الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قيمة إنجيل برنابا من حيث ما أشتمل عليه:
42-
وإنجيل برنابا هذا يمتاز بقوة التصوير، وسمو التفكير، والحكمة الواسعة، والدقة البارعة، والعبارة المحكمة، والمعنى المنسجم، حتى إنه لو لم يكن كتاب دين لكان في الأدب والحكمة من الدرجة الأولى، لسمو العبارة وبراعة التصوير.
ولماذا أنكره المسيحيون مع أن قوة النسبة فيه لا تقل عن قوة النسبة في كتبهم الأربعة كما ذكرنا، إن لم تكن أقوى؟ الجواب عن ذلك أن المسيحيين رفضوه لأنه خالف أناجيلهم ورسائلهم في مسائل جوهرية في العقيدة.
ولقد كنا نظن أن ظهور ذلك الإنجيل كان يحمل الكنيسة على التفكير من جديد في مصادر الدين، لتعرف أي الكتب أقرب نسياً بالمسيحية الأولى، أذلك الإنجيل بما خالف، أم الرسائل والأناجيل التي توارثتها؟ ولكنهم سارعوا إلى الرفض والإنكار. كما سبق أسلافهم إلى إنكاره من قبل.
مخالفة إنجيل برنابا لما عليه المسيحيون:
والأمور التي خالف ذلك الإنجيل فيها ما عليه المسيحيون الآن تتلخص في أربعة أمور:
أولها: إنه لم يعتبر المسيح ابن الله، ولم يعتبره إلهاً، وقد ذكر ذلك في مقدمته فقال:"أيها الأعزاء أن الله العظيم العجيب قد افتقدنا في هذه الأيام بنبيه يسوع المسيح برحمة عظيمة للتعليم، والآيات التي اتخذها الشيطان ذريعة لتضليل كثيرين بدعوى التقوى، مبشرين بتعليم شديد الكفر. داعين المسيح ابن الله، ورافضين الختان لذي أمر به الله به دائماً، مجوزين كل لحم نجس، الذين ضل في عدادهم أيضاً بولس الذي لا أتكلم عنه إلا مع الأسى وهو السبب الذي لأجله اسطر ذلك الحق الذي رأيته".
ويقول في آخر الفصل الثالث والتسعين: "أجاب الكاهن أن اليهودية قد اضطربت لآياتك وتعليمك حتى أنهم يجاهرون بأنك أنت الله، فاضطررت بسبب الشعب إلى أن آتي إلى هنا مع الوالي الروماني والملك هيرودس فنرجو من كل قلبنا أن ترضى بإزالة الفتنة التي ثارت بسببك، لأن فريقاً يقول إنك الله. وآخر يقول إنك ابن الله، ويقول فريق إنك نبي. أجاب
يسوع: "وأنت يا رئيس الكهنة. لماذا لم تخمد الفتنة، وهل جننت أنت أيضاً، وهل أمست النبوات، وشريعة الله نسياً منسياً، أيتها اليهودية الشقية التي ضللها الشيطان" ولما قال يسوع هذا عاد فقال: "أني أشهد أمام السماء، وأشهد كل ساكن على الأرض إني برئ من كل ما قال الناس عني من أني أعظم من بشر، لأني بشر مولود من امرأة، وعرضه لحكم الله، أعيش كسائر البشر، عرضه للشقاء العام".
ويقول في الفصل السبعين: "أجاب يسوع: وما قولكم أنت في؟ أجاب بطرس: إنك المسيح ابن الله. فغضب حينئذ يسوع. وانتهره بغضب قائلاً: أذهب. وانصرف عني. لأنك أنت الشيطان، وتريد أن تسئ إلى".
(الأمر الثاني) : أن الذبيح الذي تقدم به إبراهيم الخليل عليه السلام للفداء هو إسماعيل، وليس بإسحق، كما هو مذكور في التوراة، وكما يعتقد المسيحيون. هذا نص ما جاء في إنجيل برنابا على لسان المسيح عليه السلام:"الحق أقول لكم إنكم إذا أمعنتم النظر في كلام الملاك جبريل تعلموا خبث كتبنا وفقهائنا، لأن الملاك قال: "يا إبراهيم. سيعلم العالم كله كيف يحبك الله ولكن كيف يعلم العالم محبتك لله. حقاً يجب عليك أن تفعل شيئاً لأجل محبة الله. أجاب إبراهيم: ها هو ذا عبد الله مستعد أن يفعل كل ما يريد الله، فكلم الله حينئذ إبراهيم قائلاً:"خذ ابنك بكرك واصعد الجبل لتقدمه ذبيحة". فكيف يكون إسحق البكر، وهو لما ولد كان إسماعيل ابن سبع سنين.
(الأمر الثالث) : هو كما يقال الدكتور سعادة "بك": أن مسيا أو المسيح المنتظر ليس هو يسوع، بل محمد. وقد ذكر محمداً باللفظ الصريح المتكرر في فصول ضافية الذيول، وقال أنه رسول الله، وإن آدم لما طرد من الجنة رأى سطوراً كتبت فوق بابها بأحرف من نور "لا إله إلا الله محمد رسول الله" ولقد قال المسيح كما جاء في إنجيل برنابا:"أن الآيات التي يفعلها الله على يدي تظهر إني أتكلم بما يريد الله، ولست لحسب نفسي نظير الذي تقولون عنه، لأني لست أهلاً لأن أحل رباطات، أو سيور حذاء رسول الله الذي تسمونه مسياً الذي خلق قبلي. وسيأتي بعدي بكلام الحق. ولا يكون لدينه نهاية" وإنك لتجد في الفصلين الثالث
والأربعين والرابع والأربعين كلاماً وافياً في التبشير بمحمد صلى الله عليه وسلم لأن التلاميذ طلبوا من المسيح عليه السلام أن يصرح لهم به. فصرح بما يطن حقيقته، ويبين ما له من شأن.
(الأمر الرابع) : أن هذا الإنجيل يبين أن المسيح عليه السلام لم يصلب، ولكن شبه لهم. فألقى الله شبهه على يهوذا الأسخريوطي، ويقول في ذلك برنابا:"الحق أقول أن صوت يهوذا، ووجهه، وشخصه بلغت من الشبه بيسوع أن أعتقد تلاميذه والمؤمنون به كافة إنه يسوع، كذلك خرج بعضهم من تعاليم يسوع، معتقدين أن يسوع كان نبياً كاذباً، وإنما الآيات التي فعلها بصناعة السحر، لأن يسوع قال إنه لا يموت إلى وشك انقضاء العالم، لأنه سيؤخذ في ذلك الوقت من العالم".
ثم يبين أن يسوع طلب إلى الله أن ينزل إلى الأرض بعد رفعه ليرى أمه وتلاميذه، فنزل ثلاثة أيام.
ثم يقول: "ووبخ كثيرين ممن اعتقدوا إنه مات" وقام قائلاً: "أتحسبونني أنا والله كاذبون، لأن الله وهبني أن أعيش، حتى قبيل انقضاء العالم، كما قد قلت لكم، الحق أقول لكم إني لم أمت، بل يهوذا الخائن، احذروا، لأن الشيطان سيحاول جهده أن يخدعكم، ولكن كونوا شهودي في كل إسرائيل، وفي العالم كله، لكل الأشياء التي رأيتموها وسمعتموها".
43-
هذا هو إنجيل برنابا، وما خالف فيه بقية الأناجيل من مسائل جوهرية، وفي الحق إنه خالف المسيحية القائمة في خصائصها التي امتازت بها فإن تلك المسيحية امتازت بالتثليث، وبنوة المسيح وألوهيته، وكان هذا شعارها الذي بها تعرف، وعلامتها التي بها تتميز، وقد خالف كل هذا، وإذا كانت مخالفته للمسيحية القائمة في ذلك الأمر الجوهري ثابتة - وهو ينسب إلى قديس من قديسيهم - فقد كان من الحق إذن أن يحدث ظهوره وكشفه بين ظهراني المسيحيين في مكاتب من لا يتهمون بالكيد للمسيحية، ومن لا يتهمون بأنهم لا يرجون لها وقاراً - رجة فكرية عنيفة، اهتزت بسببها المشاعر والمنازع، فالكنيسة والمتعصبون من المسيحيين يرفضونه رفضاً باتاً، مادام قد أتى بما لا يعرفونه هم،
ولا يعنون أنفسهم بدراسته دراسة علمية، ينتهون فيها إلى نقضه جملة، أو تبوله جملة، أو قبول بعضه، ورفض بعضه الذي يثبت بالدليل أن فيه مخالفة لتعاليم المسيح الصحيحة الثابتة بسند أقوى من سنده، ومتنها أقرب إلى العقل والفكر من متنه.
ولكن العلماء الذين دأبهم التنقيب والبحث عكفوا على دراسته، وموازنة نصوصه بالتوراة والأناجيل ورسائل رسلهم، بل القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، وانتهت دراسة جلهم بأنه بعيد أ، يكون قد استقى من القرآن الكريم، ومما هو مشهور عند المسلمين.
وإن أجل خدمة تسدى إلى الأديان والإنسانية، أن تعني الكنيسة بدراسته، ونقضه، وتأتي لنا بالبينات الدالة على هذا النقض، وتوازن بين ما جاء فيه وما جاء في رسائل بولس، ليعرف القارئ والباحث أيهما أهدى سبيلاً، وأقرب إلى الحق، وأوثق به اتصالاً.