الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعليق على جملة وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً
ولقد تعددت الأقوال والتأويلات في جملة وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ منها أن الله ابتلى المرسلين بالمرسل إليهم وبمناصبتهم العداء ونيلهم بأنواع الأذى وطلب منهم الصبر الجميل، وسيق لتأييد هذا القول حديث ورد في صحيح مسلم جاء فيه:«يقول الله تعالى إنّي مبتليك ومبتل بك» ومنها أن الله جعل الأغنياء فتنة للفقراء، أو الزعماء فتنة للضعفاء لينظر هل يصبر الناس على حكمته في إغناء أناس وإفقار أناس أو جعل أناس أقوياء وآخرين ضعفاء. ومنها أن الجملة نزلت في أبي جهل وأصحاب له من زعماء قريش إذ قالوا حينما رأوا أن الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم من الفقراء والأرقّاء ساخرين: كيف نؤمن بمحمد ونجلس معه مع هؤلاء، أو انظروا إلى هؤلاء الذين اتّبعوا محمدا وهم موالينا وأراذلنا «1» .
وعلى كل حال فالجملة احتوت تقريرا لحكمة من حكم الله وهي جعله بعض الناس وسيلة لامتحان واختبار البعض الآخر ليرى من منهم الصابر على الابتلاء، الناجح عند الاختبار وينطوي في ذلك تقرير كون الله سبحانه وتعالى يفعل ذلك لاختبار الناس في صبرهم على الابتلاء واستعمال قابلياتهم للتمييز بين الخير والشرّ والهدى والضلال والطيب والخبيث لتقوم الحجة عليهم من أعمالهم واختيارهم.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 21 الى 29]
وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (22) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (24) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (25)
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (29)
(1) انظر تفسير الآيات في ابن كثير والخازن والطبرسي والطبري والزمخشري.
(1)
لا يرجون لقاءنا: هنا بمعنى لا يعتقدون بالبعث ولا يخافونه.
(2)
عتوا: تمردوا.
(3)
حجرا محجورا: أصل كلمة الحجر السدّ أو المنع أو التحريم. والجملة من تعابير العرب ومعناها حراما محرما. وكانوا يقولونها إذا لقي أحد منهم غريمه في الأشهر الحرم يعنون أن دمهم محرّم فيها. ومعنى الآية التي فيها التعبير أن الكافرين يوم يرون الملائكة لا يسمعون بشرى منهم ويقولون لهم إن البشرى والجنة عليكم حرام محرم أو أنهم حينما لا يسمعون بشرى وترحيبا من الملائكة يقولون الجملة بقصد الاستعاذة بهم وطلب الامتناع عن سوقهم إلى العذاب.
(4)
مقيلا: منزلا أو مقاما.
(5)
تشقّق السماء بالغمام ونزّل الملائكة تنزيلا: تتشقق وتنفرج عن الغمام فينزل الملائكة.
في الآيات حكاية لأقوال ومواقف أخرى للكفار وردود ووعيد رباني، وتصوير لما سوف يلقونه يوم القيامة. وهي متصلة بالسياق السابق واستمرار له كما هو واضح.
وأسلوب الآية الأولى يلهم أن اقتراح الكفار- الذين ينكرون البعث- استنزال الملائكة أو تمكينهم من رؤية الله كان من باب التحدي والتعجيز مع الإنكار والاستهزاء. والآيات التالية ردّ مقابل لذلك، فإنهم سوف يرون الملائكة حيث يتشقّق عنهم الغمام فينزلون من السماء ولكن يوم نزولهم ورؤياهم لهم يكون هو اليوم الموعود الذي يكون فيه المجرمون في شرّ حال بينما يكون المؤمنون أصحاب الجنة في خير حال. ولن يكون للمجرمين فيه بشرى ولا أمل، ويهتف
بهم الملائكة أن كل ذلك حرام عليكم، وسيرون الله قد أحبط جميع أعمالهم في الدنيا فذهبت هباء منثورا لا فائدة لهم منها. وسيتحققون حينئذ أن الملك الحق لله وحده سبحانه وسيلقى الظالم من شدة ذلك اليوم وعسره ما يجعله يعضّ بنان الندم ويتمنى أن لو استجاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ووصل نفسه به وقدّم معه اليد التي تنفعه أو لو لم يكن اتخذ فلانا خليلا حيث أضلّه عن الحق وجعله يغفل عن ذكر الله ويتصامم عن الدعوة إليه. وقد انتهت الآيات بتذكير رباني بأن الشيطان إنما شأنه أن يخذل الإنسان ويتنصل منه بعد أن يكون قد أضلّه وأغواه.
والآيات قوية التصوير والوعيد. من شأنها أن تثير الهلع في المكذبين والرهبة في السامعين وتحملهم على الارعواء والتدبّر وهم في متسع من الوقت وفيها في الوقت ذاته بشرى وتطمين للمسلمين. وكلّ هذا مما استهدفته على ما هو المتبادر.
وقد روى المفسرون «1» أن آية وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ إلخ نزلت في عقبة بن أبي معيط الذي أسلم فلما أنّبه أميّة بن خلف وهدّده ارتدّ واشتدّ في أذى النبي صلى الله عليه وسلم حتى إنه ألقى روثا عليه وهو يصلّي، وأن (فلانا) المذكور في الآية التي بعدها عنت أمية. وقد يكون وقوع الحادث صحيحا، غير أن انسجام الآيات وتسلسلها يلهمان أنها بسبيل وعيد الكفار المكذبين بالبعث والتنديد بهم بصورة عامة، ومن المحتمل أنها نزلت في الظرف الذي وقع فيه الحادث المذكور آنفا فروى الرواة أنها نزلت بسببه.
وتعبير الشَّيْطانُ يطلق على إبليس كما يطلق على البغاة العتاة المضلّين من الناس على ما تفيده آية الأنعام هذه: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (112) والكلمة في الآية الأخيرة تحتمل أن يكون المقصود فيها إبليس كما تحتمل أن يكون المقصود هو الشخص المضلّ الذي اتّخذه الضالّ خليلا فأضلّه
(1) انظر تفسيرها في تفسير الطبري.