الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
افتتاحية الطبعة الثانية
الحمد لله الذي خلق فقدر، وخلق آدم من طين، وعيسى ابن مريم من غير أب ليكون حجة على العالمين. فيثبت أن الخلق بالإرادة لا بالعلية، فتبارك الله أحسن الخالقين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وسائر النبيين، المبعوثين رحمة للناس أجمعين.
أما بعد، فقد جاء في صحيح البخاري عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال:
ثلاثة لهم أجران: "رجل من أهل الكتب آمن بنبيه وآمن بمحمد، والعبد المملوك إذا أدى حق الله وحق مواليه. ورجل كانت عنده أمه فأدبها فأحسن تأديبها، وعلمها فأحسن تعليمها، ثم أعتقها فتزوجها فله أجران".
ويقبس من هذا الروح السمح كتبنا كتاب محاضرات في النصرانية، نرجو به مع إحقاق الحق الهداية، لا نهاجم اعتقاداً، ولا نبطل عقيدة، بل ننير السبيل ونضع المصباح أمام الجادة فيسلكها من يريد الرشاد، ومن يرجو السداد، ولكننا في عصر فهم الناس فيه الدين منزعاً جنسياً، ولم يفهموه حقاً اعتقادياً، ولا تهذيباً نفسياً، ولا خلاصاً روحياً، فكان ذلك حاجزا دون أن تصل الهداية إلى القلوب، ولن تشرق النفوس بنور الحق.
وقد كلن الناس في الماضي يوجد من بينهم من يقول {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} أما الآن بالناس جميعاً غلقوا على أنفسهم باب النور باعتبارهم الدين جنسا، والاستمساك به من القومية أو ما يشابهها، فيكون العار على من خالف، وإن كانوا يعلمون أن فيما يعتقدون ما ليس بمفهوم.
وبسبب هذه النزعة الجنسية في التدين ظهر نقد لكتابي هذا من بعض بني وطني غير المسلمين، وكنت (علم الله) مستريحاً لظهوره، فجمعت
النقد، وشكرت الناقد، وتغاضيت عن عبارات نالني بها، لأنها من فلتات القلم، ولقد أخذت أدرس ذلك النقد حرفاً حرفاً، لأصحح به خطأ جرى في الكتاب، أو سوء تفسير فسرناه، أو تخريجاً بعيداً عن المعنى خرجناه.
ولكني وجدت النقد خالياً من ذلك في جملته، بل هو مهاجمة لقصد الكتاب، يثير اعتبار الدين جنسا، ويدفعه التعصب الشديد، ويحاول توهين المكتوب، حتى أنه في سبيل ذلك يعتبر الكرم المقيد بوصف متناقضا، والمعلق على شرط متضاربا، لأن صدر الكلام غير الوصف، ومقدم القضية الشرطية غير تاليها، وإن كان في النقد ما يفيد أنه أثبت أن بعض أخواننا نألم من عبارات جاءت في كتابنا. فغيرناها إن لم يكن في التغيير ما يمس الجوهر، ويفسد المعنى.
وقد كنا بسبب التألم نحجم من إعادة طبع الكتاب، مع الإلحاف من الكثيرين وبعضهم من إخواننا المسيحيين، وأحجمنا عن ذلك نحو ست سنوات، ولكن اشتد الطلب من البلاد الشرقية والمصرية، وزكوا الطلب بأنه لا يليق أن تحول الاعتبارات النفسية دون ظهور ثمرات الفكر، وإن عند إخواننا من سعة الصدر ما يتسع لذلك. وخصوصاً أن الكتاب معروف في أمريكا وأوربا والهند، فقد ترجم إلى الإنجليزية. ولخصته بعض المجلات الأمريكية تلخيصاً كاملاً، وترجم إلى الفرنسية والأردية.
فماذا كانت هذه الأمم المسيحية تطوع بعض المسيحيين فيها بترجمته تسجيلاً للآثار العلمية. وإن خالفوها - فإنه من نقص الحرية الفكرية في مصر أن يضيق صدر بعض أبنائها حرجاً بإعادة طبع كتاب سجله المسيحيون في لغاتهم.
لهذا أقدمت على إعادة طبع الكتاب بعد طول الأحجام، راجياً من المولى جلت قدرته الهداية والتوفيق والسداد، إنه نعم المولى ونعم النصير.
محمد أبو زهرة
9 من رجب المحرم سنة 1368
الموافق 4 من مايو سنة 1949