الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويَحْسنُ بالداعي أن يدعو بدعاء الراسخين في العلم؛ لأنه سبحانه حينما أثنى عليهم ذكر دعوتهم: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8]، فتوسلوا إلى الله بربوبيته أن يمنحهم استقامة القلوب وثباتها على مراضي الله، وحفظها من الزيغ، والنكوص عن الهداية
(1)
.
(سابعًا:
استحضار مِنَّة الله وفضله:
إن طالب العلم الموفق هو من يديم استحضار مشاهد مِنَنِ ربه عليه، التي لا يحصيها كتاب ولا يعدها عاد؛ لأنها قد طوقت المؤمن طوقًا يملأ الأرض والسماء، فهو الذي أفاض عليه نعمًا أعلاها نعمة الاهتداء التي يعجز اللسان عن الوفاء بقدرها، إذ أخرجه ربه بها من ظلمة الضلال إلى نور الهداية وفسيح الإيمان، «يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ»
(2)
.
لذا عتب الله على من غفل عن مشاهدة مننه، فقال:{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} [الحجرات:17].
إنها التربية القرآنية التي تُجرد القلب من الاستعلاء وتمحو عنه مسارب الإدلال، وتملؤه إجلالًا لله واعترافًا بفضله ومنته، كما فقه ذلك أولو العزم والفضل من أمثال عمر رضي الله عنه حينما طُعن وقال له عبدالله بن عباس رضي الله عنها مواسيًا: «يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، وَلَئِنْ كَانَ ذَاكَ، لَقَدْ صَحِبْتَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فَأَحْسَنْتَ صُحْبَتَهُ، ثُمَّ فَارَقْتَهُ وَهُوَ عَنْكَ رَاضٍ، ثُمَّ صَحِبْتَ أَبَا بَكْرٍ فَأَحْسَنْتَ صُحْبَتَهُ،
(1)
ينظر: المواهب الربانية من الآيات القرآنية للسعدي ص (56 - 58).
(2)
أخرجه مسلم (4/ 1994) رقم (2577) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
ثُمَّ فَارَقْتَهُ وَهُوَ عَنْكَ رَاضٍ، ثُمَّ صَحِبْتَهُمْ فَأَحْسَنْتَ صُحْبَتَهُمْ، وَلَئِنْ فَارَقْتَهُمْ لَتُفَارِقَنَّهُمْ وَهُمْ عَنْكَ رَاضُونَ»، قال: «أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ صُحْبَةِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَرِضَاهُ، فَإِنَّمَا ذَاكَ مَنٌّ مِنَ الله تَعَالَى مَنَّ بِهِ عَلَيَّ، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ صُحْبَةِ أَبِي بَكْرٍ وَرِضَاهُ، فَإِنَّمَا ذَاكَ مَنٌّ مِنَ الله جَلَّ ذِكْرُهُ مَنَّ بِهِ عَلَيَّ، وَأَمَّا مَا تَرَى مِنْ جَزَعِي فَهُوَ مِنْ أَجْلِكَ وَأَجْلِ أَصْحَابِكَ، وَالله لَوْ أَنَّ لِي طِلَاعَ الأَرْضِ
(1)
ذَهَبًا لَافْتَدَيْتُ بِهِ مِنْ عَذَابِ الله عز وجل، قَبْلَ أَنْ أَرَاهُ»
(2)
.
إن استحضار العبد لمنة الله عليه يزيل من القلب غبش العُجب، ويغسله من درن الإدلال، ويطهره من الدنس ليكون وعاءً نظيفًا يتزكى بالإيمان ويرتفع بأعمال القلوب، وينتفع بأعمال الجوارح، أما إذا وُجدت هذه الأعمال مع شوائب العجب والإدلال بالعمل، فإنها تسحق قلب صاحبها سحقًا، فلا تبقي فيه خيرًا ولا تذر، قال الله تعالى في الحديث القدسي عن من أدلَّ بعمله:«قَدْ غَفَرْتُ لِفُلانٍ، وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ»
(3)
.
فأوقد يا طالب العلم في ذهنك شرارة الشعور بمنة الله وتزكيته لك، {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور:21].
(1)
أي: ما يَمْلؤُها حتَّى يَطْلُعَ عنها ويَسِيل. ينظر: النهاية في غريب الحديث (3/ 133).
(2)
أخرجه البخاري (5/ 12) رقم (3692) من حديث المسور بن مخرمة رضي الله عنه.
(3)
أخرجه مسلم (4/ 2023) رقم (2621) من حديث جندب رضي الله عنه.