع: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ
…
} وهم مختارون فرحون بهذا الفوز العظيم.
ثم تلا أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك الذين: {اتَّبَعُوهُمْ بِإحْسَانٍ رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ
…
} [التوبة: 100]. وهم الذين اختارهم الله عز وجل لإقامة دينه، وخصَّهم بحفظ فرائضه وحدوده، وأمره ونهيه، وأحكامه جميعها، وسنن رسوله المبينة لها، فحفظوا عن الصحابة ما فقهوه وأتقنوه علماً وعملاً، ثم علَّموه للأئمة الثقات الذين جمعوا السنة مما كتب الكاتبون (1) وحفظ الحافظون. وقد أخذ هؤلاء الأئمة عن كتب شيوخهم الذين يكتبون كما أخذوا عن الحفاظ الذي اكتفوا بالحفظ ولم يكتبوا، وجمعوا هذا إلى ذاك بالطرق المختلفة التي كانت معروفة آنذاك في التأليف والتصنيف.
لقد جمعوها بإفراد أبواب الفقه باباً باباً كما فعل الشعبي الذي روي عنه
(1) صحيفة عبد الله بن عمرو، وصحيفة علي التي كانت معلقة بسيقه، وصحيفة جابر، وصحيفة سمرة بن جندب.
أنه قال: هذا باب من الطلاق جسيم وساق فيه أحاديث.
كما جمعوها أبواباً وأحكاماً فمزجوا بين الحديث وفتاوى الصحابة كما فعل مالك في "الموطأ" وقد توخى جمع القوي من أحاديث أهل الحجاز ومزجه بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين.
وقد استقصى هذا فجمع وأوعى عبدُ الرزاق (211) هـ، وأبو بكر بن أبي شيبة (235) هـ.
ثم رأى كثير من الأئمة أن يفردوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصبحتَ قلّما تجد إماماً من الحفاظ إلا وله مسند: كالطيالسي، والإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه، والبزار وأبي يعلى الموصلي.
ومن الحفاظ من رتب على العلل فجمع لكل متن طرقه، واختلاف الرواة فيه بحيث يتضح إرسال ما يبدو متصلاً. ووقف ما يبدو أنه مرفوع.
ثم أصبح التأليف الأغلب الذي صار سائداً والتأليف على الأبواب بغير تمييز بين درجات الحديث. ثم بدا لبعض الحفاظ أن يتقيد بالصحيح، فكانت التجربة الفذة التي قام بها الإمام البخاري، والتي تابعه عليها مسلم بن الحجاج النيسابوري.
وقام حفاظ آخرون بإفراد الحديث الصحيح جملة، فكانت محصلة ذلك صحيح ابن خزيمة.
غير أن ابن حبان تلميذ ابن خزيمة قام بتجربة أوسع على غير الطريقة التي أصبحت مألوفة في التأليف، فابتاع طريقة رأى بعض العاملين في هذا الميدان الشريف أنها عسرة، ورأينا غير ذلك. فهجر ابن حبان، وهُجر صحيحه إلى أن قام ابن بلبان بإعادة ترتيبه على أبواب الفقه وقد بينا ذلك في مقدمتنا لهذا الصحيح -طبعة أولى- الذي قامت بنشره مؤسسة الرسالة.
ولقد اعتنى المحدثون بالكتب الستة، ووضعوا عليها الأطراف، كما