الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوجه المشروع، وأنه يسن الجهر به أيضاً – أعني رفع الصوت – ولا يكون رفعاً مزعجاً فإن هذا لا ينبغي، ولهذا لما رفع الناس أصواتهم بالذكر في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام في قفولهم من خيبر قال:"أيها الناس، اربعوا على أنفسكم"(1) ، فالمقصود بالرفع، الرفع الذي لا يكون فيه مشقة وإزعاج.
570 وسئل فضيلة الشيخ: سمعت من بعض الناس إنكار رفع اليدين في الدعاء فرجعت إلى
بعض كتب السنة وشروحها وجمعت منها الكلمة المرفقة في مشروعية رفع اليدين في الدعاء مطلقاً، وأنه من آدابه ومن أسباب إجابة الدعاء، ثم سمعت أخيراً أنه صدر منكم فتوى في عدم مشروعية ذلك أظنه قيل بعد السنة، أرجو الإفادة عن صحة ذلك؟
فأجاب بقوله: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
اطلعت على الورقة المطبوعة المصاحبة لكتابكم التي
(1) متفق عليه من حديث أبي موسى الأشعري، فرواه البخاري في مواضع منها الجهاد باب 131 – ما يكره من رفع الصوت في التكبير (2992) ، ومسلم في الذكر والدعاء باب 13 – استحباب خفض الصوت بالذكر 4/2076 ح44 (2704) .
تتضمن بيان أن رفع اليدين حال الدعاء من آداب الدعاء، وأسباب إجابته، ولاشك أن الأمر كما ذكرتم من أن رفع الأيدي حال الدعاء من آداب الدعاء، وأسباب إجابته للأحاديث الواردة في ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله، هذا هو الأصل.
وقد تأملت في ذلك فظهر لي أن ذلك على أربعة أقسام:
الأول: ما ثبت فيه رفع اليدين بخصوصه كرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه في خطبة الجمعة حين قال: "اللهم أغثنا"(1)، وحين قال:"اللهم حوالينا ولا علينا"(2) .
الثاني: ما ثبت فيه عدم الرفع كالدعاء حال خطبة الجمعة بغير الاستسقاء، والاستصحاء، كما دل على ذلك ما رواه مسلم 2/595 عن حصين بن عبد الرحمن عن عمارة بن رؤيبة أنه رأى بشر بن مروان على المنبر رافعاً يديه فقال:"قبح الله هاتين اليدين لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يزيد على أن يقول بيده هكذا، وأشار بإصبعه المسبحة"(3)، وفي رواية:"رأيت بشر بن مروان يوم جمعة يرفع يديه فقال عمارة" فذكر نحوه.
الثالث: ما كان ظاهر السنة فيه عدم الرفع، كالدعاء بين السجدتين، وفي آخر التشهد، فإن الظاهر فيهما عدم رفع اليدين
(1) متفق عليه من حديث أنس، فرواه البخاري في أثناء قصة في الاستسقاء باب 6 – الاستسقاء في خطبة الجمعة غير مستقبل القبلة (1014) ، وكذلك مسلم في الاستسقاء باب 2 – الدعاء في الاستسقاء 2/612 ح8 (897) .
(2)
المرجع السابق.
(3)
رواه مسلم في الجمعة باب تخفيف الصلاة والخطبة 2/595 ح35 (874) .
وكذلك دعاء الاستفتاح كما في حديث أبي هريرة، وكذلك الاستغفار بعد السلام.
وهذه الأقسام الثلاثة حكمها ظاهر؛ لأن الأدلة فيها خاصة.
الرابع: ما سوى ذلك فالأصل فيه استحباب رفع اليدين؛ لأن رفعهما من آداب الدعاء، وأسباب أجابته لما فيه من إظهار اللجوء إلى الله عز وجل والافتقار إليه، كما يشير إليه حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن الله طيب لا يقبل إلا طيب" وفيه "ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب، يا رب". الحديث (1) .
وكذلك حديث سلمان المرفوع: "إن الله حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً"(2) .
هذا ما تبين لي من السنة.
وأما ما ذكرتم من أنكم سمعتم أنه صدر مني فتوى في عدم مشروعية ذلك.
فهذا كذب علينا، إما عن سوء فهم من ناقله، أو سوء قصد منه، وما أكثر ما ينقل عن الناس من الأشياء المخالفة للواقع لهذين السببين، أو غيرهما، وكثير من الناس يصوغ السؤال للتعبير عما في نفسه، ويجيبه المسؤول بمقتضى ظاهر سؤاله المخالف لما في نفسه، فيفهم السائل الجواب عما في نفسه وينقله عن المسؤول
(1) رواه مسلم في الزكاة باب 19 – قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها 1/703 ح65 (1015) .
(2)
تقدم تخريجه ص256.
على حسب فهمه، وكثير من الناس يجاب فيفهم الجواب خطأ وينقله كذلك.
وأما قولكم أظنه قيل بعد السنة: فهذا الذي وقع منكم موقع الظن، وصغتموه بصيغة التمريض، هو الواقع فإنه ليس من السنة أن يعتاد الرجل كلما صلى تطوعاً رفع يديه يدعو الله عز وجل، حتى ليكاد يجعله من الواجب، كما يفعله كثير من العامة ويشعر في نفسه أنه في هذه الحال أقوى رجاء، وأكثر قرباً، وأشد إنابة إلى الله من دعائه في الصلاة.
بل السنة لمن أراد أن يدعو الله عز وجل من المصلين أن يكون دعاؤه قبل السلام مثل أن يجعله في السجود، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء فقمن أن يستجاب لكم"(1)، أو يجعله بعد التشهد قبل السلام لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود (2) – رضي الله عنه – حين علمه التشهد وقال:"ثم ليتخير من المسألة ما شاء"، أو قال:"ما أحب".
وكما أن الدعاء قبل السلام مقتضى ما دلت عليه السنة، فهو أيضاً مقتضى النظر الصحيح، فإن دعاء المصلي ربه حين مناجاته له أولى من دعائه إذا انصرف من صلاته، وانقطعت المناجاة.
وأما قولكم: ما دام الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة وأدبار الصلوات المكتوبة فلماذا لا ترفع الأيدي في هذه المواطن وغيرها؟
…
(1) رواه مسلم في الصلاة باب 41 – النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود 1/348 ح207 (479) وفي أوله زيادة عن الرؤيا الصالحة.
(2)
متفق عليه وهذا لفظ البخاري، وتقدم تخريجه في ص234.
فالدعاء بين الأذان والإقامة لا ينكر، ورفع اليدين فيه من القسم الرابع، ولكن الناس إذا صلوا النافلة بعد الأذان ثم دعوا لا يقصدون بذلك أنهم دعوا من أجل أن هذا وقت إجابة لكونه بين الأذان والإقامة، وإنما يدعون من أجل أنهم صلوا هذه النافلة ويدل على ذلك أمور:
الأول: أنهم يدعون بعد النافلة التي بعد الفريضة وليس هذا بين الأذان والإقامة.
الثاني: أنهم يدعون بهذا الدعاء أحياناً وإن لم يسلموا إلا بعد الإقامة كما نشاهدهم ويشاهدهم غيرنا وليس هذا بين الأذان والإقامة.
الثالث: أن الكثير منهم إذا دعا بعد الأذان بما يشرع الدعاء به كالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وسؤال الوسيلة له لا تكاد تراه يرفع يديه بل ربما أنكر على من رفع يديه في هذا الدعاء مع أن هذا من القسم الرابع فالله المستعان.
فقد اتخذوا الدعاء بعد النافلة سنة راتبة ربما يحافظ عليها محافظته على الواجب، مع أن ذلك لا أصل له من السنة، فالدعاء من حيث هو دعاء من العبادة، لكن ربطه بسبب معين يحافظ عليه عنده بدون دليل يجعله من البدع، فإن العبادة لا تتحقق فيها المتابعة إلا حيث توافق الشرع في ستة أمور: سببها، وجنسها، وقدرها، وكيفيتها، وزمانها، ومكانها.
وأما الدعاء أدبار الصلوات المكتوبة ففيه الاستغفار، فقد
كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر الله ثلاثاً (1) ، والاستغفار طلب المغفرة وهو دعاء لكن ظاهر السنة فيه عدم الرفع.
وفيه حديث أبي أمامه – رضي الله عنه – سئل أي الدعاء أسمع؟ قال: "جوف الليل ودبر الصلوات المكتوبة". أخرجه الترمذي (2) من طريق عبد الرحيم بن سابط، لكن قال في التقريب عن عبد الرحمن هذا: إنه كثير الإرسال. وقال ابن معين: إنه لم يسمع من أبي أمامة.
وعلى تقدير ثبوته لا يتعين أن يكون المراد بدبر الصلوات ما بعدها فقد يكون المراد به آخرها فيكون مجملاً يفسر بالأحاديث الدالة على أن آخر الصلاة موضع الدعاء كما في حديث ابن مسعود – رضي الله عنه – في التشهد (3) .
وفي صحيح مسلم 1/412 عن عائشة – رضي الله عنها – أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو في الصلاة: "اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات". (الحديث)(4) . والظاهر أن ذلك في آخر صلاته؛ لأن ذلك هو الموافق لما أمر به أمته حيث قال: "إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخر فيتعوذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب
(1) هذا جزء من حديث ثوبان رواه مسلم وتقدم تخريجه في ص252.
(2)
رواه في الدعوات باب 79 ح (3499) .
(3)
تقدم تخريجه في ص234.
(4)
متفق عليه، رواه البخاري في الأذان باب 149 – الدعاء قبل السلام (832) ، ورواه مسلم في المساجد باب 25 – ما يستعاذ منه في الصلاة 129 (589) .
القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر المسيح الدجال". أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه 1/412 (1) .
والظاهر أن المراد بدبر الصلوات المكتوبة (في حديث أبي أمامة إن صح) آخر الصلاة لأن دبر الصلاة إذا كان صالحاً لآخرها فتفسيره به أولى؛ لأن كلام الله ورسوله يفسر بعضه بعضاً.
والمتأمل في هذه المسألة يتبين له: أن ما قيد بدبر الصلاة إن كان ذكراً فهو بعدها، وإن كان دعاء فهو في آخرها.
أما الأول: فلأن الله تعالى جعل ما بعد الصلاة محلاً للذكر فقال تعالى: (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُم) وجاءت السنة مبينة لما أجمل في هذه الآية من الذكر مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين"(الحديث)(2) . فيحمل كل نص في الذكر مقيد بدبر الصلاة على ما بعدها ليطابق الآية الكريمة.
وأما الثاني: فلأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل ما بعد التشهد الأخير محلاً للدعاء كما في حديثي ابن مسعود، وأبي هريرة – رضي الله عنهما – فيحمل كل نص في الدعاء مقيد بدبر الصلاة على آخرها، ليكون الدعاء في المحل الذي أرشد النبي صلى الله عليه وسلم فيه، إلا أن يكون حمل النص على ذلك ممتنعاً، أو بعيداً بمقتضى السياق المعين فيحمل على ما يقتضيه السياق.
…
(1) رواه مسلم في الموضع السابق ح130 (588) .
(2)
متفق عليه وهو جزء من حديث أبي هريرة، رواه البخاري في الأذان باب الذكر بعد الصلاة (843) ، ومسلم في المساجد باب استحباب الذكر بعد الصلاة ح42 (595) .