الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
رسالة
من محمد الصالح العثيمين إلى الشيخ المكرم الفاضل حفظه الله تعالى
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
فإنه يسرني ما تقومون به من كتابات قيمة من الرسائل وما فوقها، أسأل الله تعالى أن ينفع بها، وأن يجعلنا وإياكم ممن دعا إلى الله على بصيرة.
ثم إنه وقع في يدي رسالة ألفتموها بعنوان: "........." وهي رسالة مفيدة إلا أنه استوقفني فيها مسائل:
الأولى: أن من ألفاظ التسوية للصف: "استقيموا" فهل ثبتت هذه عندكم بسنة، أو أثر، فإني أحب أن أتبين.
الثانية: قبض أصابع اليد اليمنى، والإشارة بالسبابة في الجلوس بين السجدتين كما في التشهدين، قلتم: إنه من الحركات الجديدة، وأن عمل المسلمين المتوارث على عدم الإشارة والتحريك بين السجدتين، وأن نسبة القول بالتحريك بين السجدتين إلى ابن القيم غلط عليه. أ. هـ.
مع أن حديث وائل بن حجر (1) الذي أخرجه الإمام أحمد في المسند 4/317 من طريق عبد الرزاق صريح في ذلك وسياقه: "
(1) راجع ص194.
رأيت النبي صلى الله عليه وسلم كبر فرفع يديه حين كبر - يعني استفتح الصلاة - ورفع يديه حين كبر، ورفع يديه حين قال سمع الله لمن حمده، وسجد فوضع يديه حذو أذنيه، ثم جلس فافترش رجله اليسرى، ثم وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى، ووضع ذراعه اليمنى على فخذه اليمنى، ثم أشار بسبابته ووضع الإبهام على الوسطى، وقبض سائر أصابعه، ثم سجد فكانت يداه حذاء أذنيه".
وأخرجه من حديث عبد الصمد قال: حدثنا زائدة، قال: حدثنا عاصم بن كليب، ثم تم السند إلى وائل أنه قال:"لأنظرن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يصلي" قال: "فنظرت إليه قام فكبر، ورفع يديه حتى حاذتا أذنيه، ثم وضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرسغ والساعد، ثم قال: لما أراد أن يركع رفع يديه مثلها، ووضع يديه على ركبتيه، ثم رفع رأسه فرفع يديه مثلها، ثم سجد فجعل كفيه بحذاء أذنيه، ثم قعد فافترش رجله اليسرى، فوضع كفه اليسرى على فخذه وركبته اليسرى، وجعل حد مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى، ثم قبض بين أصابعه، فحلق حلقة ثم رفع إصبعه فرأيته يحركها يدعو بها"(1) .
وهذا صريح في أن هذه القعدة هي القعدة التي بين السجدتين؛ لأنه قال: "ثم رفع رأسه، فرفع يديه مثلها ثم سجد، ثم قعد فافترش رجله اليسرى" إلخ، وهل هذه القعدة إلا قعدة ما بين السجدتين؟!
وأخرجه أيضاً من حديث أسود بن عامر قال: حدثنا زهير بن معاوية عن عاصم بن كليب به. ولفظه: أن وائل بن حجر قال: "
(1) راجع ص194.
قلت: لأنظرن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يصلي" وذكر الحديث، وفيه قال بعد ذكر الرفع من الركوع: "ثم سجد فوضع يديه حذاء أذنيه، ثم قعد فافترش رجله اليسرى، ووضع كفه اليسرى على ركبته اليسرى (فخذه في صفة عاصم) ثم وضع حد مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى، وقبض ثلاثاً، وحلق حلقة، ثم رأيته يقولك هكذا"، وأشار زهير بسبابته الأولى وقبض إصبعين، وحلق الإبهام على السبابة الثانية.
وظاهر هذا اللفظ أو صريحه كسابقيه في أن القبض والإشارة بين السجدتين كما في التشهدين، وعلى هذا فلا يصح توهيم عبد الرزاق بذكر السجود بعد هذه القعدة؛ لأن ذكره زيادة لا تنافي ما رواه غيره، بل توافقه كما علم.
ولم أعلم من السنة حديثاً واحداً فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبسط يده اليمنى حين يجلس بين السجدتين، ولا وجدت ذلك عن الصحابة.
وما رواه مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان إذا قعد في التشهد وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى، ووضع يده اليمنى على ركبته اليمنى وعقد ثلاثاً وخمسين وأشار بالسبابة"(1) .
فإنه لا ينافي حديث وائل ولا يبطله، لاختلاف الموضعين، على أن حديث ابن عمر رضي الله عنهما قد رواه مسلم بلفظ
(1) تقدم في ص192.
الإطلاق: "أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان إذا جلس في الصلاة وضع يديه على ركبتيه ورفع إصبعه اليمنى التي تلي الإبهام فدعا بها، ويده اليسرى على ركبته اليسرى باسطها عليها". وفي لفظ آخر:"وضع كفه اليمنى على فخذه اليمنى، وقبض أصابعه كلها، وأشار بإصبعه التي تلي الإبهام، ووضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى".
فقد روى مسلم هذا الحديث بثلاثة ألفاظ: اثنان مطلقان، والثالث مقيد بالتشهد، ولا منافاة أيضاً لدخول المقيد في المطلق، ولم يرد في السنة التفريق بين الجلوس بين السجدتين والتشهدين.
وأما ما ذكر فضيلتكم من أن القبض والتحريك ليس عليه عمل المسلمين المتوارث.
فقد راجعت ما تيسر لي من كتب الآثار فلم أجد عن الصحابة والتابعين ما يقتضي التفريق بين جلسات الصلاة، ثم لو فرض أن هناك آثاراً صحيحة عنهم فالأخذ بما دلت عليه السنة.
وقد قال البناء في ترتيب مسند الإمام أحمد 3/149 عن حديث وائل بن حجر: سنده جيد، وقال الأرناؤوط في حاشية زاد المعاد 1/238: سنده صحيح.
وأما قول فضيلتكم: إن نسبة القول بالتحري بين السجدتين إلى ابن القيم غلط عليه.
فإن كلام ابن القيم رحمه الله لا غبار عليه في ذلك، والنسبة إليه صحيحة وهذا نص عبارته: قال 1/322: ثم كان يكبر ويخر ساجداً ولا يرفع يديه، وساق كلاماً كثيراً ثم قال 1/338: فصل: ثم كان صلى الله عليه وسلم يرفع رأسه مكبراً غير رافع يديه، ويرفع من السجود رأسه
قبل يديه، ثم يجلس مفترشاً: يفرش رجله اليسرى ويجلس عليها، وينصب اليمنى، وذكر النسائي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: من سنة الصلاة أن ينصب القدم اليمنى، واستقباله بأصابعها القبلة، والجلوس على اليسرى، ولم يحفظ عنه في هذا الموضع جلسة غير هذه، وكان يضع يديه على فخذيه، ويجعل مرفقه على فخذه، وطرف يده على ركبته، ويقبض ثنتين من أصابعه ويحلق حلقة، ثم يرفع إصبعه يدعو بها، ويحركها هكذا قال وائل بن حجر عنه - إلى أن قال 239: ثم كان يقول (بين السجدتين) رب اغفر لي إلخ وكان هديه إطالة هذا الركن بقدر السجود، وهكذا الثابت عنه في جميع الأحاديث أهـ المقصود منه. - والمقوس عليه هو هكذا في الأصل وهو محذوف في طبعة أخرى -.
وهذا صريح في إثباته القبض والتحريك بين السجدتين؛ فإن قوله: "وكان يضع يديه على فخذيه"، إلخ إما أن يكون حاكماً به مستدلاً عليه بحديث وائل كما هو الظاهر من عبارته هنا، وفي كثير من عباراته كما قال هنا "ثم كان يقول بين السجدتين رب اغفر لي" إلخ، هكذا ذكره ابن عباس (1) رضي الله عنهما، وذكر حذيفة أنه كان يقول:"رب اغفر لي رب اغفر لي"(2) .
وإما أن يكون حاكياً له عن وائل مخبراً به عنه.
فإن كان حاكماً به مستدلاً عليه بقول وائل فنسبة القول به إليه واضحة.
وإن كان حاكياً مخبراً فمن البعيد أن يجزم به عن وائل، ثم
(1) و (2) راجع ص211.
يكون المراد به أن يتعقبه لأنه – أي وائلاً – صحابي عدل مقبول الخبر، فلا يمكن أن يجزم ابن القيم بما قاله بقصد تعقبه، وإنما يريد ابن القيم بقوله هذا دفع حديث أبي داود عن عبد الله بن الزبير – رضي الله عنهما – أنه كان يشير بإصبعه إذا دعا ولا يحركها حيث قال:"فهذه الزيادة في صحتها نظر" ثم قال عن ذلك: "وأيضاً فليس في حديث أبي داود أن هذا كان في الصلاة، وأيضاً لو كان في الصلاة لكان نافياً، وحديث وائل مثبتاً وهو مقدم حديث صحيح ذكره أبو حاتم في صحيحه" أهـ (1) .
وهذا واضح جداً بأدنى تأمل، وليس غرضي من كتابة هذا لفضيلتكم أن أواجهكم للقول به، فإن هذه مسألة من مسائل الاجتهاد التي من أصاب فيها فله أجران، ومن أخطأ فله واحد، وإنما غرضي أنه كلما أمكن تفادي توهيم الحفاظ فهو أولى، وكلما أمكن تفادي تغليط الناقل فهو أولى.
وقد تبين مما كتب أنه لا وهم في رواية عبد الرزاق، ولا غلط فيما نقل عن ابن القيم – رحم الله الجميع -.
هذا وقد ذكر فضيلتكم أن البيهقي – رحمه الله – أشار إلى ضعفها وترجيح حديث ابن عمر وابن الزبير – رضي الله عنهم – وهو إنما رجحهما من حيث قبض الأصابع كلها على التحليق بين الإبهام والوسطى؛ لأنه احتج بحديث عاصم في الباب الثاني مما بعده.
ثم إن البيهقي لما ذكر حديث وائل في التحليق قال: "ونحن نجيزه ونختار ما روينا في حديث ابن عمر ثم ما روينا في حديث ابن
(1) صحيح ابن حبان 5/170 (1860) .
الزبير". والضعيف لا يعمل به، ولا يظن بالبيهقي أن يجيز العمل به.
…
المسألة الثالثة: ذكر فضيلتكم مثالاً للترتيب الذكرى في حرف العطف (ثم) هو قوله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) وقلتم: ليست (ثم) للترتيب؛ لأن الاستواء على العرش قبل رفع السموات.
ومن المعلوم أن الأصل في ترتيب (ثم) أنه ذكري حكمي، ولا ينتقل عن هذا الأصل إلا بدليل.
ومن المعلوم أيضاً أن استواء الله تعالى على عرشه من صفاته الفعلية المتوقفة على الأدلة السمعية، ولم يبين الله لنا أنه كان مستوياً على عرشه قبل خلق السموات والأرض.
ومن المعلوم أن قوله تعالى:: (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) كقوله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْش) فإن السموات خلقت مرفوعة لقوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ* فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ) .
ومن المعلوم أن الواجب في نصوص الصفات القرآنية والحديثية إجراؤها على أصل الكلام وظاهره، وحينئذ لا يمكن الجزم بأن الاستواء على العرش كان قبل خلق السموات أو رفعها.
المسألة الرابعة: ما ترجمتم عنه بقولكم: التطبيق العملي الجديد لحديث عبد الله بن الزبير – رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قعد في الصلاة جعل قدمه اليسرى بين فخذه وساقه، وفرش
قدمه اليمنى"، رواه مسلم ص408 (1) والبيهقي 2/130 وابن خزيمة في صحيحه 1/345.
قال ابن القيم في زاد المعاد 1/243: ومعنى حديث ابن الزبير – رضي الله عنه – "أنه فرش قدمه اليمنى" أنه كان يجلس في هذا الجلوس على مقعدته، فتكون قدمه اليمنى مفروشة، وقدمه اليسرى بين فخذه وساقه ومقعدته على الأرض، وفي ص253 قال بعد ذكر هذا الحديث: وهذه هي الصفة التي اختارها أبو القاسم الخرقي في مختصره، وهذا مخالف للصفتين الأوليين في إخراج اليسرى من جانبه الأيمن وفي نصب اليمنى، ولعله كان يفعل هذا تارة، وهذا تارة، وهذا أظهر ويحتمل أن تكون من اختلاف الرواة. أهـ.
وهذا الحديث رواه مسلم بهذا اللفظ من طريق أبي هشام المخزومي، عن عبد الواحد بن زياد، وكذلك البيهقي، ورواه ابن خزيمة من طريق العلاء بن عبد الجبار عن عبد الواحد.
وقد رواه أبو داود (2) بلفظ: "جعل قدمه اليسرى تحت فخذه اليمنى وساقه وفرش قدمه اليمنى"، رواه من طريق عفان بن مسلم عن عبد الواحد.
ولا شك أن ما أخرجه ثلاثة حفاظ من طريقين أقرب إلى الصواب مما رواه حافظ من طريق واحد.
ولا شك أن معنى قوله "بين فخذه وساقه" غير معنى "تحت فخذه وساقه" ولا يمكن حمل البينة على التحت؛ لأن هذا تأباه اللغة
(1) ورقمه 112 (579) وتقدم في صفة الصلاة تحت عنوان: التشهد الثاني.
(2)
في الصلاة باب الإشارة في التشهد 1/603 ح (988) .
العربية وحينئذ الترجيح بما سبق، والله أعلم.
المسألة الخامسة: عقد التسبيح هل هو باليمين وحدها، أو باليدين جميعاً، وبناء على ما ذكر فضيلتكم من ألفاظ الحديث يتبين أنها لا تتنافى؛ فإن لفظ اليد مجمل، ولفظ اليمين مبين، فلفظ اليد صالح لليمين واليسار، فإذا بين أنها اليمين فلا اختلاف حتى نلجأ إلى الترجيح؛ لأنه لا يخفى أن الترجيح يعني إلغاء أحد اللفظين وفضيلتكم يعرف ما في هذا.
ولما كان هذا اللفظ ورد بالإفراد صار المتعين أن يكون بإحدى اليدين: إما اليمنى، وإما اليسرى، ولا يحمل على الثنتين إلا بدليل لأن الأصل أن ما كان بصيغة المفرد فهو فرد، ولو كان يعقد التسبيح بيديه لقالوا: بيديه، كما هو المعتاد حين يذكرون مثل ذلك كما في رفع اليدين للدعاء.
هذا ما أحببت كتابته فضيلتكم؛ لأن الواجب التعاون فيما يقرب إلى الله تعالى، وأرجو أن يكون ذلك منه، وأن يكون منكم عناية فيما كتبناه.
وفق الله الجميع لما يحب ويرضى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حرر في 3/7/1413هـ.
تم بحمد الله تعالى المجلد الثالث عشر
ويليه بمشيئة الله عز وجل
المجلد الرابع عشر