الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القادر على كل شيء، ويعتبرون الشركاء الذين كانوا يشركونهم معه في الدعاء والعبادة شفعاء ووسائل زلفى لديه.
ومعظم الآيات التي نددت بعقائد العرب تضمنت هذه الصورة أيضا بوجه عام، وقد مرّت أمثلة عديدة من ذلك بحيث يمكن أن يقال إن هذه العقيدة كانت هي العامة عندهم.
والرد الذي ردت به الآية هنا وفي المناسبات الأخرى انطوى على تسفيه عبادة غير الله والاتجاه إلى غير الله ولو بقصد الاستشفاع والتوسط، وعلى تقرير كون ذلك شركا، وفي هذا تلقين مستمر المدى في صدد عقيدة التوحيد الإسلامية التي لا تتحمل أي ملابسة أو تأويل أو شائبة مهما أريد تهوينها وتخفيفها ومهما كانت صفة الشفعاء وماهياتهم بحيث يصح أن يقال إنها أنقى من أي ديانة أخرى.
[سورة يونس (10) : آية 19]
وَما كانَ النَّاسُ إِلَاّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)
.
تعليق على جملة وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا
تعددت الأقوال في معنى الأمة الواحدة واختلاف الناس. فهناك من أوّل الأمة بالملّة على معنى الدين وقال إن في الآية تقريرا بأن الناس قد فطروا على فطرة واحدة هي الإسلام لله والتوحيد ابتداء من آدم. فمنهم من يستقيم على هذه الفطرة ومنهم من ينحرف عنها وهذا هو معنى اختلافهم «1» . وفي القرآن آيات قد تؤيد ذلك منها آية سورة الروم هذه: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30) والحنيف هو الموحد المستقيم على التوحيد وهو الوصف الذي
(1) انظر تفسيرها وتفسير آية البقرة 213 في تفسير ابن كثير والطبرسي والبغوي مثلا.
وصف به إبراهيم عليه السلام في آيات كثيرة منها هذه الآية: ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) آل عمران [67] وقد وصفت ملة الأنبياء بالأمة الواحدة كما جاء في آية سورة الأنبياء هذه: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) بعد سلسلة ذكر فيها طائفة من الأنبياء ونوّه بما كان من إخلاصهم وإسلامهم أنفسهم لله. وجاء بعد هذه الآية آية تشير إلى اختلاف الناس في الطريقة الدينية بعد كل نبي وهي هذه: وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (93) . وفي سورة المؤمنون آيات مماثلة جاءت في أعقاب سلسلة مماثلة وهي: وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) .
ومن المفسرين من أوّل ذلك أيضا بالملة الدينية مع تحديد ملة إبراهيم عليه السلام الحنيفية وقال إن العرب كانوا في الأصل على هذه الملة فانحرفوا عنها إلى الشرك والوثنية وهو معنى الاختلاف «1» .
ومنهم «2» من أوّل معنى الأمة الواحدة واختلاف الناس بفطرة ارتباط الناس ببعضهم وحياتهم الاجتماعية، فهم من هذه الناحية أمة واحدة.
واختلافهم في مختلف الشؤون الدينية وغير الدينية طبيعي تبعا لما بينهم من تفاوت في القوى العقلية والدينية. واستشهد على ذلك بآية سورة البقرة هذه: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) مع أن الاختلاف المذكور في الآية هو الاختلاف في الدين على ما تلهمه روحها.
(1) المصادر السابقة.
(2)
انظر تفسير الآيتين المذكورتين في تفسير المنار للسيد رشيد رضا.
والذي نرجحه على ضوء آيات سورة الروم والأنبياء والمؤمنون أن الآية هي بسبيل تقرير وحدة الفطرة بالنسبة لجميع البشر، وأن المقصود بالآية هو الملة الدينية حيث يكون المراد من ذلك أن فطرة الاستشعار بوجود الله عز وجل الواحد المدبر الخالق الأزلي الأبدي المحيط بكل شيء المتصرف بكل شيء وبوجوب إسلام النفس إليه هي الأصل في جميع البشر على اختلافهم. وأن ما هم عليه من انحراف عن هذا الأصل هو طارئ نتيجة لاختلاف أهوائهم وماربهم وحوافزهم، وآية سورة البقرة تدعم هذا أكثر مما تدعم الرأي الثالث.
ومن واجب المسلم أن يؤمن بهذه الحقيقة التي يقررها القرآن في الآية التي نحن في صددها وفي الآيات الأخرى التي أوردناها.
على أنه يتبادر لنا في الوقت نفسه أن في الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عن موقف الكفار الجحودي الذي حكته الآيات السابقة. فكأنها تريد التنبيه على أن موقفهم هذا ليس بدعا فقد كان ممن قبلهم تجاه رسلهم أيضا. وأن الله قادر على الانتقام منهم لولا أن حكمته اقتضت تأجيل ذلك إلى أجل معين عنده وقد تكرر مثل هذا الأسلوب من التسلية في مواقف مماثلة مرت أمثلة منه.
على أن من المحتمل مع ذلك أن تكون الآية نزلت ردا على استغراب بدا من الكفار في سياق الجدل والنقاش، حيث يمكن أن يكونوا قالوا إنه كان في إمكان الله تعالى إذا صحت دعوى النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل الناس جميعا على طريقة واحدة لا يختلفون فيها، فأريد بها تقرير أن ذلك في نطاق قدرة الله حقا وأن الناس يفطرون على فطرة واحدة أو كانوا على فطرة واحدة وأن اختلافهم إنما طرأ طروءا نتيجة لتباينهم في الأفكار والأخلاق والقوى، وأن حكمة الله تعالى اقتضت أن يتركوا أحرارا في التفكير والاختيار بعد أن يبين لهم رسله طريق الهدى وطريق الضلال، ويدعوهم إلى سلوك الأولى واجتناب الأخرى ليستحق كل منهم ما يستحقه بعدل وحق، وأن يؤجل قضاءه فيهم إلى أجل معين في علمه، وأن ذلك هو سبب استمرار اختلافهم.