الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
للظالمين الذين يزدادون عنادا بسبب ما جبلوا عليه من خبث الطوايا فيزدادون بذلك خسارا وبأن الناس إنما يسيرون وفق ميولهم وطبائعهم المنبثقة من تربيتهم وأخلاقهم، وأن من طبيعتهم في أكثر الأحيان أن يستكبروا ويبتعدوا عن الحق إذا نالوا خيرا ونعمة، وأن ييأسوا ويكفروا إذا نالهم شر ونقمة وعلى النبي صلى الله عليه وسلم ألّا يبالي بالكفار وليشهد الله، فهو الأعلم بمن هو السائر على الحق والطريق القويم.
والآيات كسابقاتها قوية التلقين والتطمين. وقد احتوت مبادئ إيمانية واجتماعية جليلة في أثر القرآن في النفوس الصالحة الراغبة في الحق والهدى، وأثره في الظالمين الذين يصدرون عن ميول منحرفة وقلوب غليظة وأخلاق فاسدة ثم في تفاوت الناس من حيث التأثر بالحق والدعوة إلى الخير حسب ما يكونون عليه من طيب سرائر وحسن نوايا وخبث وسوء طوايا، وما عليه كثير من الناس من طبائع مذمومة يجب الحذر منها، كالكبر والإعراض عن الحق إذا ما اغتنوا ونالوا أمانيهم في الحياة. وكاليأس والكفر إذا ما مسهم الشر وقست عليهم الظروف.
[سورة الإسراء (17) : آية 85]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَاّ قَلِيلاً (85)
في الآية حكاية لسؤال أورد على النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح. وأمر له بالإجابة بأن الروح من أمر الله تعالى واختصاصه وعلمه، وليس من شأن البشر إدراكه، وإن ما أوتيه الناس من العلم هو قليل بالنسبة إلى علم الله وآياته في كونه.
تعليق على جملة وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي
لقد رويت عدة روايات وتأويلات في صدد السؤال وماهيته. من ذلك حديث رواه الشيخان والترمذي عن عبد الله قال «كنت أمشي مع رسول الله في حرث بالمدينة وهو يتوكّأ على عسيب فمرّ بنفر من اليهود فقال بعضهم لو سألتموه فقالوا
لا تسألوه فإنّه يسمعكم ما تكرهون. فقالوا يا أبا القاسم حدّثنا عن الروح فقام النبيّ ساعة ورفع رأسه فعرفت أنّه يوحى إليه حتّى صعد الوحي ثمّ قال وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85) » «1» وروى الطبري أن اليهود قالوا للنبي حينما تلا عليهم الآية جوابا على سؤالهم «أتزعم أنّا لم نؤت من العلم إلّا قليلا وقد أوتينا التوراة وهي الحكمة ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا فنزلت الآية وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ
…
لقمان: [27] فقال لهم ما أوتيتم من علم فنجّاكم به الله من النار هو كثير وهو قليل في علم الله» وروى عن قتادة أن اليهود تغشوا الرسول فسألوه عن الروح وعن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين فأنزل الله في كتابه ذلك كله. وروى البغوي عن ابن عباس أن قريشا اجتمعوا وقالوا إن محمدا نشأ فينا بالأمانة والصدق وقد ادّعى ما ادّعى فابعثوا نفرا إلى اليهود بالمدينة واسألوهم عنه فإنهم أهل كتاب فبعثوا إليهم فقالوا سلوه عن ثلاثة أشياء فإن أجاب عن كلّها أو لم يجب عن شيء منها فليس بنبي وإن أجاب عن اثنتين ولم يجب عن واحدة فهو نبي. سلوه عن فتنة في الزمن الأول كان لهم حديث عجيب. وعن رجل بلغ شرق الأرض وغربها، وعن الروح. فسألوه فقال النبيّ أخبركم غدا بما سألتم ولم يقل إن شاء الله فلبث الوحي اثنتي عشرة ليلة أو أكثر في رواية، وأهل مكة يقولون وعدنا محمد غدا وأصبحنا لا يخبرنا بشيء حتى حزن النبي صلى الله عليه وسلم من مكث الوحي، وشقّ عليه ما يقوله أهل مكة ثم نزل جبريل بقوله وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ الكهف:[23- 24] وما بعدها وهي الآيات [23- 24] من سورة الكهف ثم نزل في الفينة آيات سورة الكهف [9- 25] وفي من بلغ الشرق والغرب وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ الآيات [83- 99] من سورة الكهف وعن الرُّوحِ الآية التي نحن في صددها.
هذا في صدد مصدر السؤال، وفي ماهية الروح قولان يرويهما الطبري عن
(1) التاج ج 4 ص 145.
ابن مسعود جاء في أحدهما أنه جبريل وفي ثانيهما أنه ملك من الملائكة. وقول ثالث يرويه نفس المفسر عن علي بن أبي طالب أنه ملك له سبعون ألف وجه لكل وجه سبعون ألف لسان لكل لسان سبعون ألف لغة يسبح الله عز وجل بها كلها، ويخلق الله مع كل تسبيحة ملكا يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة. وروى البغوي عن مجاهد وسعيد بن جبير أن الروح خلق عظيم لم يخلق الله أكبر منه إلّا العرش لو شاء أن يبتلع السموات السبع والأرضين السبع ومن فيهما بلقمة واحدة لفعل وهو مزدوج الصور الخلقية من ملائكة وبشر
…
يقوم يوم القيامة عن يمين العرش.. ثم قال المفسر وقد قيل إن الكلمة تعني القرآن. أو عيسى عليه السلام الذي وصف الله بأنه روح منه أو أنها الروح الذي يحيا وقال إن القول الأخير هو الأصح. وروى الطبري أن المشركين إنما سألوا النبي عن الروح الذي هو القرآن.
كيف يلقاك به الملك وكيف ينظم ويرتب. وعقب على هذه الرواية بقوله إن القرآن سمي روحا في آية سورة الشورى هذه وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا
…
الشورى: [52] .
والحديث الذي رواه الشيخان والترمذي عن عبد الله هو الوثيق بسند صحيح من بين هذه الروايات. ومقتضاه أن تكون الآية مدنية ولسنا نرى حكمة ولا محلا ولا مناسبة لإيراد سؤال أورده اليهود في المدينة على النبيّ مع جوابه في سورة مكية، وفي سياق يحكي مواقف كفار مكة إزاء النبي ودعوته. في حين أن السور المدنية احتوت الفصول الكثيرة فيما كان من اليهود من مواقف وأسئلة وتحديات وتعجيزات للنبي صلى الله عليه وسلم ودعوته. وقد لحظ هذا المفسر ابن كثير فقال إن جميع السورة مكية ثم قال يمكن أن يجاب على هذا بالقول إن الآيات نزلت في المدينة مرة ثانية. وهذا القول لا يحل الإشكال. ومقتضاه أن يكون سؤال مثله أورد في مكة وأجيب عليه في مكة. وقد خطر لنا إزاء الحديث الصحيح أن يكون اليهود في المدينة سألوا النبي صلى الله عليه وسلم نفس السؤال فتلا عليهم الآية المكية ولما قالوا له أوتينا التوراة والحكمة تلا عليهم آية لقمان المكية وأن الأمر التبس على الرواة فرووا أنه
حادث حدث في المدينة ولا ضرورة لفرض نزول الآية مرة ثانية في المدينة والله أعلم.
ورواية السؤال عن الروح فقط هي الأكثر وجاهة واتساقا مع نصّ الآيات ومقامها. دون الرواية التي تذكر أن هذا السؤال هو أحد أسئلة ثلاثة أو عز اليهود للمشركين بسؤالها للنبي صلى الله عليه وسلم، وعدم وجاهة هذه الرواية يبدو قويا في كون المسألتين الثانيتين جاءتا في سورة أخرى، وكل منهما بعيدة في ترتيب النزول عن الأخرى.
ومن المحتمل أن يكون السؤال أورد من المشركين بإيعاز من اليهود أو بدون إيعازهم. ومن المحتمل أن يكون أورد من بعض اليهود أو النصارى مباشرة وكان منهم أفراد في مكة. بل ومن المحتمل أن يكون أورد من بعض المسلمين، فموضوع السؤال من المواضيع الدقيقة التي تخطر لبال كل من هؤلاء أن يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عنها.
والروايات التي تذكر أن الروح المسئول عنه هو ذلك الخلق العظيم العجيب من الملائكة أو غيرهم أو عيسى عليه السلام لا تستند إلى سند وثيق. ويتبادر لنا من مقام الآيات وسياقها أن الرواية التي تذكر أن المقصود من السؤال هو القرآن وكيفية نزول الملك به على النبي هي الأكثر وجاهة وورودا. فالقرآن ذكر قبل هذه الآيات فيجوز أن يكون السؤال أورد على النبي في ظرف نزولها فنزل الجواب في ذلك مع السياق. وورود آية بعد قليل من الآية فيها إيذان بعجز الجن والإنس عن الإتيان بالقرآن قد يكون قرينة قوية على هذا الترجيح كما هو المتبادر.
وفي سورة الشعراء التي نزلت قبل هذه السورة بقليل آيات عديدة عن القرون ونزول الملك به [192- 195 و 211- 214] فيجوز أن يكون ما جاء فيها هو المناسبة للسؤال أيضا. والآيات السابقة لهذه الآية والتالية لها التي فيها ذكر القرآن والانسجام الذي يبدو قويا تاما يمكن أن تكون قرائن مرجحة لترجيحنا. ولقد كان القرآن من أكثر المواضيع التي دار جدل الكفار حولها ونزل فيه آيات مكية. وهذا