الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
(4) باب الاستغفار والتوبة
ــ
(باب الاستغفار) أي: طلب المغفرة، وقد سبق بيان معناها عند شرح اسم الله الغفار في حديث الأسماء الحسنى فارجع إليه. وقال الحافظ: الاستغفار استفعال من الغفران، وأصله الغفر، وهو إلباس الشيء ما يصونه عما يدنسه وتدنيس كل شيء بحسبه، والغفران من الله للعبد أن يصونه من العذاب - انتهى. قال القاري: الاستغفار قد يتضمن التوبة وقد لا يتضمن ولذا قال: (والتوبة) أو الاستغفار باللسان والتوبة بالجنان، وهي الرجوع من المعصية إلى الطاعة والمغفرة منه تعالى لعبده ستره لذنبه في الدنيا بأن يطلع عليه أحدًا، وفي الآخرة بأن لا يعاقبه عليه. قال الطيبي: والتوبة في الشرع ترك الذنب لقبحه والندم على ما فرط والعزيمة على ترك المعاودة وتدارك ما أمكنه أن يتدارك من الأعمال بالإعادة هذا كلام الراغب. وزاد النووي وقال: إن كان الذنب متعلقًا ببني آدم فلها شرط آخر، وهو رد المظلمة إلى صاحبها أو تحصيل البراءة منه، وقال ابن القيم في مدارج السالكين (ج1: ص169) في الكلام على تفسير التوبة المطلقة: وكثير من الناس إنما يفسر التوبة بالعزم على أن لا يعاود الذنب، وبالإقلاع عنه في الحال، وبالندم عليه في الماضي. وإن كان في حق آدمي فلابد من أمر رابع وهو التحلل منه، وهذا الذي ذكروه بعض مسمى التوبة بل شرطها. وإلا فالتوبة في كلام الله ورسوله كما تتضمن ذلك تتضمن العزم على فعل المأمور والتزامه، فلا يكون بمجرد الإقلاع والعزم والندم تائبًا حتى يوجد منه العزم الجازم على فعل المأمور والإتيان به، هذا حقيقة التوبة، وهي اسم لمجموع الأمرين لكنها إذا قرنت بفعل المأمور كانت عبارة عما ذكروه، فإذا أفردت تضمنت الأمرين، وهي كلفظة التقوى التي عند إفرادها تقتضى فعل ما أمر الله به، وترك ما نهى الله عنه، وعند اقترانها بفعل المأمور تقتضي الانتهاء عن المحظور، فإن حقيقة التوبة الرجوع إلى الله بالتزام فعل ما يحب، وترك ما يكره، فهي رجوع من مكروه إلى محبوب، فالرجوع إلى المحبوب جزء
..............................................................................................
ــ
مسماها، والرجوع عن المكروه الجزء الآخر، ولهذا علق سبحانه الفلاح المطلق على فعل المأمور وترك المحظور بها فقال:{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (النور: 31) فكل تائب مفلح ولا يكون مفلحًا إلا من فعل ما أمر به وترك ما نهي عنه. وقال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الحجرات: 11) وترك المأمور ظالم كما إن فاعل المحظور ظالم، وزوال اسم الظلم عنه بالتوبة الجامعة الأمرين، قال: وإنما سمي التائب تائبًا لرجوعه إلى أمر الله من نهيه وإلى طاعته من معصيته كما تقدم فإذا التوبة هي حقيقة دين الإسلام والدين كله داخل في مسمى التوبة، وبهذا استحق التائب أن يكون حبيب الله فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ، وإنما يحب الله من فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، فإذا التوبة هي الرجوع مما يكرهه الله ظاهرًا وباطنًا إلى ما يحبه ظاهرًا وباطنًا، ويدخل في مسماها الإسلام والإيمان والإحسان وتتناول جميع المقدمات. قال ابن القيم (مشيرًا إلى الفرق بين الاستغفار والتوبة) : وأما الاستغفار فهو نوعان مفرد ومقرون بالتوبة فالمفرد كقول نوح عليه السلام لقومه: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً} (نوح: 10، 11) وكقول صالح عليه السلام لقومه: {لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (النمل: 46) وكقوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (المزمل: 20) وقوله: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (الأنفال: 33) والمقرون كقوله تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} (هود: 3) وقول صالح لقومه: {فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} (هود: 52 - 61) وقول شعيب: {وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} (هود: 90) فالاستغفار المفرد كالتوبة بل هو التوبة بعينها مع تضمنه طلب المغفرة من الله وهو محو الذنب وإزالة أثره ووقاية شره، لا كما ظنه بعض الناس إنها الستر فإن الله يستر على من يغفر له، ومن لا يغفر له، ولكن الستر لازم مسماها أو جزءه، فدلالتها عليه إما بالتضمن وإما باللزوم، وحقيقتها وقاية شر الذنب، ومنه المغفر لما يقي الرأس من الأذى، والستر لازم لهذا المعنى، وألا فالعمامة لا تسمى مغفرًا ولا القبع ونحوه مع ستره فلابد في لفظ المغفر من الوقاية. وهذا الاستغفار الذي يمنع العذاب في قوله:{وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (الأنفال: 33) فإن الله لا يعذب مستغفرًا. وأما من أصر على الذنب وطلب من الله مغفرته فهذا ليس باستغفار مطلق، ولهذا لا يمنع العذاب فالاستغفار يتضمن التوبة، والتوبة تتضمن الاستغفار، وكل منهما يدخل في مسمى الآخر عند الإطلاق. وأما عند اقتران إحدى اللفظتين بالأخرى فالاستغفار طلب وقاية شر ما مضى، والتوبة والرجوع طلب وقاية شر ما يخافه في المستقبل من سيئات أعماله فها هنا ذنبان. ذنب قد مضى فالاستغفار طلب وقاية شره، وذنب يخاف وقوعه فالتوبة العزم على أن لا يفعله والرجوع إلى الله يتناول النوعين. رجوع إليه ليقيه شر ما مضى، ورجوع إليه ليقيه شر ما
..............................................................................................
ــ
يستقبل من شر نفسه وسيئات أعماله، وأيضًا فإن المذنب بمنزلة من ارتكب طريقًا تؤديه إلى هلاكه ولا توصله إلى المقصود فهو مأموران يوليها ظهره ويرجع إلى الطريق التي فيها نجاته، وتوصله إلى مقصودة وفيها فلاحه فها هنا أموال لابد منهما مفارقة شيء. والرجوع إلى غيره فخصت التوبة بالرجوع والاستغفار بالمفارقة، وعند إفرادهما يتناول الأمرين، ولهذا والله أعلم جاء الأمر بهما مرتبًا بقوله:{وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ} (هود: 90) فإنه الرجوع إلى طريق الحق بعد مفارقة الباطل، وأيضًا فالاستغفار من باب إزالة الضرر والتوبة طلب جلب المنفعة، فالمغفرة أن يقيه شر الذنب، والتوبة أن يحصل له بعد الوقاية ما يحبه، وكل منهما يستلزم الآخر عند إفراده والله أعلم. وقيل: في الفرق بينهما إن التوبة لا تكون إلا لنفسه أي لما اجترحته نفسه خاصة من الآثام بخلاف الاستغفار، فإنه يكون لنفسه ولغيره أو لغيره فقط كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} (الحشر: 10) وقال تعالى حاكيًا عن الملائكة: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا} (غافر: 7) وإن التوبة هي الندم على ما فرط في الماضي، والغرم على الامتناع منه في المستقبل، والاستغفار طلب الغفران لما صدر منه ولا يجب فيه الغرم في المستقبل هذا. وللتوبة أحكام لا يليق بالعبد جهلها. ذكر ابن القيم نبذًا منها في مدارج السالكين شرح منازل السائرين (ج1:ص150: 169) فعليك أن تطالعه وأضف إلى ذلك مطالعة كتاب التوبة من الإحياء للغزالي، وقد عقد ابن القيم في المدارج (ج1: ص172، 173) فصلاً لإيضاح الفرق بين الذنب والسيئة والتكفير والمغفرة فطالعه أيضًا مع ما تعقبه وعلق عليه محشيه وقد ذكر صاحب المنازل أسرارًا للتوبة بسط ابن القيم الكلام في شرح السر الأول وتوضيحه أحببنا إيراده لغاية حسنه ولطافته. قال صاحب المنازل: ولطائف أسرار التوبة ثلاثة أشياء أولها: أن ينظر الجناية والقضية فيعرف مراد الله فيها إذ خلاك وإتيانها، فإن الله عز وجل إنما خلي العبد والذنب لمعنيين أحدهما: أن يعرف عزته في قضائه وبره في ستره وحلمه في إمهال راكبه وكرمه في قبول العذر منه وفضله في مغفرته. الثاني: أن يقيم على عبده حجة عدله فيعاقبه على ذنبه بحجته. قال ابن القيم في شرح هذا الكلام (ج1: ص111) اعلم أن صاحب البصيرة إذا صدرت منه الخطيئة فله نظر إلى خمسه أمور أحدها: أن ينظر إلى أمر الله ونهيه فيحدث له ذلك الاعتراف بكونها خطيئة والإقرار على نفسه بالذنب. الثاني: أن ينظر إلى الوعد والوعيد فيحدث له ذلك خوفًا وخشية تحمله على التوبة. الثالث: أن ينظر إلى تمكين الله له منها وتخليته بينه وبينها أو تقديرها عليه وإنه لو شاء لعصمه منها وحال بينه وبينها، فيحدث له ذلك أنواعًا من المعرفة بالله وأسمائه وصفاته وحكمته ورحمته ومعرفته وعفوه وحلمه وكرمه، وتوجب هذه المعرفة عبودية بهذه الأسماء لا تحصل بدون
..............................................................................................
ــ
لوازمها البتة، ويعلم ارتباط الخلق والأمر والجزاء والوعد بأسمائه وصفاته، وأن ذلك موجب الأسماء والصفات وأثرها في الوجود، وإن كل اسم وصفة مقتض لأثره وموجبه متعلق به لا بد منه، وهذا المشهد يطلعه على رياض مونقة من المعارف والإيمان وأسرار القدر والحكمة يضيق عن التعبير عنها نطاق الكلم. فمن بعضها: ما ذكره الشيخ يعني صاحب المنازل أن يعرف العبد عزته في قضائه وهو أنه سبحانه العزيز الذي يقضى بما يشاء وإنه لكمال عزه حكم على العبد وقضى عليه بأن قلب قلبه وصرف إرادته على ما يشاء وحال بين العبد وقلبه. وجعله مريدًا شائيًا لما شاء منه العزيز الحكيم. وهذا من كمال العزة إذ لا يقدر على ذلك إلا الله، وغاية المخلوق أن يتصرف في بدنك وظاهرك. وأما جعلك مريدًا شائيًا لما شاءه منك، ويريده فلا يقدر عليه إلا ذو العزة الباهرة فإذا عرف العبد عز سيده ولاحظه بقلبه وتمكن شهوده منه كان الاشتغال به عن ذل المعصية أولى به وأنفع له لأنه يصير مع الله لا مع نفسه ومن معرفة عزته في قضائه أن يعرف أنه مدبر مقهور ناصيته بيد غيره لا عصمة له، إلا بعصمته ولا توفيق له إلا بمعونته، فهو ذليل حقير في قبضة عزيز حميد، ومن شهود عزته أيضًا في قضائه أن يشهد أن الكمال والحمد والغناء التام والعزة كلها لله، وإن العبد نفسه أولى بالتقصير والذم والعيب والظلم والحاجة وكلما ازداد شهوده لذله ونقصه وعيبه وفقره ازداد شهوده لعزة الله وكماله وعبده وغناه وكذلك بالعكس، فنقص الذنب وذلته يطلعه على مشهد العزة، ومنها إن العبد لا يريد معصية مولاه من حيث هي معصية فإذا شهد جريان الحكم عليه وجعله فاعلاً لما هو غير مختار له ولا مريد بإرادته ومشيئته واختياره، فكأنه مختار غير مختار، مريد غير مريد، شاء غير شاء، فهذا يشهد عزة الله وعظمته وكمال قدرته. ومنها: أن يعرف بره سبحانه في ستره عليه حال ارتكاب المعصية مع كمال رؤيته له، ولو شاء لفضحه بين خلقه فحذروه، وهذا من كمال بره ومن أسمائه البر، وهذا البر من سيده به نفع كمال غناه عنه، وكمال فقر العبد إليه، فيشتغل بمطالعة هذه المنة، ومشاهدة هذا البر والإحسان والكرم فيذهل عن ذكر الخطيئة فيبقى مع الله سبحانه، وذلك أنفع له من الاشتغال بجنايته وشهود ذل معصيته، فإن الاشتغال بالله والغفلة عما سواه هو المطلب الأعلى والمقصد الأسنى، ولا يوجب هذا نسيان الخطيئة مطلقًا بل في هذه الحال. فإذا فقدها فليرجع إلى مطالعة الخطيئة وذكر الجناية ولكل وقت ومقام عبودية تليق به. ومنها: شهود حلم الله سبحانه وتعالى في إمهال راكب الخطيئة ولو شاء لعاجله بالعقوبة، ولكنه الحليم الذي لا يعجل فيحدث له ذلك معرفته سبحانه باسمه الحليم ومشاهدة صفة الحلم، والتعبد بهذا الاسم والحكمة والمصلحة الحاصلة من ذلك بتوسط الذنب أحب إلى الله، وأصلح للعبد وأنفع من فوتها ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع. ومنها: معرفة العبد كرم ربه في قبول العذر منه إذا اعتذر إليه بنحو ما تقدم (ص99) المدارج من الاعتذار لا بالقدر فإنه مخاصمة ومحاجة كما تقدم (ص99) فيقبل عذره بكرمه وجوده فيوجب له
..............................................................................................
ــ
ذلك اشتغالاً بذكره وشكره ومحبةٍ أخرى لم تكن حاصلة له قبل ذلك، فإن محبتك لمن شكرك على إحسانك وجازاك به ثم غفر لك إساءتك ولم يؤاخذك بها أضعاف محبتك على شكر الإحسان وحده والواقع شاهد بذلك، فعبودية التوبة بعد الذنب لون (وهذا لون) آخر يعني إن عبودية التوبة بعد الذنب لون، وهذا الذي ذكره أخيرًا من معرفة العبد كرم ربه إلخ لون آخر ومنها: أن يشهد فضله في مغفرته فإن المغفرة فضل من الله، وإلا فلو وأخذ بالذنب لو أخذ يمحض حقه وكان عادلاً محمودًا. وإنما عفوه بفضله لا باستحقاقك فيوجب لك ذلك أيضًا شكرًا له ومحبة وإنابة إليه وفرحًا وابتهاجًا به ومعرفة له باسمه الغفار، ومشاهدة لهذه الصفة، وتعبدًا بمقتضاها وذلك أكمل في العبودية والمحبة والمعرفة. ومنها: أن يكمل لعبده مراتب الذل والخضوع والانكسار بين يديه والافتقار إليه، فإن النفس فيها مضاها الربوبية لو قدرت لقالت كقول فرعون ولكنه قدر فأظهر وغيره عجز فأضمر، وإنما يخلصها من هذه المضاهاة ذل العبودية وهو أربع مراتب. المرتبة الأولى: مشتركة بين الخلق وهي ذل الحاجة والفقر إلى لله فأهل السماوات والأرض محتاجون إليه فقراء إليه، وهو وحده الغني عنهم وكل أهل السماوات والأرض يسألونه وهو لا يسأل أحدًا. المرتبة الثانية: ذل الطاعة والعبودية، وهو ذل الاختيار، وهذا خاص بأهل طاعته وهو سر العبودية. المرتبة الثالثة ذل المحبة، فإن المحب ذليل بالذات لمحبوبه وعلى قدر محبته له يكون ذله، فالمحبة أسست على الذلة للمحبوب كما قيل:
أخضع وذل لمن تحب فليس في
…
حكم الهوى أنف يسأل ويعقد
وقال آخر:
مساكين أهل الحب حتى قبورهم
…
عليها تراب الذل بين المقابر
المرتبة الرابعة: ذل المعصية والجناية، فإذا اجتمعت هذه المراتب الأربع كان الذل لله والخضوع له أكمل وأتم، إذ يذل له خوفًا وخشية ومحبة وإنابة وإطاعة وفقرًا وفاقة، وحقيقة ذلك هو الفقر الذي يشير إليه القوم، وهذا المعنى أجلّ من أن يسمى بالفقر بل هو لب العبودية وسرها وحصوله أنفع شيء للعبد، وأحب شيء إلى الله فلا بد من تقدير لوازمه من أسباب الضعف والحاجة، وأسباب العبودية والطاعة، وأسباب المحبة والإنابة، وأسباب المعصية والمخالفة إذ وجود الملزوم بدون لازمه ممتنع، والغاية من تقدير عدم هذا الملزوم ولازمه مصلحة وجوده خير من مصلحة فوته ومفسدة فوته أكبر من مفسدة وجوده، والحكمة مبناها على دفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما وقد فتح لك الباب، فإن كنت من أهل المعرفة فادخل وإلا فرد الباب وارجع بسلام. ومنها: إن أسماءه الحسنى تقتضي آثارها اقتضاء الأسباب التامة لمسبباتها
..............................................................................................
ــ
فاسم السميع البصير يقتضي مسموعًا ومبصرًا. واسم الرزاق يقتضي مرزوقًا، واسم الرحيم يقتضي مرحومًا، وكذلك اسم الغفور والعفو والتواب والحليم يقتضي من يغفر له ويتوب عليه ويعفو عنه ويحلم، ويستحيل تعطيل هذه الأسماء والصفات إذ هي أسماء حسنى وصفات كمال ونعوت جلال وأفعال حكمة، وإحسان وجود فلا بد من ظهور آثارها في العالم. وقد أشار إلى هذا أعلم الخلق بالله صلوات الله وسلامه عليه حيث يقول:(لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم) . وأنت إذا فرضت الحيوان بحملته معدومًا فلمن يرزق الرزاق سبحانه؟ وإذا فرضت المعصية والخطيئة منتفية من العالم فلمن يغفر وعمن يعفو؟ وعلى من يتوب ويحلم؟ وإذا فرضت الفاقات كلها قد سدت، والعبيد أغنياء معافون فأين السؤال والتضرع والابتهال والإجابة، وشهود الفضل والمنة والتخصيص بالإنعام والإكرام؟ فسبحان من تعرف إلى خلقه بجميع أنواع التعرفات ودلهم عليه بأنواع الدلالات وفتح لهم إليه جميع الطرقات، ثم نصب إليه الصراط المستقيم وعرفهم به ودلهم عليه {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الأنفال: 24) . ومنها: السر الذي لا تقتحمه العبارة ولا تجسر عليه الإشارة لولا ينادى عليه منادى الإيمان على رؤوس الأشهاد، فشهد به قلوب خواص العباد فازدادت به معرفة لربها ومحبة له وطمأنينة وشوقًا إليه ولهجًا بذكره وشهودًا لبره ولطفه وكرمه وإحسانه ومطالعة لسر العبودية وإشرافًا على حقيقة الإلهية وهو ما ثبت في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله: (لله أفرح بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك. أخطأ من شدة الفرح) هذا لفظ مسلم. وفي الحديث من قواعد العلم إن اللفظ الذي يجري على لسان العبد خطأ من فرح شديد أو غيظ شديد، ونحوه لا يؤاخذ به ولهذا لم يكن هذا كافرًا بقوله أنت عبدي وأنا ربك قال. والقصد إن هذا الفرح له شأن لا ينبغي للعبد إهماله والإعراض عنه، ولا يطلع عليه إلا من له معرفة خاصة بالله وأسمائه وصفاته وما يليق بعز جلاله، وقد كان الأولى بناطي الكلام فيه إلى ما هو اللائق بإفهام بنى الزمان وعلومهم ونهاية أقدامهم من المعرفة وضعف عقولهم عن احتماله غير أنا نعلم أن الله عز وجل سيسوق هذه البضاعة إلى تجارها ومن هو عارف بقدرها، وإن وقعت في الطريق بيد من ليس عارفًا بها فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، فاعلم أن الله سبحانه وتعالى اختص نوع الإنسان من بين خلقه بأن كرمه وفضله وشرفه وخلقه لنفسه، وخلق كل شيءٍ له وخصه من معرفته ومحبته وقربه وإكرامه بما لم يعطه غيره، وسخر له في سماواته وأرضه وما بينهما حتى ملائكته الذين هم أهل قرية استخدمهم وجعلهم حفظة له في
..............................................................................................
ــ
منامه ويقظته وظعنه وإقامته، وأنزل إليه وعليه كتبه، وأرسله وأرسل إليه، وخاطبه وكلمه منه إليه، واتخذ منهم الخليل والكليم والأولياء والخواص والأحبار، وجعلهم معدن أسراره ومحل حكمته وموضع حبه، وخلق لهم الجنة والنار، فالخلق والأمر والثواب والعقاب مداره على النوع الإنساني، فإنه خلاصة الخلق وهو المقصود بالأمر والنهي، وعليه الثواب والعقاب، فللإنسان شأن ليس لسائر المخلوقات، وقد خلق أباه بيده ونفخ من روحه وأسجد له ملائكته وعلمه أسماء كل شيء وأظهر فضله على الملائكة، فمن دونهم من جميع المخلوقات وطرد إبليس عن قربه وأبعده عن بابه إذ لم يسجد له مع الساجدين، واتخذه عدوًا له فالمؤمنون من نوع الإنسان خير البرية على الإطلاق وخيرية الله على العالمين فإنه خلقه ليتم نعمته عليه وليتواتر إحسانه إليه، وليخصه من كرامته وفضله بما لم تنله أمنيته ولم يخطر على باله، ولم يشعر به ليسأله من المواهب والعطايا الباطنة والظاهرة العاجلة والآجلة التي لا تنال إلا بمحبته ولا تنال محبته إلا بطاعته وإيثاره على ما سواه، فاتخذه محبوبًا له وأعدله أفضل ما يعده محب غنى قادر جواد لمحبوبه، إذ أقدم عليه وعهد إليه عهداً يقدم إليه فيه بأوامره ونواهيه وأعلمه في عهده ما يقربه إليه ويزيده محبة له وكرامة عليه، وما يبعده منه ويسخطه عليه، ويسقطه من عينه، وللمحبوب عدو هو أبغض خلق خلقه إليه قد جاهره بالعداوة، وأمر عباده أن يكون دينهم وطاعتهم وعبادتهم له دون وليهم ومعبودهم الحق، واستقطع عباده واتخذ منهم حزبًا ظاهروه ووالوه على ربهم، وكانوا أعداء له مع هذا العدو، يدعون إلى سخطه ويطعنون في ربوبيته وإلهيته ووحدانيته ويسبونه ويكذبونه ويفتنون أولياءه ويؤذونهم بأنواع الأذى، ويجهدون على إعدامهم من الوجود وإقامة الدالة لهم ومحو كل ما يحبه الله ويرضاه وتبديله بكل ما يسخطه ويكرهه، فعرفه بهذا العدو وطرائقهم وأعمالهم وما لهم، وحذره موالاتهم والدخول في زمرتهم، والكون معهم، وأخبره في عهده أنه أجود الأجودين، وأكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين. وأنه: سبقت رحمته غضبه وحلمه عقوبته وعفوه مؤاخذته، وإنه قد أفاض على خلقه النعمة وكتب على نفسه الرحمة، وإنه يحب الإحسان والجود والعطاء والبر، وإن الفضل كله بيده والخير كله منه، والجود كله له، وأحب ما إليه أن يجود على عباده ويوسعهم فضلاً ويغمرهم إحسانًا وجود، أو يتم عليهم نعمه، ويضاعف لديهم مننه ويتعرف، إليهم بأوصافه وأسماءه، ويتحبب إليهم بنعمه وآلاءه فهو الجواد لذاته، وجود كل جواد خلقه الله ويخلقه أبدًا أقل من ذرة بالقياس إلى جوده، فليس الجواد على الإطلاق إلا هو، وجود كل جواد فمن جوده ومحبته للجود والإعطاء والإحسان والبر والإنعام والأفضال فوق ما يخطر ببال الخلق، أو يدور في أوهامهم وفرحه بعطائه وجوده وأفضاله أشد من فرح الآخذ بما يعطاه أو يأخذ أحوج ما هو إليه وأعظم ما كان قدرًا فإذا اجتمع شدة الحاجة وعظم قدر العطية والنفع بها فما الظن بفرح المعطي؟ ففرح المعطي سبحانه بعطائه أشد وأعظم من فرح هذا بما
..............................................................................................
ــ
يأخذه، ولله المثل الأعلى إذ هذا شأن الجواد من الخلق فإنه يحصل له من الفرح والسرور والابتهاج واللذة بعطائه، وجوده فوق ما يحصل لمن يعطيه، ولكن الآخذ غائب بلذة أخذه عن لذة المعطى وابتهاجه وسروره. هذا مع كمال حاجته إلى ما يعطيه وفقره إليه وعدم وثوقه باستخلاف مثله، وخوف الحاجة إليه عند ذهابه والتعرض لذل الاستعانة بنظيره ومن هو دونه، ونفسه قد طبعت على الحرص والشح، فما الظن بمن تقدس وتنزه عن ذلك كله؟ ولو أن أهل سماواته وأرضه وأول خلقه وآخرهم وإنسهم وجنهم ورطبهم ويابسهم قاموا في صعيد واحدٍ فسألوه فأعطى كلاً ما سأله ما نقص ذلك مما عنده مثقال ذرة، وهو الجواد لذاته كما أنه الحي لذاته العليم لذاته السميع البصير لذاته، فجوده العالي من لوازم ذاته، والعفو أحب إليه من الانتقام، والرحمة أحب إليه من العقوبة، والفضل أحب إليه من العدل، والعطاء أحب إليه من المنع، فإذا تعرض عبده ومحبوبة الذي خلقه لنفسه وأعد له أنواع كرامته وفضله على غيره وجعله محل معرفته وأنزل إليه كتابه، وأرسل إليه رسوله واعتنى بأمره، ولم يهمله ولم يتركه سدى، فتعرض لغضبه وارتكب مساخطه وما يكرهه وأبق منه، ووالى عدوه وظاهره عليه، وتحيز إليه وقطع طريق نعمه وإحسانه إليه التي هي أحب شيء إليه، وفتح طريق العقوبة والغضب والانتقام فقد استدعى من الجود الكريم خلاف ما هو موصوف به من الجود والإحسان والبر، وتعرض لإغضابه وإسخاطه وانتقامه، وأن يصير غضبه وسخطه في موضع رضاه، وانتقامه وعقوبته في موضع كرمه وبره وعطاءه، فاستدعى بمعصيته من أفعاله ما سواه أحب إليه منه، وخلاف ما هو من لو لزم ذاته من الجود والإحسان. فبينما هو حبيبه المقرب المخصوص بالكرامة إذا انقلب آبقًا شاردًا رادًا لكرامته، مائلاً عنه إلى عدوه مع شدة حاجته إليه، وعدم استغناءه عنه طرفة عين، فبينما ذلك الحبيب مع العدو في طاعته وخدمته ناسيًا لسيده، منهمكًا في موافقة عدوه، قد استدعى من سيده خلاف ما هو أهله إذ عرضت له فكرة فتذكر بر سيده وعطفه وجوده وكرمه، وعلم أنه لا بد له منه، وأن مصيره إليه، وعرضه عليه، وإنه لم يقدم عليه بنفسه قدم به عليه، على أسوأ الأحوال، ففر إلى سيده من بلد عدوه وجد في الهرب إليه حتى وصل إلى بابه فوضع خده على عتبة بابه وتوسد ثرى أعتابه متذللاً متضرعًا خاشعًا باكيًا آسفًا، يتملق سيده ويسترحمه ويستعطفه ويعتذر إليه، قد ألقى بيده إليه، واستسلم له وأعطاه قياده، وألقى إليه زمانه، فعلم سيده ما في قلبه فعاد مكان الغضب عليه رضا عنه، ومكان الشدة عليه رحمة به، وأبدله بالعقوبة عفوًا، وبالمنع عطاءً وبالمؤاخذة حلمًا، فاستدعى بالتوبة الرجوع من سيده ما هو أهله وما هو موجب أسماءه الحسنى وصفاته العلى، فكيف يكون فرح سيده به، وقد عاد إليه حبيبه ووليه طوعًا واختيارًا، وراجع ما يحبه سيده منه ويرضاه، وفتح طريق البر والإحسان والجود التي هي أحب إلى سيده من طريق الغضب والانتقام والعقوبة؟ وهذا موضع الحكاية المشهورة عن بعض العارفين