الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وزيادة على ذلك فإن هذا الأصل مكتوب بخط تلميذ المؤلف أحمد بن محمد الفوي. وعارضنا بعض أجزائه بثلاث نسخ غير الأصل في مصر والشام".
رحم الله حسام الدين القدسي، وأجزل ثوابه، وإنني سأقدم الدراسة الوافية -إن شاء الله وأراد لي ذلك- في نهاية الكتاب. حيث يكون العمل تاماً والإحصائيات مهيأة أسبابها، حيث يكون الرأي مدعماً بالإحصائيات. لأن التعميم لا يفيد عالماً، ولكنه يضر بدون شك شداة العلم ومدعيه.
نسأل الله التوفيق والسداد، والتثبت والرشاد إنه على ما يشاء قدير.
وقال السيد محمد بن جعفر الكتاني في "الرسالة المستطرفة" ص (129) وهو يتحدث عن "مجمع الزوائد ومنبع الفوائد": "وهو من أنفع كتب الحديث، بل لم يوجد مثله كتاب، ولا صنف نظيره في هذا الباب".
وقال الأستاذ أحمد رافع الطهطاوي -هامش ذيل طبقات الحفاظ-: "وهو من أهم كتب السنن بعد الأصول الستة، ومن يطَّلعْ عليه، يخضع لجلالة قدر مؤلفه في الحديث".
وقال الشيخ محمد عابد السندي يصف هذا الكتاب: "وهو كتاب عظيم جليل القدر، كبير الشأن، لم أر أحداً سبقه إلى هذا المنهج الجلي، رضي الله عنه رضاء لا سخط بعده".
ب- علي بن أبي بكر الهيثمي
(1)
إن دراسة حياة أيّ علم من أعلام الحديث أو الفقه أو الأدب دراسة علمية يتوصل بواسطتها الدارس إلى المكونات النفسية والفكرية، ومجالات
(1) مصادر ترجمة الحافظ الهيثمي:
- إنباء الغمر 5/ 256 - 257، 260.
- ذيل طبقات الحفاظ ص (372 - 373). =
الإبداع أو التخلف، وحجم العطا وتناسبه مع الفترات التي كان خلالها، لهي أشق على الدارس من غزل الصوف بدون مغزل، ومن البحث عن إبرة في بيدر من القش.
وخاصة إذا أغفلت المصادرُ المراحل التي مرت بها حياته.
إن الفترة الزمنية التي عاشها الحافظ الهيثمي تمتد من ولادته سنة (735) هـ إلى سنة وفاته وهي سنة (807) هـ. وما أكثر ما مر بالبلاد الإسلامية من أحداث في هذه الفترة الطويله العصيبة.
لقد ورثت مصر العراق في الزعامتين: الدينية والسياسية للعالم الإسلامي، كما عقد لها لواء الزعامة الفكرية والحضارية، وصارت القاهرة خليفة بغداد منذ عام (656) هـ وطوال قرون طويلة.
قال العلامة ابن خلدون (732 - 808) هـ: "واختص العلم بالأمصار الموفورة الحضارة، ولا أوفر اليوم في الحضارة من مصر، فهي أم العالم، وإيوان الإسلام، وينبوع العلم والصنائع".
لقد وجد صلاح الدين نفسه أمام تيار ضخم عميق الجذور من الفكر
= - لحظ الألحاظ (239 - 241).
- البدر الطالع للشوكاني 1/ 441.
- شذرات الذهب 7/ 70.
- كشف الظنون 2/ 957، 1400.
- هدية العارفين 5/ 727.
- الأعلام 4/ 266 - 267.
- معجم المؤلفين 7/ 45.
- الرسالة المستطرفة ص (105، 110، 128 - 129).
الفلسفي الوافد والهجين، فقابله بحرب لا تهدأ لإحلال الفكر السني، فركز على نشر الحديث والمذاهب الأربعة، وبنى المدارس في مصر والشام، واستدعى العلماء والفقهاء، وأغراهم بالحضور، وسار خلفاؤه على سننه ونهجوا نهجه.
واستمرت سياسة المماليك في نشر المذاهب الأربعة مع التعصب الشديد لها، وبناء المدارس، والجوامع، وجمع الكتب المختلفة في التفسير والحديث وعلوم القرآن، وعلوم اللغة، والتاريخ، والجغرافيا، والسير، والطب والصيدلة.
ومع هذا كله فإن المماليك لم يدَّعوا لأنفسهم السلطة الدينية، بل احتفظوا بالسلطة الزمنية والسياسية، وكثيراً ما كان يثور الخلاف بين السلطتين الدينية والزمنية، فيمتلئ صدر العلماء بالضيق لجهل المماليك وتهورهم وظلمهم، واقرأ معي نفثه قاضي القضاة تقي الدين بن دقيق العيد المصدور إذ قال:
أَهْلُ الْمَنَاصِبِ فِي الدُّنْيَا وَرِفْعَتِهَا
…
أَهْلُ الْفَضَائِلِ مَرْذُولُونَ بَيْنَهُمُ
قَدْ أَنْزَلُونَا لأنَّا غَيْرُ جِنْسِهِمُ
…
مَنَازِلَ الْوَحْشِ فِي الإهْمَالِ عِنْدَهُمُ
فَمَا لَهُمْ فِىِ تَوَقِّي ضُرِّنَا نَظَرٌ
…
وَلَا لَهُمْ فِي تَرَقِّي قَدْرِنَا هِمَمُ
فَلَيْتَنَا لَوْ قَدِرْنَا أَنْ نُعَرِّفَهُمْ
…
مِقْدَارَهُمْ عِنْدَنَا أَوْ لَوْ دَرَوهُ هُمُ
لَهُمْ مُريحَانِ: مِنْ جَهْلٍ وَفَرْطِ غِنىً
…
وَعِنْدَنَا الْمُتْعِبَانِ: الْعِلْمُ، وَالْعَدَمُ
ومن مظاهر الحياة الدينية عند المماليك الاحتفال بليلة النصف من شعبان، والاهتمام الزائد بالمولد النبوي، وموالد الأولياء والصالحين، وكثيراً ما تتخذ مناسبات موالد الأولياء والشيوخ مجالاً للتحرر من الأخلاق والفضيلة، وارتكاب المفاسد والشرور. وتمكنت في الناس عقيدة الكرامات لأولياء الصوفية، وكثر الحديث عما يأتون من خوارق الأعمال والكرامة في عرف البسطاء والجاهلين من الناس. وأصبح الناس يعتقدون بالتنجيم والمنجمين وعلى رأس هؤلاء الناس سلاطينهم. وقد استطاع مشايخ الصوفيين أن يدخلوا فى روع السلاطين أن بمقدروهم الكشف والتصريف والإتيان بالخوارق، وقد أحب المماليك انتشار هذا الوهم، لأن سياستهم تتطلب أناساً منصرفين عن الدنيا، زاهدين في الحياة والمال والنعيم، وهذا شيء يجيد الحديث عنه أولئك المتصوفون.
وعلى الرغم من أن سوس الفساد انتشر في بناء هذا المجتمع، فساد العسف والجور، والمصادرة، والسخرة، وعمت السرقة، والتحلل الخلقي، والفساد السياسي، والفساد الاجتماعي، والظلم الاقتصادي، فإن المماليك كانوا مهتمين بالحفاظ مظهراً على أمور الدين ورعاية أوامره ونواهيه، حتى أظهر الكثير منهم التشدد في تطبيق أحكامه ومحاربة الخارجين عليه فأخذوهم بصورة لا يقرها الشرع نفسه.
وليس أدل على ذلك من أن جماعة من الأقباط تظاهروا بالإسلام، وتسللوا إلى الوزارة والدواين فتسلطوا عليها، وتشددوا في ظلم الرعية.
قال شهاب الدين الأعرج (ت 785) هـ:
وَكَيْفَ يَرُومُ الرِّزْقَ فِي مِصْرَ عَاقِلٌ
…
وَمِنْ دُونِهِ الأتْرَاكُ بِالسَّيْفِ وَالتُّرْسِ
وَقَدْ جَمَعَتْهُ الْقُبْطُ مِنْ كُلِّ وُجْهَةٍ
…
لَأنْفسِهِمْ بِالرُّبْعِ وَالثُّمْنِ وَالْخُمْسِ
فَلِلتُّرْكِ وَالسُّلطَانِ ثُلْثُ خَرَاجِهَا
…
وَلِلْقِبْطِ نِصْفٌ وَالْخَلائِقُ فِي السُّدْسِ
وفوق كل ما تقدم فإن المماليك فعلوا ما عجز عنه غيرهم: لقد صَفَّوُا الجيوب الصليبية تصفية نهائية من المنطقة، ودحروا جيوش المغول التي كان الكثير من الناس يزعم أنها قضاء الله قدره الذي لا مرد له.
وإليك ما كتبه تيمورلنك في رسالته إلى السلطان برقوق (796) هـ:
اعلموا أنا جند الله مخلوقون من سخطه ومسلطون على من حل عليه غضبه، لا نرق لشاكٍ، ولا نرحم لباكٍ، قد نزع الله الرحمة من قلوبنا، فالويل ثم الويل لمن لم يكن من حزبنا ومن جهتنا، قد خربنا البلاد، وأيتمنا الأولاد، وأظهرنا في الأرض الفساد، وذلت لنا أعزتها، وملكنا بالشوكة أزمتها، فإن خيل ذلك على السامع وأشكل، وقال: إن فيه عليه مشكل، فقل له:
{إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} [النمل: 34] وذلك بكثرة عددنا وشدة بأسنا، فخيولنا سوابق، ورماحنا خوارق، وأسنتنا بوارق، وسيوفنا صواعق، وقلوبنا كالجبال، وجيوشنا كعدد الرمال، ونحن أبطال وأقيال، وملكنا لا يرام، وجارنا لا يضام، وعزنا أبداً لسؤدد منقام، فمن سالمنا، سلم، ومن رام حربنا، ندم، ومن تكلم فينا بما لا يعلم جُهل. وأنتم إن أطعتم أمرنا، وقبلتم شرطنا، فلكم ما لنا وعليكم ما علينا، وإن خالفتم، وعلى بغيكم تماديتم، فلا تلوموا إلا أنفسكم فالحُصون منا -مع تشديدها- لا تمنع، والمدائن بشدتها لقتالنا لا ترد ولا تنفع. ودعاؤكم علينا لا يستجاب فينا ولا يسمع.
فكيف يسمع الله دعاءكم وقد أكلتم الحرام، وظلمتم جميع الأنام، وأخذتم أموال الأيتام، وقبلتم الرشوة من الحكام، فأعدت لكم النار وبئس المصير:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10] فلما فعلتم ذلك، أوردتم أنفسكم موارد المهالك.
وقد قتلتم العلماء، وعصيتم رب الأرض والسماء، وأرقتم دم الأشراف، وهذا والله هو البغي والإسراف، فأنتم بذلك في النار خالدون.
وفي غد ينادى عليكم: {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} [الأحقاف: 20].
فأبشروا بالمذلة والهوان، يا أهل البغي والعدوان. وقد غلب عندكم أننا كفرة، وثبت عندنا أنكم -والله- الكفرة الفجرة، وقد سلطنا عليكم الإله، له أمور مقدرة، وأحكام محررة. فعزيزكم عندنا ذليل، وكثيركم لدينا قليل، لأننا ملكنا الأرض شرقاً وغرباً، وأخذنا منكم كل سفينة غصباً، وقد أوضحنا لكم الخطاب، فأسرعوا برد الجواب، قبل أن ينكشف الغطاء، وتضرم الحرب نارها، وتضع أوزارها، وتصير كل عين عليكم باكية، وينادي منادي الفراق:{فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة: 8] وُيسْمِعُكُم صارخُ الفناء بعد أن يهزكم هزاً {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} [مريم: 98]، وقد أنصفناكم إذ راسلناكم، فلا تقتلوا المرسلين كما فعلتم بالأولين فتخالفوا -كعادتكم- سنن الماضين، وتعصوا رب العالمين "وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إلَاّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ" وقد أوضحنا لكم الكلام، فأرسلوا برد الجواب والسلام".
في هذا الجو الذي يجمع المتناقضات: العلم إلى جانب الجهل، والتحقيق إلى جانب الإيمان العميق بالخرافة، والأمن النسبي، إلى جانب الخوف الذي يخلع القلوب، وبارقة من العدل إلى موجات متعاليات من الجور والظلم والعسف، وومضة من إنزال الناس منازلهم، إلى جانب
احتقار من هو جدير بالاحترام، وإبعاد لمن حقه التقريب، وهجر لمن يجب وصله
…
في هذا الجو الذي يقابل فيه ومْضةَ الضوء، سيلٌ لا يكاد ينتهي من الظلم والظلام، ويصارع كل داع إلى الحق فيه جيش من الدساسين الذين يثيرون العوام، ويوغرون صدور الحكام. سلاحهم نشر الخرافة والشعوذة، وغايتهم إغراق الناس في شطحات الوهم قتلاً للوعي، وتعطيلاً للعقل عن الكشف عن قوانين الحياة.
في هذا الجو الذي اعتزل فيه العرب السياسة، وهجروا -وللأسف الشديد- ساحات الجهاد إلى الزراعة والصناعة، وبقية الحرف التي يكسبون منها معاشهم، وكان من جملة ما انصرفوا إليه العلم الذي كان انصرافهم إليه غَيْرَةً على الدين، ورغبة في إعادة الإسلام التليد، يشجعهم على ذلك فئات من السلاطين تحدت أساليبهم واختلفت غاياتهم:
أ- فئة منهم صادقة الحب للدين، مخلصة لرب العالمين، أحسنت إلى العلماء العاملين وقربتهم وكانت لهم الحظوة في بلاطها.
ب- وفئة كانت -لجهلها- تعتقد أن الإحسان إلى العلماء، وعمارة المساجد والمدارس كفارةٌ لسيئاتها الأخلاقية وستاراً لظلمها، ولما تسببت فيه من ويلات ومجاعات واضطرابات.
ج- وفئة -لخبثها- كانت تستغل هذا استغلالاً لتخدع عامة الناس بأنها العين الساهرة على حفظ ما يحبون، وبأنها حريصة على إشادة ما به يرغبون.
في هذا الجو المشحون بالصراعات المحمومة، وفي صحراء الفسطاط المستلقية بينها وبين المقطم، في ذاك الجو، وفي هذه البقعة المنعزلة عن صخب الحياة وضجيجها ولد الحافظ الهيثمي سنة (735) هـ. فهل أثرت
هذه البيئة بنفسه؟ وما آثارها؟.
نعم هناك من ينكر أثر البيئة على الإنسان، وهناك من يغالي في تصوير آثارها فيجعلها المصنع الذىِ يصبُّ جميع أفرادها بقوالب خاصة لا يتخلف عن الخضوع لقواعدها أحد. وهذا غلو يأباه العقل، ويرده واقع الناس، فهما بين إفراط وتفريط.
فالبيئة لابد أن تترك بصماتها على جانب أو أكثر من جوانب الشخصية الإنسانية التي تترعرع في أحضانها، وتتقلب بين ناسها عواطف وأفكاراً، ومشاعر وسلوكاً.
ولكن الذي لا شك فيه أن تأثير البيئة يختلف نوعاً كما يختلف باختلاف النفوس التي تتعرض له: فالحياة في الصحراء مثلاً تطبع الإنسان بالشجاعة، والكرم، والوضوح
…
غير أن هذه الصفات لا يمكن أن تكون بدرجة واحدة عند جميع الأشخاص، فلو كان التأثير بدرجة واحدة، لكان سكانها جميعهم عنترة بن شداد شجاعة، وحاتماً الطائي كرماً وإيثاراً.
والظلم في البيئة الاجتماعية يؤثر في النفوس التي تكتوي بسياطه، ولكن تأثيره يكون في بعضها انعزالاً عن واقع الحياة، وهروباً من المواقف الإيجابية فيها، بينما يكون في أخرى ثورة عارمة، ومواقف أبية تمثل الرجولة الحقة، والانتصاف الجميل.
وهنا لا بد من السؤال: هل أثرت هذه البيئة بنفس الهيثمي؟ ما هذا الأثر؟ هل اعتزل تلك الصراعات وجانبها فانصرف إلى ما انصرف غيره من العرب، أم ركب موجها وخاض غمارها؟
وحتى ندرك هذا لابد من متابعة حياة هذا الإمام خطوة فخطوة، نرصد ما له وما عليه:
لقد نسبه تلميذه الحافظ ابن حجر فقال: "علي بن أبي بكر بن
سليمان بن أبي بكر بن عمر بن صالح الهيثمي، الشيخ نور الدين أبو الحسن، ولد سنة خمس وثلاثين وسبع مئة" (1).
وتشح المصادر فتغفل ذكره: فلا نجد فيها ذكراً لطفولته المبكرة، ولا شيئاً يتعلق بظروف نشأته الأولى، وإنما تبدأ الحديث عنه حين بلغ الخامسة عشرة من العمر، حيث "صحب زين الدين العراقي وهو صغير فسمع معه ابتداء طلبه على أبي الفتح الميدومي، وابن المملوك، وابن القطرواني، وغيرهم من المصريين.
ومن ابن الخباز، وابن الحموي، وابن قيم الضيائية، وغيرهم من الشاميين.
ثم رحل معه جميع رحلاته، وحج معه جميع حجاته، ولم يكن يفارقه حضرًا، ولا سفراً، وتزوج ابنته، وتخرج به في الحديث، وقرأ عليه أكثر تصانيفه، وكتب عنه جميع مجالس املائه" (2).
تبدأ مصادر الترجمة بالحديث عنه منذ اتصاله بالحافظ العراقي، ولا تقدم لنا شيئاً عن طفولته الأولى وهي مرحلة التكوين الفعلي، ومجال العمل التربوي الفعال للأسرة حيث تتكون في هذه المرحلة البنية الأساسية للأفكار والأحاسيس والمشاعر، فهي مرحلة الأساس التي يقوم عليها بناء الشخصيّة الشامخ، كما أنها لا تقدم لنا شيئاً عن أسرته: مكانتها الاجتماعية، وعدد أفرادها، ووضعها الاقتصادي، ومستوى أفرادها العلمي، غير أنها تُجمع على أن حافظ عصره الإمام العراقي حدب عليه، ورعاه، وأحاطه بالعناية والاهتمام والرعاية التي لم يحظ بمثلها تلميذ من تلامذة هذا الحافظ على كثرتهم ونبوغ بعضهم، حتى إنه أسمعه جميع الشيوخ الذين سمعهم، ولم
(1) إنباء الغمر 5/ 256، وانظر الضوء اللامع 5/ 200 - 203.
(2)
إنباء الغمر 5/ 257. وقد عرفت بهؤلاء الشيوخ جميعهم في مقدمة "موارد الظمآن".
ينفرد عنه "بغير ابن البابا، والتقي السبكي، وابن شاهد الجيش"(1).
كما أن الهيثمي لم ينفرد عنه -عن شيخه العراقي- بغير صحيح مسلم عن ابن عبد الهادي (2).
لقد شارك الهيثمي شيخه جميع شيوخه: بمصر، والقاهرة، والحرمين، وبيت المقدس، ودمشق، وحلب، وحماة، وحمص، وطرابلس، وغيرها، وصحبه في رحلاته، وحجاته، لأنه احتل من نفسه المكانة التي عجز غيره عن احتلالها، فـ "لم يكن الزين يعتمد في شيء من أموره إلا عليه"(3).
لقد اصطفاه من دون طلابه -وفيهم ابن حجر وغيره- وخصه بصحبته، زوجه ابنته، ولم يأمن أحدًا كما أمنه، فكان لا يطمئن إلى أحد اطمئنانه إليه، ولا يثق بأحد ثقته به.
وقد بادله الهيثمي حباً بحب، واخلص له إخلاصاً كان مضرب المثل، إلى جانب الوفاء والتضحية والاحتواء.
لقد وجد فيه -في العراقي- الأنموذج الإنساني الذي يتطلع إليه، والمثل الأعلى الذي يقتدي به فكراً، وثقافة، وأخلاقاً، وسلوكاً، فكان له الأخ الصادق، والابن البار، والصديق الصدوق، والصاحب الوفي، والتلميذ المطيع، والخادم الأمين الذي "لا يخاطبه إلا بسيدي حتى كان في أمر خدمته كالعبد"(4).
وقام بخدمته قياماً لا يصبر عليه غيره، فإن الحافظ ابن حجر وهو تلميذ للعراقي والهيثمي قال: "رأيت في خدمته لشيخنا وتأدبه معه، من غير
(1) الضوء اللامع 5/ 201.
(2)
الضوء اللامع 5/ 201.
(3)
البدر الطالع 1/ 441.
(4)
الضوء اللامع 5/ 201.
تكلف لذلك، ما لم أره لغيره، ولا أظن أحداً يقوى عليه" (1).
وكانت للهيثمي خصوصية عند العراقي يحسده من أجلها أقرانه، فهذا ابن حجر وهو واحد منهم يقول متحدثاً عن تلامذة العراقي:"ومن أخصهم به صهره: شيخنا نور الدين الهيثمي. وهو الذي دربه وعلمه كيف التخريج والتصنيف، وهو الذي يعمل له خطب كتبه، ويسميها له"(2).
وابن حجر زامل الهيثمي بالتلمذة على شيخهما العراقي، وتتلمذ على الهيثمي، فهو أقرب الناس إليه، وأعرف الناس به، ولكن غيرة التلامذة أمر معروف، وأقوال الأقران في بعضهم ينبغي التوقف عندها.
فالصفات التي وصفه بها تلامذته، والذين ترجموا له، هي أنه "كان هيناً، ليناً، خيراً، ديناً، محباً في أهل الخير، لا يسأم ولا يضجر من خدمة الشيخ وكتابه. الحديث.
وكان سليم الفطرة، كثير الخير، كثير الاحتمال للأذى خصوصاً من جماعة الشيخ" (3).
"وكان ساكناً، شديد الإنكار للمنكر"(4).
"وكان محباً للغرباء وأهل الدين والعلم والحديث، كثير التودد إلى الناس مع العبادة والاقتصاد والتعفف.
وكان -يرحمه الله تعالى- من محاسن القاهرة، ومن أهل الخير، غالب أوقاته في اشتغال وكتابة، كغير التلاوة بالليل والتهجد" (5).
(1) الضوء اللامع 5/ 202.
(2)
إنباء الغمر 5/ 172.
(3)
إنباء الغمر 5/ 257.
(4)
الضوء اللامع 5/ 202.
(5)
لحظ الألحاظ ص: (240).
"وكان عجباً في الدين والتقوى، والزهد، والإقبال على العلم والعبادة، وخدمة الزين، وعدم مخالطة الناس في شيء من الأمور"(1).
ومما تقدم نخلص إلى أننا أمام إنسان ذكي، صبور، دؤوب، مطيع، وفيّ، أمين، ثقة، مجانب للناس مع حبه لهم، محب للعلماء والعلم، لا يدع لحظة من حياته تمر إلا في خدمتهما.
حدب عليه شيخ مشايخ عصره فأسمعه جل ما سمع، وكتب لشيخه معظم ما ألف، وقرأ عليه جل ما صنف حتى صار "لشدة ممارسته أكثر استحضاراً للمتون من شيخه"(2).
نقول: لقد حدب عليه شيخ خبر الحياة والأحياء وأفاد من تجربة عاشها. فقد كان العراقي مهتماً بعلم القراءات، فقال له قاضي القضاة عز الدين بن جماعة:"إنه علم كثير التعب، قليل الجدوى، وأنت متوقد الذهن، فينبغي صرف الهمة إلى غيره"، وأشار عليه بالاشتغال بعلم الحديث، فاستجاب الحافظ العراقي، ولم يبخل ببذل الجهد، فأصبح "الإمام الأوحد، العلامة الحجة، الحبر الناقد، عمدة الأنام، حافظ الإسلام، فريد دهره ووحيد عصره
…
" (3).
إننا إذن أمام طاقة جبارة توفرت لها كل أسباب العطاء:
أسباب ذاتية: الذكاء، والصبر، والدأب، والوقت.
أسباب خارجية: شيوخ علماء ملؤوا الدنيا وشغلوا الناس، مع إشراف دائم وتوجيه مستمر من شيخ مشايخ العصر الذي فاق أقرانه علماً، ونضج تجربة وخبرة لا ينقطع مدة ستة وخمسين عاماً.
(1) البدر الطالع 1/ 442، وانظر الضوء اللامع 5/ 201.
(2)
إنباء الغمر 5/ 172.
(3)
لحظ الألحاظ ص (220).
فما الآثار التي خلفتها هذه العبقرية التي توفرت لها هذه الظروف؟!.
يروي الحافظ ابن حجر أن العراقي "هو الذي دربه، وعلمه كيفية التخريج والتصنيف، وهو الذي يعمل له خطب الكتاب"(1). وأن الهيثمي "تخرج به في الحديث"(2).
وليس من شك عندنا أن العراقي تجام مقام الوالد من الهيثمي، وقد اختصه من دون تلاميذه فأمنه على علمه، وعلى عرضه، وبين أولئك التلاميذ من هو أرسخ قدماً، وأجل شأناً من الهيثمي، ولذلك فإننا لا نشك أيضاً أن الهيثمي يتمتع بصفات شخصية جذبت إليه العراقي، وجعلته يؤثره على بقية تلاميذه وفيهم ابن حجر، ويثق به أكثر من جميع رواده، ويطمئن إليه أكثر من أخص الناس به: أهله وولده.
ويجمع مترجمو الهيثمي -وعن الحافظ ابن حجر نقلوا لأنه أقدم من ترجم له- أن العراقي أشار عليه:
أولاً: أن يجمع ما في مسند أحمد من الأحاديث الزائدة على الكتب الست، وأرشده إلى التصرف بذلك، وعندما فرع من تسويده، راجعه الحافظ العراقي وسماه "غاية المقصد في زوائد أحمد" وهو في مجلدين.
ثم حبب إليه هذا التخريج فصنع "كشف الأستار عن زوائد البزار".
وقد حققه الأستاذ الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي في أربعة مجلدات، نشر مؤسسة الرسالة.
ثم أتبعه بزوائد مسند أبي يعلى الموصلي، وسماه "المقصد العلي في زوائد أبي يعلى الموصلي" وقد حقق الجزء الأول منه الدكتور نايف بن هاشم الدعيس، وفيه (615) حديثاً.
(1) إنباء الغمر 5/ 172.
(2)
إنباء الغمر 5/ 172.
وكان عمله الرابع جمع زوائد "المعجم الكبير" للطبراني. وسماه "البدر المنير في زوائد المعجم الكبير".
وختم ذلك بجمع زوائد المعجمين: الأوسط، والصغير، في مصنف واحد سماه "مجمع البحرين في زوائد المعجمين".
ثم جمع ما تقدم من أحاديث فحذف أسانيدها، ورتبها على أبواب الفقه، وتكلم على كل حديث منها بالصحة والضعف، جمع ذلك في كتاب واحد سماه "مجمع الزوائد، ومنبع الفوائد" وهو الكتاب الذي نحن بصدد تحقيقه، أعاننا الله على إتمامه.
وبعد أن رسخ قدمه في هذا المضمار الشريف، جمع زوائد ابن حبان على الصحيحين، وليس على الكتب الست كما تقدم، ورتبها على أبواب الفقه أيضاً في كتاب سماه "موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان". وقد حققناه بفضل الله مع الأستاذ عبده علي الكوشك، ونشرته دار الثقافة العربية.
ثم صنع "بغية الباحث عن زوائد الحارث". ورتب "ثقات ابن حبان" على الحروف، ورتب "ثقات العجلي" كذلك حتى تسهل العودة إليهما والفائدة منهما.
كما رتب أحاديث "الأفراد للدارقطني" على أبواب الفقه في مجلدين، ورتب أيضاً "الغيلانيات" و"الخلعيات"، و"فوائد تمام" على أبواب الفقه أيضاً. وسود ترتيب أحاديث "حلية الأولياء" لأبي نعيم على الأبواب، ولكنه انتقل إلى رحمة الله تعالى قبل إتمامها، فبيضها تلميذه الكبير الحافظ ابن حجر، تغمدهما الله في رحمته.
هذه هي مجموعة الآثار التي خلفها هذا الإمام، وهي -بحق- تفرض على من يطلع عليها أن يعترف بجلالة قدر صانعها، وبحفظه، وبقدرته على
الترتيب والتبويب، وبفائق الجهد المبذول فيها من أجل أن ييسر الوصول إلى الإفادة منها، رحم الله مصنفها ومرتبها.
وهنا يلوح على استحياء سؤال:
هل الآثار التي تركها الحافظ الهيثمي -على جلالها، وعظيم قدرها، وكبير فائدتها- تملأ الإطار الزمني الذي عاشه هذا الحافظ الجاد؟ وتكون الركيزة الأساسية التي اعتمد عليها تلامذته ومن ترجموا له ليصفوه بما وصفوه به؟
لقد عاش الهيثمي رحمه الله اثنتين وسبعين عاماً، أنفق منها ستة وخمسين عاماً في صحبة سيده وشيخه، حافظ الحفاظ في المشرق والمغرب، أبي الفضل العراقي.
وهو الذي "كان عجباً في الدين والتقوى، والزهد، والإقبال على العلم
…
وعدم مخالطة الناس" (1).
وهو الذي أصبح "لشدة ممارسته أكثر استحضاراً للنصوص من شيخه"(2).
وهو الذي رتبه شيخه وسيده ثالث حفاظ العصر بعده، قال ابن حجر:"وسئل -يعني العراقي- عند موته عمن بقي من الحفاظ، فبدأ بي، وثنى بولده، وثلث بالشيخ نور الدين"(3).
وقد أجمل الأقفهسي صفاته فقال: "كان إماماً، عالماً، حافظاً، زاهداً، متواضعاً، متودداً إلى الناس، ذا عبادة وتقشف وورع".
نقول: إن رجلاً يدربه شيخه على عمل، ثم يراجعه له عند الانتهاء منه
(1) الضوء اللامع 5/ 201.
(2)
إنباء الغمر 5/ 172.
(3)
إنباء الغمر 5/ 172.
ويعينه حتى على كتابته، ويكتب له مقدمته، ويسميه له ولا يتقن من علوم الحديث إلا هذا الذي دربه فيه شيخه، لا يمكن أن يوصف بأنه ثالث حفاظ العصر بعد العراقي. وبأنه حافظ، وعالم، وإمام.
وإنني لأزعم أن المنافسة هي التي دفعت الحافظ ابن حجر إلى أن يعلل لماذا كان أول حفاظ العصر بعد العراقي بقوله: "لأن ولده تشاغل بفنون غير الحديث، والشيخ نور الدين كان يدري منه فناً واحداً"(1).
ويؤكد على ذلك، ويوضح المراد الحافظ السخاوي بقوله:"وأما في الحديث فالحق ما قاله شيخنا أنه كان يدري منه فناً واحداً. يعني الذي دربه فيه شيخهما العراقي"(2).
وإن عجبي لأشد من أن الحافظ ابن حجر يصرف الأذهان عن حقيقة استقرت فيها بتأويل لم يوفق فيه، ولا أظن أنه يوافق عليه. يقول:"وصار الهيثمي لشدة ممارسته أكثر استحضاراً للمتون من شيخه" هذه هي الحقيقة، والتعليل "حتى يظن من لا خبرة له أنه أحفظ منه، وليس الأمر كذلك، لأن الحفظ المعرفة"(3).
والإنصاف أن الهيثمي أكثر استحضاراً للمتون من شيخه العراقي، ولكن العراقي كان أتقن لفنون الحديث من تلميذه، وليس في ذلك حط من شأن العراقي حتى يسارع الحافظ إلى حصر الحفظ بأنه المعرفة، وليس هذا بمسلم له والله أعلم.
وأعود لأؤكد -وأرجو أن لا يجانبني التوفيق- أن المصنفات التي أغنى الهيثمي المكتبة الإسلامية بها -على جلالة قدرها وعظيم فوائدها-: لا تغطي المساحة الزمنية التي عاشها، والفترة الخصبة التي أَنفقها في صحبة شيخ
(1) إنباء الغمر 5/ 172.
(2)
الضوء اللامع 5/ 202.
(3)
إنباء الغمر 5/ 172.
يحرض كل طاقة فيه على العطاء، كما أنها لا تؤهله لأن يوصف بالأوصاف التي وصف بها وهو تلميذ لحافظ الدنيا العراقي، وشيخ لأمير المؤمنين في الحديث، شيخ الحفاظ ابن حجر العسقلاني.
إن تركة الرجل -ولا أمل من تكرار التوكيد على جلالتها وعظيم فوائدها- تعتمد في مجموعها على الترتيب الذي يمكن لرجل عادي أن يقوم به مع الإشراف، والتوجيه، ومد يد العون -كما زعم المترجمون له أن العراقي يفعل- فبماذا إذاً استحق شيخنا هذه الأوصاف؟
إنه ثالث حفاظ عصره، العالم، الحافظ، الإمام، الذي لا يكل ولا يمل من كتابة الحديث وتدوين العلم.
فقد سمع ما سمعه العراقي تقريباً، وسمع، وكتب، وقرأ كل ما أنتجه العراقي، فالجو مهيأ له لأن يتجاوز العراقي نفسه.
نعم هناك قدرات شخصية لا يمكن لباحث أن ينكرها، ولكن أن يكون البون شاسعاً بين شيخ وتلميذه كما هو الحال بين العراقي وصفيه من دون تلاميذه وفيهم ابن حجر، فهو أمر ليس بمقبول، مع أن الصفات التي وصف بها، والظروف العلمية التي عاشها، ورعاية وإشراف وتوجيه وتدريب حافظ جاد، بصير خبير، إن هذا كله لجدير بأن يجعل منه إماماً يملأ الدنيا ويشغل الناس.
ولكنني -والحق أقول- تعبت في البحث عن المعطيات التي تكون السلم الذي صعد عليه شيخنا حتى استحق هذا لاختيار من شيخ يحسن الاختيار والمنافسون عليه كثر، فأمنه على علمه والعلم دين، وأمنه على عرضه ولا يؤتمن على العرض إلا ذو خلق ودين، وليس الخلق إلا التطبيق لما جاء في كتاب الله، وما صح عن رسول الله.
بِمَ استحق هذه الألقاب والصفات، ودون الاتصاف بها خرط القتاد؟.
ولكن كيف أقع عليها وهي غرقى في بحر شهرة العراقي الذي ابتلعها في جملة ما ابتلع.
لقد عاش الهيثمي في عصر كان العراقي فيه محط الآمال، ونهاية ما تتطلع إليه أحلام الرجال.
لقد كان كما قال النابغة للنعمان بن المنذر:
فَإنَّكَ شَمْسٌ وَالْمُلُوكُ كَوَاكِبٌ
…
إذَا طَلَعَتْ لَمْ يَبْدُ مِنْهُنَّ كَوْكَبُ
لقد أخملت شهرة العراقي كل شهرة، وحالت مظلته دون تفتح براعم لو كانت في غير زمانه، لعطر الكون شذاها. ولذلك فإن كثيراً من الناس أصبحوا لا يرون إلا من خلال شيخه، ولا يرون فيه إلا ما دربه عليه سيده، أو صنعه من أجله.
نعم أفاد الهيثمي من شيخه، وهذا أمر مجمع عليه، ولكن السؤال الذي يتطلب الإجابة: هل أفاد العراقي وهو الحافظ العلم من تلميذه وخادمه، فصاحبه، فصهره الحافظ الهيثمي؟.
ولكي نجيب على هذا السؤال لابد أن نقول: لقد ولد الهيثمي لأسرة عاشت في الظل، على هامش الحياة، في صحراء استلقت بعيداً عن صخب الحياة وصراع المتصارعين، لا يزعجها عجيجهم، ولا يكدها ضجيجهم.
وقد مر بظروف مجهولة لأن أسرته ليس لها من الثراء، أو الوجاهة الاجتماعية شيء حتى يذكرها الذاكرون، ولم نستطع أن نعرف عنه شيئاً قبل صحبته علم الأعلام، وحافظ الإسلام الى عطف عليه، وأحسن إليه.
فالهيثمي إنسان نشأ فقيراً، والفقر يقصر الخيال، ولكنه ليس بسبة تضع من أقدار الرجال، نعم نشأ فقيراً لا يملك مالاً، ولكن أسرته التي لا تملك من المال والمكانة الاجتماعية أو العلمية ما يلفت إليها نظر الدارسين
والمؤرخين، عرفت كيف تغرسَ فيه الإخلاص، والتضحية والوفاء، فقد كبل الإحسان لسانه، والإحسان يستعبد قلوب الأحرار من الرجال، وجعله الوفاء، والتضحية، والاعتراف بالجميل يهجر الكثير مما تميل إليه النفوس وتشرئب إليه الأعناق. فهو لا ينظر إلى شيخه إلا من خلال نسيج سداه التقدير والاحترام، ولحمته الحياء لأنه رباه ورعاه، وأرشده وأعانه ثم أمنه على كل ما لم يأتمن غيره عليه من العلم والنسب، فكان يرى نفسه أنه جزء من شيخه، وامتداد له. فهو له محب لأن القلوب جبلت على حبّ من أحسن إليها، وهو له الخادم المطيع، لأنه وضع القول:"من علَّمني حرفاً كنت له عبداً" موضع التنفيذ، وقد نجح رحمه الله في هذين الأمرين أي نجاح!!
ولذلك فإنني لا أرى للهيثمي من الاستقلال عن شيخه إلا بمقدار ما للغصن في الشجرة من الاستقلال عن أمه، مع ارتباطه الأصيل بها، واعتماده في كل حياته عليها.
وكما أنه من المسلم به أن الغصن يستفيد من الشجرة، فإنه مما لا شك فيه أيضاً أن الشجرة تستمد من أغصانها ما يفيدها في استمرار حياتها.
ولذلك فإنني أزعم أن العراقىِ استفاد من الهيثمي، وأن الهيثمي شريك للعراقي -بنسبة ما، لا أستطيع معرفة شيء عنها الآن لقلة المصادر لدي- في هذا الميراث العظيم الذي تركه الحافظ العراقي.
وكان من المتوقع أن يرى الناس صورة الهيثمي، ورسوخ قدمه، واستقلاله عن شيخه وسيده العراقي، وأن ينثر ما في جعبته، بعد وفاة العراقي سنة (806) هـ ولكن يد المنون اختطفته بعد عام واحد، فاختاره الله للقائه سنة (807) هـ تغمده الله وإيانا برحمته وأسكنه وأسكننا فسيح جنته.
وهكذا انتهت حياة هذا الحافظ الجليل الذي ورث من بيئته المكانية
البساطة والوضوح، فكان رحمه الله مثل الكتاب المفتوح تتجلَّى فيه بساطة الصحراء وانكشافها.
وورث من البيئة العامة تلك العزلة التي أصابت العرب آنذاك، ولكنه حولها إلى عزلة إيجابية فقام بالبحث والدرس، وأسهم إسهاماً مشكوراً بتقديم ما يقوِّم اعوجاج المعوجّين، ويقف سدّاً أمام انحراف المنحرفين، وغلوّ الغالين، وتأويل المبطلين.
وورث من أسرته الوفاء والإخلاص، والقدرة على التضحية، والصبر على المكاره، والصبر عن المشتهيات، وحبّ العلم وأهله، والتفاني في حبّهم وخدمتهم، فكان المثال الذي يجب أن يحتذى في هذا المجال.
وأخيراً، فإنني ما قدمت الذي قدمت غضاً من شأن شيخنا الهيثمي، وإنني قدمت وجهة نظري السابقة لأنني أعتقد أن تركة هذا الحافظ الذي كاد أن يكون جندياً مجهولاً -على جلالتها وعظيم فوائدها- ما هي إلا جزء ضئيل مما كنت أرجو أن يخلفه من ميراث عمقاً، ودقة، وشمولاً، وتنوعاً في أكثر من جانب من جوانب معارف العصر الذي عاشه.
كما أنني ما ذهبت إلى ما قدمت تقليلاً من شأن المصنفات التي تركها، وفيها "مجمع الزوائد
…
" وقد شهد أئمة أعلام، وحفاظ كبار بجلالة قدرها، وعظيم فائدتها، واعترفوا ببالغ الجهد الذي بذله مصنّفها في تصنيفها وترتيبها.
وأما أن يظن ظان أنني أغمز جانب الحافظ العراقي، فإني ألتمس له العذر، وأرجو منه أن يردد {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} ، فإن العراقي -وكذلك صفيه الهيثمي- لا يقدم على النيل منه إلا من ينكر ظهور الشمس في رابعة النهار.
وإذا قصرت عبارتي عن توضيح ما أردت، وفهم منها غير ما قصدت،