الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعليق على الآية وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً والآية التالية لها
لقد روى الطبري في سياق تفسير الآيتين عن سعيد بن جبير من علماء التابعين أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم «إن سرّك أن نؤمن بك ونصدّقك فادع ربّك أن يكون جبل الصّفا ذهبا. فأوحى الله إليه إن شئت أن نفعل الذي قالوا فإن لم يؤمنوا نزل العقاب فإنّه ليس بعد إظهار المعجزة مناظرة إن لم يؤمنوا وإن شئت استأنيت بهم قال يا ربّ استأن» .
والرواية لم ترد في كتب الصحاح، ووحدة السبك بين الآيتين والآيات السابقة واللاحقة والصلة الملموحة بين الآيتين وما سبقهما حيث انتهت الآيات السابقة بالتخويف من عذاب الله وجاءت الآيتان على أثرها تؤكدان قدرة الله على إيقاع هذا العذاب، كل هذا يجعلنا نرجح أن الآيات سياق متصل وأن الآيتين لم تنزلا في مناسبة ما طلبه المشركون من النبي صلى الله عليه وسلم ولا تنفي بهذا ما ترويه الرواية من مطلب المشركين التعجيزي. ومن المحتمل أن يكون قد وقع منهم في ظروف نزول السورة، ولقد كان الكفار ينكرون البعث ويستهترون بما ينذره القرآن بإنزال العذاب، ويتحدون النبي صلى الله عليه وسلم بالتعجيل به مما حكته عنهم آيات عديدة مرّت أمثلة منها في السور التي فسرناها قبل. ومن المحتمل أن يكون هذا أيضا قد تكرر منهم في ظرف نزول السورة فاقتضت حكمة التنزيل أن تتضمن الآيتان الرد عليهم في الأمرين في سياق ذكر مواقفهم والتنديد بها. وقد انطوى في الردّ الأول إيذان بأن هلاك السامعين أمر محتم لأنه سنة ربانية عامة.
وفي هذا الردّ تسلية وتطمين للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وإنذار للكافرين، فلا محل ليأس الأولين أو فرح الآخرين، إذا ما تأخر ذلك وقتا ما.
وانطوى في الردّ الثاني تعليل لعدم إظهار الآيات على يد النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
وهو أن الله إنما يرسل الآيات للتخويف، وقد ظهر من التجارب السابقة أن ذلك لم يجد، ولم يؤد إلى نتيجة إيجابية، وفي هذا إيذان قرآني بأن المعجزات التي كان الله يظهرها على أيدي رسله السابقين لم تكن للإقناع بصحة رسالة الرسل بالذات. وبأن حكمة الله تعالى اقتضت أن لا تظهر معجزة على يد النبي محمد صلى الله عليه وسلم استجابة لطلب الكفار لأنها لن تؤدي إلى نتيجة إيجابية. وهذا المعنى قد جاء صريحا في آيات سورة الأنعام [109- 111] وآية سورة الرعد [31] ويلمح في هذا أن المعجزة ليست ضرورية لإقناع الكفار بصحة الدعوة التي يدعو إليها رسول الله لأنها دعوة إلى توحيد الله عز وجل ومكارم الأخلاق الضامنة لسعادة الدارين واجتناب الشرك والفواحش مما لا ضرورة لإثبات صوابها وصحتها إلى معجزة خارقة، والقرآن الذي احتوى مبادئ هذه الدعوة هو آية الله العظمى ويهدي للتي هو أقوم كما جاء في آية سابقة في هذه السورة. وجاء هذا في آيات سورة العنكبوت هذه صريحا قويا وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) حيث قررت أن في القرآن الغناء والكفاية والرحمة والذكرى لمن يرغب حقا في الإيمان والهدى.
وعلى ضوء رواية سعيد بن جبير وآيات أخرى مرّت أمثلة منها في سورتي الشمس والقمر آيات الشمس [10- 15] وآيات القمر [22- 31] ذكرت أن الله قد أهلك ثمود حينما كفروا وعقروا الناقة من جهة أخرى قد يكون انطوى في الرد القرآني المنطوي في الآية الثانية من الآيتين موضوع التعليق إيذان بأن حكمة الله قد اقتضت تأجيل إهلاك كفار العرب بالعذاب الدنيوي كما جرى لأمثالهم ليكون لهم مهلة أخرى قد يرعوون فيها. ولقد تكرر الإيذان بهذه الحكمة في آيات أخرى مرّت أمثلة منها الآية [45] من سورة فاطر. ولقد ظهرت آثار حكمة الله ومصداقها في ما كان من ارعواء كثير من الذين كفروا بالرسالة المحمدية وناوأوها في بدء الأمر.