الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(الفصل الثالث)
2519-
(14) عن عثمان بن حنيف قال: إن رجلاً ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله أن يعافيني. فقال: إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك. قال: فادعه. قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك، وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، إني توجهت بك إلى ربي
ــ
2519-
قوله: (عن عثمان بن حنيف) بالحاء المهملة والنون مصغرًا ابن واهب الأنصاري الأوسي المدني صحابي شهير شهد أحدًا والمشاهد بعدها، واستعمله عمر على مساحة سواد العراق، واستعمله عليٌ على البصرة فبقي عليها إلى أن قدمها طلحة والزبير مع عائشة رضي الله عنهم في نوبة وقعة الجمل فأخرجوه منها، ثم قدم عليٌّ إليها فكانت وقعة الجمل فلما ظفر بهم عليٌّ استعمل على البصرة عبد الله بن عباس وسكن عثمان بن حنيف الكوفة. روى عنه ابن أخيه أبو أمامة بن سهل بن حنيف وعمارة بن خزيمة بن ثابت وهانئ بن معاوية الصدفي وغيرهم، مات في خلافة معاوية (إن رجلاً ضرير البصر) ، أي ضعيف النظر أو أعمى، قاله القاري. قلت: في رواية النسائي ((أن أعمى أتى النبي صلى الله عليه وسلم)) وفي رواية لأحمد ((إن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم قد ذهب بصره)) وللطبراني، وابن السني ((أتاه رجل ضرير فشكا إليه ذهاب بصره (ادع الله أن يعافيني) ، أي من ضرري في نظري (فقال) ، في الترمذي ((قال)) ، أي بدون الفاء (إن شئت) ، أي اخترت الدعاء (دعوت) ، أي لك (وإن شئت) ، أي أردت الصبر والرضا (فهو) ، أي الصبر (خير لك)، فإن الله تعالى قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه ثم صبر عوضته منهما الجنة (قال) ، أي الرجل (فادعه) بالضمير، أي ادع الله واسأل العافية، ويحتمل أن تكون الهاء للسكت، قال الطيبي: أسند النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء إلى نفسه وكذا طلب الرجل أن يدعو هو? صلى الله عليه وسلم ?ثم أمره? صلى الله عليه وسلم ?أن يدعو هو، أي الرجل كأنه? صلى الله عليه وسلم ?لم يرتض منه اختياره الدعاء بعد قوله ((الصبر خير لك)) ، ولذلك أمره أن يدعو هو لنفسه، لكن في جعله شفيعًا له ووسيلة في استجابة الدعاء ما يفهم أنه صلى الله عليه وسلم شريك فيه (قال) ، أي عثمان (فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه) أي يأتي بكمالاته من سننه وآدابه، وزاد في رواية أحمد وابن ماجة والحاكم ((ويصلي ركعتين)) وفي رواية للنسائي ((قال (أي النبي صلى الله عليه وسلم) فانطلق فتوضأ ثم صل ركعتين)) (اللهم إني أسالك) أي أطلب منك حاجتي وقال القاري: أي أطلبك مقصودي، فالمفعول مقدر (وأتوجه إليك بنبيك) الباء للتعدية، أو المعنى أتوجه إليك بدعاء نبيك وشفاعته (محمد نبي الرحمة) أي المبعوث رحمة للعالمين (إني توجهت بك) ، أي استشفعت بك، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم على طريق الالتفات، ففي رواية أحمد وابن ماجة ((يا محمد إني قد توجهت بك)) ، وفي رواية لأحمد أيضًا والنسائي والحاكم ((يا محمد إني أتوجه بك)) وفيه إن إحضاره في القلب وتصوره في أثناء الدعاء، والخطاب معه فيه جائز كإحضاره في أثناء التشهد في
ليقضي لي في حاجتي هذه اللهم فشفعه في.
ــ
الصلاة، والخطاب فيه وسيأتي الكلام فيه وفيه قصر السؤال الذي هو أصل الدعاء على الملك المتعال ولكنه توسل به عليه الصلاة والسلام، أي بدعائه كما قال عمر: كنا نتوسل إليك بنبيك عليه الصلاة والسلام، فلفظ التوسل والتوجه في الحديثين بمعنى واحد، ولذا قال في آخره ((اللهم فشفعه في)) إذ شفاعته لا تكون إلا بدعاء ربه وقطعًا، ولو كان المراد بذاته الشريفة لم يكن لذلك التعقيب معنى، إذ التوسل بقوله ((بنبيك)) كاف في إفادة هذا المعنى وأيضًا قول الأعمى للنبي صلى الله عليه وسلم ((أدع الله تعالى أن يعافيني)) وجوابه عليه الصلاة والسلام له ((إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك)) وقول الأعمى ((فادعه)) دليل واضح وبرهان راجح على أن التوسل كان بدعائه لا بنفس ذاته المطهرة عليه الصلاة والسلام، وقوله ((إني توجهت بك إلى ربي)) قال الطيبي: الباء في ((بك)) للاستعانة، أي استعنت بدعائك إلى ربي، وسيأتي مزيد توضيح ذلك إنشاء الله تعالى فانتظر (ليقضي) بالغيبة أي ربي، وقيل بالخطاب أي لتوقع القضاء (لي في حاجتي هذه) وجعلها مكانًا له على طريقة قوله {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} (- 46: 15) قال الطيبي: إن قلت: ما معنى ((لي)) و ((في)) ؟ قلت: معنى ((لي)) كما في قوله تعالى {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} (- 20: 25) أجمل أولاً ثم فصل ليكون أوقع في النفس، ومعنى ((في)) كما في قول الشاعر:
يجرح في عراقيبها نصلي
أي أوقع القضاء في حاجتي واجعلها مكانًا له، ونظيره قوله تعالى {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} (- 46: 15) انتهى. قلت: ولفظ الترمذي ((إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي)) وهو بصيغة المجهول أي لتقضى لي حاجتي بشفاعتك يعنى ليقضيها ربي لي بشفاعتك (اللهم) التفات ثان (فشفعه) بتشديد الفاء، أي اقبل شفاعته (في) أي في حقي. قال المناوي: والعطف بالفاء على معطوف عليه مقدر، أي اجعله شفيعًا لي فشفعه فيكون قوله: اللهم معترضة، سأل الله أولاً بطريق الخطاب أن يأذن لنبيه أن يشفع له، ثم أقبل على النبي صلى الله عليه وسلم ملتمسًا شفاعته له ثم كر مقبلاً على ربه طالباً منه أن يقبل شفاعته في حقه. والحديث قد استدل به على جواز التوسل والسؤال بذوات الأنبياء والصالحين والميتين لأنه صلى الله عليه وسلم أمر الضرير أن يقول في دعائه ((وأتوجه إليك بمحمد نبي الرحمة، إني توجهت بك إلى ربي)) وإذا جاز السؤال به جاز السؤال بذاته وحقه وجاهه وحرمته وكرامته، وإذا جاز التوسل والسؤال بهذا كله من النبي صلى الله عليه وسلم جاز التوسل والسؤال بغيره من الأنبياء والصالحين، ولا فرق. واستدل به أيضًا على دعاء غير الله من الأموات والغائبين حيث أنه صلى الله عليه وسلم أمر الضرير بعد الوضوء والصلاة أن يدعو ويقول في دعائه: يا محمد إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى. ففي قوله ((يا محمد)) جواز دعوة الغائبين لأن الرسول أمره أن يدعو بهذا الدعاء وهو عنه غائب، وإذا جاز دعاء الغائبين جاز دعاء الميتين. قال الشيخ محمد عابد السندي في رسالته التي أفردها لمسألة التوسل: والحديث يدل على جواز التوسل والاستشفاع بذاته
..............................................................................................
ــ
المكرم في حياته، وأما بعد مماته فقد روى البيهقي والطبراني في الصغير (ص 103) عن عثمان بن حنيف أن رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة له وكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته فلقي عثمان بن حنيف فشكا ذلك إليه فقال له عثمان بن حنيف: ائت الميضأة فتوضأ ثم ائت المسجد فصل فيه ركعتين ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد? صلى الله عليه وسلم ?نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي فيقضي لي حاجتي، وتذكر حاجتك ورُح إلى حتى أروح معك. فانطلق الرجل فصنع ما قال له ثم أتى باب عثمان فجاء البواب حتى أخذ بيده فأدخله على عثمان بن عفان فأجلسه معه على الطنفسة وقال: ما حاجتك؟ فذكر حاجته فقضاها له، ثم قال: ما ذكرت حاجتك حتى كانت هذه الساعة، وقال: ما كانت لك من حاجة فأتنا، ثم إن الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف فقال له: جزاك الله خيرًا، ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إليَّ حتى كلمته فيَّ. فقال عثمان بن حنيف: والله ما كلمته ولكن شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه رجل ضرير فشكا إليه ذهاب بصره، فذكر الحديث. وزادا فيه هما وابن السني والحاكم ((فقال عثمان بن حنيف: فوالله ما تفرقنا ولا طال بنا الحديث حتى دخل عليه الرجل كأنه لم يكن به ضرر قط)) . قال الطبراني بعد ذكر طرقه التي روى بها: والحديث صحيح. وقال الشوكاني في ((تحفة الذاكرين)) (ص 138) : وفي الحديث دليل على جواز التوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الله عز وجل مع اعتقاد أن الفاعل هو الله سبحانه وتعالى وأنه المعطي المانع ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. وقال فيه أيضًا (ص 37) في شرح قول العدة ((ويتوسل إلى الله سبحانه بأنبيائه والصالحين)) ما نصه: من التوسل بالأنبياء ما أخرجه الترمذي وغيره من حديث عثمان بن حنيف أن أعمى أتي النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث. ثم قال: وأما التوسل بالصالحين فمنه ما ثبت في الصحيح أن الصحابة استسقوا بالعباس رضي الله عنه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال عمر رضي الله عنه: اللهم إنا نتوسل إليك بعم نبينا، ألخ - انتهى. وقال العز بن عبد السلام حينما سئل عن التوسل بالذوات الفاضلة ما لفظه: إن صح حديث الأعمى فهو مقصور على النبي صلى الله عليه وسلم ويكون من خصوصياته. وتعقبه المجوزون بقياس غيره عليه صلى الله عليه وسلم، ومن أدلتهم أنه قد أوجب الله تعالى تعظيم أمره وتوقيره والزم إكرامه وقد كانت الصحابة تتبرك بآثاره وشعره ولا شك أن حرمته صلى الله عليه وسلم بعد وفاته وتوقيره لازم كما كان حال حياته كذا في ((جلاء العينين)) (ص 438) للسيد نعمان خير الدين الشهير بابن الآلوسي البغدادي وقال الشوكاني في رسالته ((الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد)) لا يخفاك أنه قد ثبت التوسل به صلى الله عليه وسلم في حياته، وثبت التوسل بغيره بعد موته بإجماع الصحابة إجماعًا سكوتيًا لعدم إنكار أحد منهم على عمر رضي الله عنه في توسله بالعباس رضي الله عنه، وعندي أنه لا وجه لتخصيص جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم كما زعمه الشيخ عز الدين بن عبد السلام لأمرين: الأول ما عرفناك به من إجماع الصحابة رضي الله عنهم، والثاني أن التوسل إلى الله بأهل الفضل والعلم هو في التحقيق توسل بأعمالهم الصالحة ومزاياهم الفاضلة، إذا لا يكون الفاضل فاضًلا إلا بأعماله، فإذا قال القائل: اللهم إني أتوسل إليك بالعالم الفلاني فهو
..............................................................................................
ــ
باعتبار ما قام به من العلم. وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم حكى عن الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة أن كل واحد منهم توسل إلى الله تعالى بأعظم عمل عمله فارتفعت الصخرة، فلو كان التوسل بالأعمال الفاضلة غير جائز أو كان شركًا لم تحصل الإجابة لهم ولا سكت النبي صلى الله عليه وسلم عن إنكار ما فعلوه بعد حكايته عنهم - انتهى. قلت: الحق والصواب عندنا أن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته بمعنى التوسل بدعائه وشفاعته جائز وهذا هو الذي وقع في حديث الأعمى الذي نحن في شرحه كما تقدم وسيأتي أيضًا، وكذا التوسل بغيره صلى الله عليه وسلم من أهل الخير والصلاح في حياتهم بمعنى التوسل بدعائهم وشفاعتهم جائز أيضًا، وأما التوسل به صلى الله عليه وسلم بعد وفاته وكذا التوسل بغيره من أهل الخير والصلاح بعد مماتهم فلا يجوز سواء كان بذواتهم أو جاههم أو حرمتهم أو كرامتهم أو حقهم أو نحو ذلك من الأمور المحدثة في الإسلام، وكذا لا يجوز دعاء غير الله من الأموات والغائبين، وهذا هو الذي اختاره شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية في رسالته في التوسل والوسيلة، وقد أشبع الكلام في تحقيقه وأجاد فعليك أن تراجعها. وحديث الأعمى هو العمدة في الاستدلال عند المجوزين لأن غيره من الأحاديث إما أن يكون ضعيفًا لا يصلح للاستدلال كما بين ذلك حديثا حديثا العلامة السهسواني في ((صيانة الإنسان)) والعلامة السويدي الشافعي في ((العقد الثمين)) وذكره ملخصًا العلامة ابن الآلوسي في ((جلاء العينين)) أو أنه دليل على المجوزين لا لهم كحديث استسقاء عمر بالعباس رضي الله عنهما، وقد ذكرنا في (ص339) من الجزء الثاني وجه فساد الاستدلال بذلك على جواز التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم وسيأتي أيضًا، وكقصة أصحاب الغار التي ذكرها الشوكاني في أثناء الاستدلال لذلك فإن فيها توسل الإنسان بعمل نفسه لا بعمل غيره أو بذات غيره، لأن أصحاب الغار إنما توسلوا بأعمالهم لا بأعمال غيرهم فلا يتم التقريب بل توسل الإنسان بعبادة غيره ومزاياه غير مشروع ولا مأثور ولا معقول، وتوسل الإنسان بعمل نفسه مما لا ينكره أحد من الأئمة وفيه أيضًا ما قال العلامة السهسواني في ((صيانة الإنسان)) : إنا لا نسلم أن الفاضل إذا كان فضله بالأعمال كان التوسل به توسلاً بأعماله الصالحة لم لا يجوز أن يكون التوسل به توسلاً بذاته، بل هو الظاهر فإن حقيقة التوسل بالشيء التوسل بذاته والتوسل بالأعمال أمر خارج زائد على الحقيقة ولا يصرف عن الحقيقة إلى المجاز إلا لمانع. قال صاحب المنار: إن المعلوم من حال هؤلاء المتوسلين بالأشخاص أنهم يتوسلون بذواتهم الممتازة بصفاتهم وأعمالهم المعروفة عنهم لاعتقاد أن لهم تأثيرًا في حصول المطلوب بالتوسل إما بفعل الله تعالى لأجلهم وإما بفعلهم أنفسهم مما يعدونه كرامة لهم. وقد سمعنا الأمرين منهم وممن يدافع عنهم وكل من الأمرين باطل. وفيه أيضًا أنه لو سلم أن مراد القائل: اللهم إني أتوسل إليك بالعالم الفلاني هو التوسل بأعماله لا التوسل بذاته فاللفظ محتمل للتوسل بالذات أيضًا وهذا مما لا شك فيه وقد نهانا الله تعالى عن استعمال لفظ موهم لأمر غير جائز فقال في سورة البقرة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (- 2: 104) قال الإمام العلامة القنوجي البوفالي في تفسيره ((فتح البيان)) : وفي ذلك
رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب.
ــ
دليل على أنه ينبغي تجنب الألفاظ المحتملة للسب والنقص وإن لم يقصد المتكلم بها هذا المعنى المفيد للشتم سدًا للذريعة وقطعًا لمادة المفسدة والتطرق إليه - انتهى. وقال العلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي القصيمي: في تفسيره (ج1 ص58) فيه الأدب واستعمال الألفاظ التي لا تحتمل إلا الحسن وعدم الفحش وترك الألفاظ القبيحة أو التي فيها نوع تشويش واحتمال لأمر غير لائق - انتهى. قلت: وكذلك ما قال بعض الحنفية من أن المراد به التوسل بصفة من صفات الله تعالى مثل أن يراد به التوسل بمحبة الله تعالى لعباده الكاملين التامة المستدعية عدم رده وأن يراد به التوسل برحمته الخاصة الشاملة لهم لأجل أعمالهم الفاضلة ولا شك في جواز التوسل بصفة الله تعالى هذا أيضًا مخدوش ومحل نظر فإن إرجاع ذلك إلى التوسل بصفة من صفاته تعالى، فيه تكلف وتعسف جدًا ولذلك لا يستشعر بذلك عامة المتوسلين بالأشخاص كما لا يخفى، ولو سلم فاللفظ محتمل للتوسل بالذات أيضًا، واستعمال الألفاظ المحتملة للأمر الغير المشروع منهي عنه بدليل الآية المتقدمة. وأما حديث الأعمى فالجواب عنه من ناحيتين: ناحية الإسناد وناحية المعنى. فإذا صح الإسناد أو حسن وكان المعنى في متنه ولفظه ما ذكره المجوزون قامت حجتهم ونهضت دعواهم وإلا فلا، ونحن سنورد ما نستطيع الكلام في الناحيتين إن شاء الله تعالى (رواه الترمذي) في ((أحاديث شيء)) من أبواب الدعوات، وأخرجه أيضًا أحمد (ج4 ص138) وزاد ((ففعل الرجل فبرأ)) ، والنسائي في الكبرى وزاد ((فرجع وقد كشف الله عن بصره)) ، وابن ماجة في ((صلاة الحاجة)) ، وابن السني (ص202) ، وابن خزيمة في صحيحه، والحاكم (ج1 ص313، 519، 526) ، والبيهقي في دلائل النبوة، وابن أبي خيثمة في تاريخه والطبراني في الصغير (ص103) (وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب) في الترمذي بعد هذا ((لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث أبي جعفر وهو غير الخطمي)) انتهى. قلت: وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ووافقه الذهبي وصححه أيضًا الطبراني كما تقدم، وأبو عبد الله المقدسي كما في التوسل والوسيلة (ص81) وفي تصحيحهم للحديث عندي نظر والراجح أنه حديث ضعيف لا يبلغ درجة الحسن فضلاً أن يكون صحيحًا، فإن إسناد هذا الحديث في جميع طرقه عند جميع رواته قد انفرد به راو واحد، هذا الراوي هو أبو جعفر الذي رواه عنه شعبة عند أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، والحاكم (ج1 ص 313، 519) ، والبيهقي، وابن أبي خيثمة، والذي رواه عند هؤلاء السبعة عن عمارة بن خزيمة بن ثابت، وقد قال الترمذي كما تقدم بعد رواية الحديث: غريب لا نعرفه إلا من حديث أبي جعفر، أما الذين رووه عن أبي جعفر هذا فشعبة عند هؤلاء السبعة، وروح بن القاسم عند ابن السني (ص202) ، والحاكم (ج1 ص526) ، والبيهقي أيضًا، والطبراني في الصغير (ص 103) ، وحماد بن سلمة عند ابن أبي خيثمة، وهشام الدستوائي عند ابن السني على ما ذكر الإمام ابن تيمية في رسالته (ص 78) والحديث إلى أبي جعفر هذا صحيح السند لا بأس به وهذا
..............................................................................................
ــ
ظاهر لمن تفحص عن رجاله بين أبي جعفر وبين من أخرج هذا الحديث فلا كلام للناقد في إسناده حتى يصل أبا جعفر الذي قيل أنه الخطمي، وقيل: أنه غير الخطمي، وروى أبو جعفر هذا عند السبعة عن عمارة بن خزيمة عن عثمان بن حنيف الصحابي شاهدًا لقصة. وعمارة هذا ثقة لا كلام فيه وعثمان بن حنيف صحابي جليل لا كلام فيه أيضًا، وقد تابع عمارة بن خزيمة في روايته عن ابن حنيف أبو أمامة واسمه أسعد بن سهل بن حنيف ابن أخي عثمان بن حنيف رواه عن عمه عثمان عند البيهقي وابن السني والحاكم والطبراني فيكون أبو جعفر هذا رواه عن عمارة بن خزيمة وعن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، فالحديث إذا لا يكون غريبًا إلا عند أبي جعفر المذكور، ولا ينفرد به سواه وسوى الصحابي عثمان بن حنيف، أما ما بين ذلك فالرواة متعددون وانفراد عثمان بن حنيف لا يضير الخبر لأنه صحابي جليل، فالكلام هنا يجب أن يقصر على أبي جعفر هذا، والترمذي كما تقدم يقول: إنه غير الخطمي. وسائر العلماء يقولون: أنه الخطمي، والغريب أن اسمه لم يقع مصرحًا به في واحد من الروايات فمن الخطمي إذا كان هو إياه ومن هو إذا كان سواه؟ أما أبو جعفر الخطمي فهو عمير بن يزيد بن عمير بن حبيب الأنصاري المدني ثم البصري وهو ثقة من رجال الأربعة، روى عن أبيه وعمارة بن خزيمة وآخرين، وعنه هشام الدستوائي وشعبة وروح بن القاسم وحماد بن سلمة ويحيى القطان وآخرون، وقال الحافظ في تهذيب التهذيب: وثقه ابن معين والنسائي، وابن نمير والعجلي والطبراني، وذكره ابن حبان في الثقات وأثنى عليه ابن مهدي. وقال الحافظ وقال أبو الحسن المديني: وهو مدني، قدم البصرة وليس لأهل المدنية عنه أثر ولا يعرفونه - انتهى. فأبو جعفر هذا إن كان هو الخطمي كما ظنه غير الترمذي فالحديث في درجة متوسطة في الصحة والجودة لا يبلغ مكانة أحاديث الصحيحين ولا ينزل إلى أن يكون ضعيفًا باطلاً مردودًا، وإنما هو كالأحاديث التي يصححها أمثال الترمذي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم ونحوهم ممن عندهم نحو تساهل في التصحيح ونقد الأخبار، هذا إن كان أبو جعفر هذا هو الخطمي، ولكن وقع اختلاف كما تقدم، فالترمذي يقول في جامعه إنه غير الخطمي، والحافظ ابن حجر يميل في التقريب إلى أنه غير الخطمي كالترمذي ويرجح أنه أبو جعفر عيسى بن ماهان الرازي التميمي. قال الحافظ في الكنى من التقريب: أبو جعفر عن عمارة بن خزيمة قال الترمذي: ليس هو الخطمي فلعله الذي بعده يريد به أبا جعفر عيسى بن ماهان الرازي التميمي الذي قال الحافظ فيه: إنه صدوق سيئ الحفظ. وفي تهذيب التهذيب أيضًا ما يدل على أنه يرجح كونه غير الخطمي، وذلك أنه قال في الكنى من التهذيب (ج12 ص58) : أبو جعفر عن عمارة بن خزيمة وعنه شعبة، قال الترمذي: ليس هو الخطمي ولم يزد على ذلك ولم ينكر على الترمذي ما حكاه عنه فكأنه يميل إلى الأخذ بقوله وعند ما ذكر ترجمة الخطمي من التهذيب لم يتعرض لذلك الخلاف ولم يقل إنه الذي روى ذلك الخبر عن عمارة مع أنه معروف التنقيب على ما يراه يستحق ذلك، فالظاهر من مجموع ذلك أنه يميل إلى موافقة الترمذي في القول بأنه غير الخطمي. هذا قول الترمذي ومن في جانبه، وأما الأكثرون فقد ذكروا أنه الخطمي بعينه وقد وقع ذلك في كثير
..............................................................................................
ــ
من الكتب التي رُوي الحديث فيها، وقد رجح شيخ الإسلام ابن تيمية ذلك الرأي الأخير، إذًا فالخلاف قائم بين أهل الحديث في أبي جعفر راوي الحديث وقد يقول قائل إنه يجب إسقاط خلاف الترمذي ومن معه في هذا الخلاف لأنه قائم على الظن والتوهم فلا حجة فيه وإنما الحجة في قول سواهم وهم الذين صرحوا بأنه هو الخطمي كما وقع مصرحًا به عند ابن أبي خيثمة في التاريخ وعند الطبراني في المعجم الصغير وعند الحاكم في المستدرك، وعند ابن السني في عمل اليوم والليلة، فإن هؤلاء قد صرحوا بأن راوي الحديث هو الخطمي عينه وهم ما قالوا ذلك إلا لأنهم علموا أو حدثوا أنه هو نصًا لا توهمًا، وذلك يقتضي ترجيح رأيهم على رأى الترمذي فيجب المصير إليه علمًا وبحثًا وتحقيقًا. قيل في الجواب: كلا إنه لا يجب بل لا يجوز إطراح قول الترمذي اعتباطًا ولا الذهاب إلى تخطئته جزافًا إذ لو صح لنا أن نقول إنه ظن محض بلا دليل لصح لنا أن نقول إن هؤلاء الذين صرحوا في كتبهم أنه هو الخطمي نفسه ليس لهم دليل أيضًا سوى التوهم والظن وهذا قريب جدًا، وذلك أنهم وجدوا أبا جعفر في الإسناد مجردًا مطلقًا مما يمكن أن يعينه فوثب إلى توهمهم وأوهامهم أنه الخطمي فصرحوا بما توهموه لا بما علموه. وهذا يحتمل في الترمذي كما يحتمل في الآخرين المخالفين له وإن كان يبدو للمتأمل جيدًا تقديم ما ذهب إليه الترمذي وترجيحه وذلك أنه يبعد جدًا أن يصرح عالم بالحديث مثله بأن هذا ليس هو الخطمي بمجرد الظن المحض لأنه إذا لم يكن لديه سوى التوهم كانت منطقة السكوت أرحب وأوسع وما أبعد أن يقع اسم أو كنية بين يدي ناقد بصير مثل الترمذي فيقول مبادرًا إن صاحب ذلك الاسم أو تلك الكنية ليس هو فلانًا ممن يسمون ذلك الاسم بلا حجة ولا برهان سوى الظن البحت، أما من قالوا إنه الخطمي فمن القريب للغاية أن يسمعوا الراوي يقول حدثني أبو جعفر فينساق بسرعة إلى أذهانهم أنه هو الخطمي أو غيره ممن يكنون تلك الكنية، وإذا لا يسوغ لنا شد المعرفة والحقيقة أن يبادر إلى الحكم بتخطئة الترمذي زاعمًا أنه الخطمي قولاً واحدًا بل يجب على الأقل التريث والتوقف ما لم ينبثق له في تلك الظلمة شعاع من نور ولا سيما أن ذلك الراوي المختلف فيه لم يتابعه أحد على روايته الحديث عن عمارة بن خزيمة وعن أبي أمامة بن سهل بن حنيف بل انفرد به في جميع الأسانيد والروايات وهذا ما يزيد الباحث الحريص على الحقيقة والمعرفة توقفًا وتريثًا. ولا سيما والحديث وارد في مسألة كهذه لها من الخطورة ما لها وإذ وصلنا إلى ذلك الدور من التحقيق وجدنا أمامنا أمرين لا مندوحة لنا من اختيار أحدهما: الأول أن نذهب قولاً واحدًا إلى أن ذلك الراوي ليس هو الخطمي كما قال الترمذي وكما رجح الحافظ ابن حجر على ما سبق. الثاني أن نلتزم التوقف وتجويز كلا الاحتمالين والقولين ريثما يقدر لنا قبس من نور في تلك الدجنة نتلمس به حقيقة ما غم علينا وعلى الباحثين وعلى الاحتمالين والقولين لا يصح لنا أن نبادر إلى القول بصحة الحديث وإلى الأخذ به حتى نأمن من أن يكون ذلك الراوي راويًا ضعيفًا متروكًا أو ممن لا يحتج به إذا انفراد برواية الحديث، وما دمنا جوزنا أن يكون الخطمي وأن يكون سواه فلا سبيل إلى الضمان من أن يكون ضعيفًا حتى نعلم أن جميع من يكنون تلك الكنية ممن هم في تلك الطبقة ثقات
..............................................................................................
ــ
أثبات أما إذا ذهبنا إلى القطع بأنه غير الخطمي فقد يحتمل أن يكون راويًا ضعيفًا، وكذلك إذا جوزنا أن يكون إياه وأن يكون سواه لأنه لا سبيل إلى القطع بأنه هو قولاً واحدًا إلا لمن كان متسرعًا إلى ما يجب التأني والبطء فيه، ومادام ذلك الاحتمال موجودًا فلا شك أن العمل بالحديث غير جائز، ومن ثم ذهب المحدثون إلى أن رواية المجهول مردودة لاحتمال أن يكون ضعيفًا وأجمعوا على أنه إذا جاءت رواية باسم مشترك بين ثقات وضعفاء فاحتمل أن تكون الرواية رواية ضعيف، واحتمل أن تكون رواية ثقة وجب طرح تلك الرواية والتوقف في العمل بها، ثم نقول إن أبا جعفر هذا إذا لم يكن الخطمي فيحتمل أن يكون هو أبا جعفر عيسى بن ما هان الرازي التميمي، وقد تقدم أنه سيء الحفظ، وقد تفرد برواية هذا الحديث لم يتابعه أحد ولا شاهد له فلا يصح الاحتجاج بروايته، واعترض على هذا التجويز والاحتمال بأنه وقع في بعض الروايات نسبة أبي جعفر هذا إلى المدينة فجاء في سنن ابن ماجة عن أبي جعفر المدني وكذا جاء في مسند أحمد وعند البيهقي والحاكم والطبراني، وابن السني وهذا في الظاهر يأبى احتمال أن يكون أبو جعفر هذا هو عيسى بن ماهان الرازي لأنه ليس مدنيًا بل مروزي الأصل سكن الريّ وقيل أصله من البصرة ومتجره إلى الري فنسب إليها كذا في تهذيب التهذيب، وهناك رواة آخرون يكنون تلك الكنية منهم الثقات ومنهم الضعفاء ويجوز أن يكون أبو جعفر الذي في الخبر أحدهم ويجوز العكس وأن يكون رجلاً مجهولاً ليس له إلا ذلك الحديث ولم يرو عنه شعبة وروح بن القاسم سواه ولم يروه عن عمارة غيره، وقد يفهم هذا من صنع الحافظ ابن حجر، وذلك أنه قال فيمن يكنون بأبي جعفر أبو جعفر عن عمارة بن خزيمة وعنه شعبة، قال الترمذي ليس هو الخطمي - انتهى. وقد يشهد لهذا أيضًا قول الترمذي أنه غير الخطمي ولم يزد على ذلك القول شيئًا فلم يسمه ولم يصفه ولم ينسبه فكأنه ما يعرف عنه شيئًا وإنما صحح حديثه اعتمادًا على رواية شعبة عنه لأن شعبة لا يروى إلا عن الثقات غالبًا وألا فقد روى عن غير الثقات، علا أن الترمذي معروف بالتساهل واللين في التحسين والتصحيح وقد اتضح بهذا البيان للمنصف أن حديث الأعمى ليس من الصحاح ولا الحسان وأنه لا يسوغ لمن لا يرضى لنفسه وعقيدته إلا الصحة واليقين أن يعمل به. أو إلزام الناس به فإن أبا جعفر المنفرد بروايته رجل مجهول لا نعرف حاله ولا يدرى مكانه من الصحة والقوة والضعف على وجه اليقين فيجب التوقف في روايته بل يجب ردها، وأما تصحيح من صححوه فليس بحجة وفي سنده ما ذكرناه من النقد والقدح، والذين صححوه كلهم من المتساهلين في التصحيح أمثال الترمذي والحاكم. وأما رواية ابن خزيمة في صحيحه فلا تقتضي الصحة مطلقًا كما بينه الأمير اليماني في توضح الأفكار (ج1 ص64) ويحتمل أن يكون الذين صححوه اعتمدوا في ذلك على رواية شعبة بن الحجاج له عن أبي جعفر المختلف فيه، وذلك أن شعبة قد عهد منه كثيرًا اجتناب الضعفاء واجتناب حديثهم والرواية عنهم ولكن هذا ليس بلازم فقد روى شعبة عن قوم ضعفاء، ولعلهم أيضًا صححوه حاسبين أن أبا جعفر الراوي هو الخطمي لأن الخطمي ثقة ولم يعلموا أنه سواه كما علم الترمذي
..............................................................................................
ــ
فكأن التصحيح قائم على هذا الوهم الذي فطن إليه الترمذي فرده، ومنشأ هذا الوهم والظن اتفاق الكنى وتحصل من هذا كله أن حديث الأعمى هذا ضعيف لا يحل الاحتجاج به، أما أولاً فلجهالة أبي جعفر المنفرد به عن عمارة بن خزيمة وعن أبي أمامة بن سهل، واختلاف الناس فيه، إذ زعم فريق أنه الخطمي وزعم فريق آخر أنه سواه، ولم يظهر لنا أصح القولين فوجدنا أن التوقف في ذلك هو المصير الصحيح، وأما ثانيًا فلتفرد ذلك الراوي المجهول المختلف فيه به دون غيره من أقرانه وممن هم أكثر منه حديثًا وتحديثًا وأكثر اجتماعًا بعمارة وبأبي أمامة وقد كان المظنون أن يرويه سواه إذا كان صحيحًا، وأما ثالثًا فلغرابة معنى الحديث وشذوذه عما عرفه الخاص والعام من أصول الإسلام وفروعه وعما علم بالضرورة منه فإن سؤال الله بخلقه كأن يقال يا الله أسألك بفلان أو أتوجه إليك بعبدك فلان أو نبيك فلان ونحو ذلك لم يعهد مثله في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة أو الأئمة وما نقل شيء من هذا النوع إلا ما جاء في الأخبار الواهية الباطلة، ومثل تلك الروايات لا يحل بها حكم من أحكام المياه والوضوء والطهارة فضلاً عن أن يثبت بها قاعدة من قواعد الإسلام ومناجاة الله وسؤاله، أما الروايات الصحيحة فلم يجئ في شيء منها من ذلك هذا، وأما الكلام على الحديث من جهة المعنى على افتراض كونه حسنًا أو صحيحًا فيقال إنه دليل جلي على بطلان ما ذهب إليه المجوزون وذلك أن المراد بقوله أتوجه إليك بنبيك التوجه بدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لا بذاته ولا بشخصه، والدليل على ذلك أن أصل المسألة كان في الدعاء وفي طلبه من النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن أصلها في سؤال الله بجاهه أو بذاته حتى يصح ما زعمه المجوزون. ومن الدليل عليه أيضًا قوله في خاتمة الحديث ((اللهم شفعه فيَّ)) فالأمر إذا أمر شفاعة. ومن الدليل عليه قوله أيضًا ((وإن شئت دعوت)) وقد شاء بلا خلاف، ولا شك فقد دعا أيضًا بلا خلاف، ولا شك قد علق الدعاء بالمشيئة والمشيئة قد وقعت فالدعاء كذلك قد وقع وهو مثل حديث الاستسقاء بالعباس. ومثل قول الفاروق رضي الله عنه: اللهم كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. وهم كانوا يتوسلون بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته لا بذاته وشخصه، وهذا ظاهر في الشرع وفي اللسان إلا عمن حجب الله بصيرته فإن قيل: إن هذا عدول عن ظاهر الخبر وهو لا يجوز الذهاب إليه إلا بدليل ملجئ ولا دليل على هذا العدول قلنا: إن من الكذب القول بأن ما ذهب إليه المجوزون هو ظاهر الخبر بل الظاهر هو ما ذهب إليه المانعون وهو مقتضى اللغة العربية فإنه لا يفهم من قوله عليه الصلاة والسلام في تعليمه الدعاء ((اللهم إني أسالك وأتوجه إليك بنبيك)) وقوله ((توجهت بك)) إلا التوجه بالعمل لا بالذات والعمل هنا هو الدعاء والشفاعة بلا ريب. فإن قيل: إن هذا يقضي بأن يكون في الحديث كلمة محذوفة وهي كلمة الدعاء والشفاعة التي تزعمون أن التوجه والسؤال بها لا بالذات فيقدر في قوله ((أتوجه إليك بنبيك)) بدعاء نبيك، وفي قوله ((توجهت بك)) بدعائك، وهذا تقدير وادعاء في الحديث لا دليل عليه ولا ملجأ إليه أجيب أن التقدير في الحديث يجب على قول المجوزين وقول المانعين وعلى كل قول، فالمجوزون يقولون التقدير: اللهم إني أسالك وأتوجه إليك بذات نبيك أو بحرمته أو بجاهه أو بكرامته عليه أو مكانته لديك ونحو ذلك من
..............................................................................................
ــ
المحذوفات، ولا دليل في الحديث على واحد منها، وأما المانعون فهم يقدرون الدعاء فقط، والدعاء مذكور فيه مدلول عليه بأول الخبر وآخره فكان تقديره سائغًا بل واجبًا بل هو في حكم المذكور المنصوص عليه فالعلم به لا يحتاج إلى تفكير ولا إلى دلالة ولا إلى شيء غير الفهم والإنصاف بل هذا ما يتبادر إلى فهم كل قارئ له ما عدا أهل الهوى والجدل والعناد وإننا نتحدى المجوزين ونطلب إليهم جميعًا أن يذكروا كلمة واحدة في الشرع وفي اللسان جاء استعمالها كاستعمال الحديث وكان التفسير لها كما ذكروا، فإن جاءوا بشيء من ذلك قلنا: صدقوا وألا فلا مهرب لهم من اقتحام الحقيقة والرضاء بالأمر الوقع والحق الذي لا غضاضة على قابله، قال الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته (ص50) : حديث الأعمى لا حجة لهم، أي لمجوزي التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم فيه فإنه صريح في أنه إنما توسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته وهو طلب من النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء وقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول ((اللهم شفعه فيَّ)) ولهذا رد الله عليه بصره لما دعا له النبي صلى الله عليه وسلم وكان ذلك يعد من آيات النبي صلى الله عليه وسلم ودعاء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في الاستسقاء المشهور بين المهاجرين والأنصار، وقوله: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا. يدل على أن التوسل المشروع عندهم هو التوسل بدعائه وشفاعته لا السؤال بذاته إذ لو كان هذا مشروعًا لم يعدل عمر والمهاجرون والأنصار عن السؤال بالرسول إلى السؤال بالعباس - انتهى. وأما رواية الطبراني التي استدلوا بها على جواز التوسل به صلى الله عليه وسلم بعد مماته فيجاب عنها بما قال أيضًا شيخ الإسلام (ص83) من أنه لا حجة فيها إذ الاعتبار بما رواه الصحابي لا بما فهمه إذا كان اللفظ الذي رواه لا يدل على ما فهمه بل على خلافه، ومعلوم أن الواحد بعد موته إذا قال ((اللهم فشفعه في وشفعني فيه)) مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدع له كان هذا كلامًا باطلاً مع أن عثمان بن حنيف لم يأمره أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا ولا أن يقول ((فشفعه فيَّ)) ولم يأمره بالدعاء على وجهه وإنما أمره ببعضه، وليس هناك من النبي صلى الله عليه وسلم شفاعة ولا ما يظن أنه شفاعة فلو قال بعد موته ((فشفعه في)) لكان كلامًا لا معنى له، ولهذا لم يأمر به عثمان، والدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر به، والذي أمر به ليس مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومثل هذا لا تثبت به شريعة كسائر ما ينقل عن آحاد الصحابة في حسن العبادات أو الإباحات أو الايجابات أو التحريمات إذا لم يوافقه غيره من الصحابة عليه، وكان ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم يخالفه لا يوافقه لم يكن فعله سنة يجب على المسلمين إتباعها، بل غايته أن يكون ذلك مما يسوغ فيه الاجتهاد ومما تنازعت فيه الأمة فيجب رده إلى الله والرسول، ولهذا نظائر كثيرة ثم ذكرها، ثم قال (ص86) : يجب فيما تنازع فيه الصحابة الرد إلى الله والرسول فلا يكون شريعة للأمة إلا ما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن قال من العلماء ((إن قول الصحابي حجة)) فإنما قاله إذا لم يخالفه غيره من الصحابة ولا عرف نص يخالفه، ثم إذا اشتهر ولم ينكروه كان إقراراً على القول فقد يقال هذا إجماع إقراري إذا عرف أنهم أقروه ولم ينكره أحد منهم وهم لا يقرون على باطل، وأما إذا لم يشتهر فهذا إن عرف أن غيره لم يخالفه فقد يقال هو حجة، وأما إذا عرف أنه خالفه فليس بحجة
..............................................................................................
ــ
بالاتفاق، وأما إذا لم يعرف هل وافقه غيره أو خالفه لم يجزم بأحدهما، ومتى كانت السنة تدل على خلافه كانت الحجة في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا فيما يخالفها بلا ريب عند أهل العلم، وإذا كان كذلك فمعلوم أنه إذا ثبت عن عثمان بن حنيف أو غيره أنه جعل من المشروع المستحب أن يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته من غير أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم داعيًا له ولا شافعًا فيه فقد علمنا أن عمر وأكابر الصحابة لم يروا هذا مشروعًا بعد مماته كما كان يشرع في حياته بل كانوا في الاستسقاء في حياته يتوسلون به فلما مات لم يتوسلوا به بل قال عمر في دعائه الصحيح المشهور الثابت باتفاق أهل العلم بمحضر من المهاجرين والأنصار في عام الرمادة المشهورة لما اشتدت بهم الجدب حتى حلف عمر لا يأكل سمنًا حتى يخصب الناس، ثم لما استسقي بالناس قال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. فيسقون، وهذا دعاء أقره عليه جمع الصحابة، لم ينكره أحد مع شهرته، وهو من أظهر الإجماعات الإقرارية، ودعا بمثله معاوية بن أبي سفيان في خلافته لما استسقى بالناس فلو كان توسلهم بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد مماته كتوسلهم في حياته لقالوا: كيف نتوسل بمثل العباس ويزيد بن الأسود ونحوهما؟ ونعدل عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أفضل الخلائق وهو أفضل الوسائل وأعظمها عند الله، فلما لم يقل ذلك أحد منهم وقد علم أنهم في حياته إنما توسلوا بدعائه وشفاعته وبعد مماته توسلوا بدعاء غيره وشفاعة غيره علم أن المشروع عندهم التوسل بدعاء المتوسل به لا بذاته، وحديث الأعمى حجة لعمر وعامة الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، فإنه إنما أمر الأعمى أن يتوسل إلى الله بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ودعاته لا بذاته، وقال له في الدعاء: قل ((اللهم فشفعه فيَّ)) . وإذا قدر أن بعض الصحابة أمر غيره أن يتوسل بذاته لا بشفاعته يأمر بالدعاء المشروع بل ببعضه وترك سائره المتضمن التوسل بشفاعته كان ما فعله عمر بن الخطاب هو الموافق لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان المخالف محجوجًا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الحديث الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم حجة عليه لا له والله أعلم. وقال في (ص74) : وليس مجرد كون الدعاء حصل به المقصود ما يدل على أنه سائغ في الشريعة فإن كثيرًا من الناس يدعون من دون الله من الكواكب والمخلوقين ويحصل ما يحصل من غرضهم، وبعض الناس يقصد الدعاء عند الأوثان والكنائس وغير ذلك، ويدعو التماثيل التي في الكنائس، ويحصل ما يحصل من غرضه، وبعض الناس يدعو بأدعية محرمة باتفاق المسلمين ويحصل ما يحصل من غرضه. وقال في (ص109) : حديث الأعمى فيه التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى الله في الدعاء فمن الناس من يقول: هذا يقضي جواز التوسل به مطلقًا حيًا وميتًا وهذا يحتج به من يتوسل بذاته بعد موته وفي مغيبه ويظن هؤلاء أن توسل الأعمى والصحابة في حياته كان بمعنى الإقسام به على الله أو بمعنى أنهم سألوا الله بذاته أن يقضي حوائجهم ويظنون أن التوسل به لا يحتاج إلى أن يدعو هو لهم ولا إلى أن يطيعوه فسواء عند هؤلاء دعا الرسول لهم أو لم يدع، الجميع عندهم توسل به، وسواء أطاعوه أو لم يطيعوه، ويظنون أن الله تعالى يقضي حاجة هذا الذي توسل به بزعمهم ولم يدع له الرسول كما يقضي حاجة هذا الذي توسل بدعائه ودعا له الرسول صلى الله عليه وسلم إذ
..............................................................................................
ــ
كلاهما متوسل به عندهم ويظنون أن كل من سأل الله بالنبي صلى الله عليه وسلم فقد توسل به كما توسل به ذلك الأعمى، وأن ما أمر به الأعمى مشروع لهم وقول هؤلاء باطل شرعًا وقدرًا، فلا هم موافقون لشرع الله ولا ما يقولون مطابق لخلق الله. ومن الناس من يقولون هذه قضية عين يثبت الحكم في نظائرها التي تشبهها في مناط الحكم لا يثبت الحكم بها فيما هو مخالف لها لا مماثل لها. والفرق ثابت شرعًا وقدرًا بين من دعا له النبي صلى الله عليه وسلم وبين من لم يدع له، ولا يجوز أن يجعل أحدهما كالآخر، وهذا الأعمى شفع له النبي صلى الله عليه وسلم فلهذا قال في دعائه:((اللهم فشفعه في)) فعلم أنه شفيع فيه ولفظه ((إن شئت صبرت وإن شئت دعوت لك، فقال: ادع لي)) فهو طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي وأن يدعو هو أيضًا لنفسه ويقول في دعاته: ((اللهم فشفعه فيَّ)) فدل ذلك على أن معنى قوله ((أسالك وأتوجه إليك بنبيك محمد)) ، أي بدعائه وشفاعته كما قال عمر ((اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا)) فالحديثان معناهما واحد فهو صلى الله عليه وسلم علم رجلاً أن يتوسل به في حياته كما ذكر عمر أنهم كانوا يتوسلون به إذا أجدبوا، ثم إنهم بعد موته إنما كانوا يتوسلون بغيره بدلاً عنه، فلو كان التوسل به حيًا وميتًا سواء والمتوسل به الذي دعا له الرسول كمن لم يدع له الرسول لم يعدلوا عن التوسل به وهو أفضل الخلق وأكرمهم على ربه وأقربهم إليه وسيلة إلى أن يتوسلوا بغيره ممن ليس مثله، وكذلك لو كان أعمى توسل به ولم يدع له الرسول بمنزلة ذلك الأعمى كان عميان الصحابة أو بعضهم يفعلون مثل ما فعل الأعمى، فعدو لهم عن هذا إلى هذا مع إنهم السابقون المهاجرون والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان فإنهم أعلم منا بالله ورسوله وبحقوق الله ورسوله وما يشرع من الدعاء وينفع وما لم يشرع ولا ينفع وما يكون أنفع من غيره وهم في وقت ضرورة ومخمصة وجدب يطلبون تفريج الكربات وتيسير العسير وإنزال الغيث بكل طريق ممكن دليل على أن المشروع ما سألوه دون ما تركوه، وذلك أن التوسل به حيًا هو من جنس مسألته أن يدعو لهم وهذا مشروع، فما زال المسلمون يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته أن يدعو لهم، وأما بعد موته فلم يكن الصحابة يطلبون منه الدعاء لا عند قبره ولا عند غير قبره كما يفعله كثير من الناس عند قبور الصالحين، يسأل أحدهم حاجته أو يقسم على الله به، ونحو ذلك وإن كان روى في ذلك حكايات عن بعض المتأخرين - انتهى. وأما ما استدل بالحديث على جواز دعاء غير الله وندائه من الأموات والغائبين فيجاب عنه بعد افتراض كون الحديث حسنًا بما قال الطيبي من أن قوله ((إني توجهت بك إلى ربي)) بعد قوله ((أتوجه إليك بنبيك)) فيه معنى قوله تعالى {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَاّ بِإِذْنِهِ} (- 2: 255) فيكون خطابًا لحاضر معاين في قلبه مرتبط بما توجه به عند ربه من سؤال نبيه عليه الصلاة السلام الذي هو عين شفاعته ولذلك أتى بالصيغة الماضوية بعد الصيغة المضارعية المفيد كل ذلك أن هذا الداعي قد توسل بشفاعة نبيه عليه الصلاة والسلام فكأنه استحضر وقت ندائه ومثل ذلك كثير في المقامات الخطابية والقرائن الاعتبارية كما يقول المصلي في تشهده ((السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته)) . ونقل السويدي عن اقتضاء الصراط المستقيم لشيخ الإسلام ابن تيمية: أن الإنسان يفعل مثل هذا كثيرًا يخاطب من يتصوره في نفسه وإن لم يكن في الخارج من يسمع
2520-
(15) وعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان من دعاء داود يقول: اللهم إني أسالك حبك، وحب من يحبك، والعمل الذي يبلغني حبك، اللهم اجعل حبك أحب إليَّ من نفسي ومالي وأهلي، ومن الماء البارد قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر داود يحدث عنه يقول: كان أعبد البشر.
ــ
الخطاب وقد تقدم بسط ذلك في شرح حديث ابن مسعود (ج2 ص 472، 473) فنذكر، وقد علم بما ذكرنا أن النداء المذكور ليس مما يدعيه ويفعله أهل البدع من دعاء الأنبياء وندائهم وخطابهم معتقدين حضورهم في الخارج للاستعانة والاستعانة بهم في تفريج الكرب وقضاء الحوائج، وهذا ظاهر جلي إلا لأهل الجدل والعناد.
2520-
قوله (يقول) اسم كان بحذف أن، أي قوله ((اللهم إني أسالك حبك)) من إضافة المصدر إلى الفاعل أو المفعول، أي حبك إياي أو حبي إياك والأول أظهر إذ فيه تلميح إلى قوله تعالى:{يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (- 5: 54) قاله القاري: ((وحب من يحبك)) كما سبق، أما الإضافة إلى المفعول فهو ظاهر كمحبتك للعلماء والصلحاء، وأما الإضافة إلى الفاعل فهو مطلوب أيضًا كما ورد في الدعاء ((حببنا إلى أهلها وحبب صالحي أهلها إلينا)) (والعمل) بالنصب عطف على المفعول الثاني ويحتمل الجر عطفًا على من يحبك، أي وحب العمل من إضافة المصدر إلى مفعوله فقط، ويؤيده حديث معاذ بن جبل عند الترمذي في تفسير ص بلفظ: وأسالك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقرب إلى حبك (الذي يبلغني) بتشديد اللام، أي يوصلني ويحصل لي (حبك) يحتمل لاحتمالين (اللهم اجعل حبك) أي حبي إياك (أحب إليَّ من نفسي ومالي) أي من حبهما حتى أوثره عليهما ((وأهلي)) كذا وقع في نسخ المشكاة الحاضرة عندنا ((من نفسي ومالي وأهلي)) وهكذا في جامع الأصول (ج5 ص110) وجمع الفوائد (ج2 ص658) ، وفي الترمذي ((من نفسي وأهلي)) ، أي بدون لفظة ((ومالي)) وهكذا عند الحاكم (ج2 ص433) ، وكذا ذكر ابن الجزري في الحصن. قال في اللمعات قوله ((من نفسي)) ، أي من حب نفسي، والمراد اجعل حب نفسك أحب إليَّ من نفسي لكنه لم يقل كذلك وإن جاز إطلاقه عليه مشاكلة لغاية التأدب - انتهى. قلت: وقع إطلاقه عليه في الحديث من غير مشاكلة أيضًا ((أنت كما أثنيت على نفسك)) (ومن الماء البارد) أعاد ((من)) ها هنا ليدل على استقلال الماء البارد في كونه محبوبًا وذلك في بعض الأحيان فإنه يعدل بالروح. قال في اللمعات: فيه مبالغة لأن حب الماء البارد طبيعي لا اختيار فيه، ففيه إشارة إلى سراية المحبة إلى الطبيعة أيضًا وذلك أكمل مراتب المحبة (قال) أي أبو الدرداء:(إذا ذكر)، أي هو (داود يحدث عنه) أي يحكي (يقول) بدل من يحدث ذكره الطيبي. قال القاري: والأظهر أنه حال من الضمير في يحدث، وفي الترمذي ((قال)) مكان ((يقول)) وفي المستدرك ((وكان إذا ذكر داود وحدث عنه قال)) وهذا يدل على أن قوله ((يحدث)) في رواية الترمذي حال من الضمير في ((ذكر)) وقوله ((يقول)) أو ((قال)) جزاء للشرط، وعلى قول الطيبي والقاري يكون ((يحدث)) جزاء للشرط ولا يخفي ما فيه (كان) أي داود (أعبد البشر) أي أكثرهم عبادة في زمانه كذا قيد الطيبي. قال القاري: وعلى تقدير الإطلاق لا محذور فيه إذ لا يلزم من الأعبدية الأعلمية فضلاً عن الأفضلية.
رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب.
2521-
(16) وعن عطاء بن السائب عن أبيه قال: صلى بنا عمار بن ياسر صلاة فأوجز فيها، فقال له بعض القوم: لقد خففت وأوجزت
ــ
وقيل: أي أشكر شكرًا، قال تعالى:{اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً} (- 34: 13) أي بالغ في شكر وابذل وسعك فيه كذا ذكره الطيبي، وتعقبه القاري (رواه الترمذي) في جامع الدعوات، وأخرجه أيضًا الحاكم في تفسير سورة ص (ج2 ص433) كلاهما من رواية محمد بن سعد الأنصاري عن عبد الله بن ربيعة الدمشقي عن عائذ الله أبي إدريس الخولاني عن أبي الدرداء (وقال: هذا حديث حسن غريب) وقال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه فرده الذهبي بأن عبد الله هذا قال أحمد: أحاديثه موضوعة - انتهى. وقال الحافظ: في التقريب عبد الله بن ربيعة بن يزيد الدمشقي، وقيل ابن يزيد بن ربيعة مجهول، وروى البخاري قوله: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر داود قال: كان أعبد البشر، من هذا الطريق في التاريخ الكبير (1/3/228) ، في ترجمة عبد الله بن يزيد بن ربيعة الدمشقي ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً، وذكره ابن حبان في الثقات كما يظهر من التهذيب (ج5 ص208) وعلى كل حال لا يخلو تحسين الترمذي وتصحيح الحاكم لهذا الحديث عن النظر.
2521-
قوله: (وعن عطاء بن السائب) الثقفي الكوفي يكنى أبا محمد، وقيل: أبا السائب. قال الحافظ في التقريب: صدوق اختلط، مات سنة ست وثلاثين ومائة. قلت: من سمع منه قديمًا فهو صحيح الحديث منهم الثوري وشعبة وزائدة وحماد بن زيد، فأما من سمع منه بآخره ففي حديثهم نظر، ومنهم جرير وهشيم وابن علية، واختلف حماد بن سلمة فقيل سمع منه قبل الاختلاط وقيل بعده. وقال الحافظ في تهذيب التهذيب (ج7 ص207) بعد ذكر أقوال أئمة الجرح والتعديل في ذلك فيحصل لنا من مجموع كلامهم أن سفيان الثوري وشعبة وزهيرًا وزائدة وحماد بن زيد وأيوب عنه صحيح، ومن عداهم يتوقف فيه إلا حماد بن سلمة فاختلف قولهم والظاهر أنه سمع منه مرتين مرة مع أيوب كما يؤمى إليه كلام الدارقطني حيث قال: دخل عطاء البصرة مرتين فسماع أيوب وحماد بن سلمة في الرحلة الأولى صحيح - انتهى. ومرة بعد ذلك لما دخل إليهم البصرة وسمع منه جرير وذويه، والله أعلم (عن أبيه) أي السائب بن مالك أو ابن زيد أو ابن يزيد أبي يحيى ويقال أبو كثير ويقال أبو عطاء الثقفي الكوفي ثقة من كبار التابعين، روى عن علي وسعد وعمار بن ياسر وعبد الله بن عمرو بن العاص وغيرهم، وعنه ابنه عطاء وأبو إسحاق السبيعي وأبو البختري (فأوجز) أي اقتصر (فيها) ، أي مع إتمام أركانها وسننها (فقال له بعض القوم) ، أي ممن حضرها (لقد خففت) بالتشديد، قال القاري: أي الأركان بأن فعلت ما يطلق عليها الركن (وأوجزت) أي اقتصرت بأن أتيت بأقل ما يؤدي به السنن، وقوله
الصلاة، فقال: أما على ذلك، لقد دعوت فيها بدعوات سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قام تبعه رجل من القوم
ــ
(الصلاة) تنازع فيه الفعلان. قلت: قوله ((وأوجزت)) كذا وقع في جميع نسخ المشكاة أي بواو العطف، والذي في النسائي ((أو أوجزت)) أي بأو بدل الواو. قال في اللمعات: قوله ((وأوجزت الصلاة)) يشبه أن يكون بتخفيف الدعاء فيه كما ينظر إليه سياق الحديث، ويحتمل أن يكون بإيجاز القراءة ويكون المعنى وإن أوجزت الصلاة بتخفيف القراءة فيها لكني دعوت بدعوات تجبر النقصان كما قيل إن النوافل تكمل الفرائض - انتهى. ولأحمد والنسائي من طريق أبي مجلز عن عطاء قال: صلى بنا عمار صلاة فأوجز فيها فأنكروا ذلك فقال: ألم أتم الركوع والسجود؟ قالوا: بلي. قال الشوكاني: قوله: ((فأوجز فيها)) لعله لم يصاحب هذا الإيجاز تمام الصلاة على الصفة التي عهدوا عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وألا لم يكن للإنكار عليه وجه، فقد ثبت من حديث أنس في مسلم وغيره أنه قال: ما صليت خلف أحد أوجز صلاة من رسول الله صلى الله عليه وسلم في تمام. وقوله ((فأنكروا ذلك)) فيه جواز الإنكار على من أخف الصلاة من دون استكمال، وقوله ((ألم أتم الركوع والسجود؟ قالوا: بلى)) فيه إشعار بأنه لم يتم غيرهما ولذلك أنكروا عليه (فقال: أما) بالتخفيف (عليَّ) بالتشديد (ذلك) وجه الطيبي هذه العبارة بثلاثة وجوه: أحدها أن الهمزة يحتمل أن تكون للإنكار كأنه قال: أتقول هذا وتنكرون عليَّ؟ وما عليَّ ضرر من ذلك، قال الشيخ الدهلوي: يعنى قوله ((ما عليَّ ذلك)) جملة حالية والواو مقدرة ولا حاجة إلى تقديرها فقد يقع حالاً بدون الواو نحو كلمته فوه إلى في، وكان تقديره الواو إشارة إلى كونها حالاً، وقوله ((ضرر من ذلك)) بيان لحاصل المعنى. وثانيها أن يكون الهمزة لنداء القريب، والمنادي محذوف، أي يا فلان ليس عليَّ ضرر من ذلك. وثالثها أن يكون أما للتنبيه، ثم قال عليَّ بيان ذلك فتدبر - انتهى. وفي المستدرك ((ما عليَّ في ذلك)) أي بدون الهمزة وبزيادة في قبل ذلك (لقد دعوت) كذا في جميع النسخ، وللنسائي ((أما عليَّ ذلك فقد دعوت)) قال السندي: أي أما مع التخفيف والإيجاز فقد دعوت، ألخ. وأما على تقدير اعتراضكم بالتخفيف فأقول قد دعوت، ألخ. والظاهر أن أما هذه لمجرد التأكيد وليس لها عديل في الكلام كأما الواقع في أوائل الخطب في الكتب بعد ذكر الحمد والصلاة من قولهم أما بعد فكذا (فيها) أي في أواخرها أو سجودها، قاله القاري. ومال النسائي إلى الأول حيث أورد هذا الحديث في أثناء أبواب الدعاء بعد التشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (بدعوات) قال السندي: جمع الدعوات باعتبار أن كل كلمة دعوة بفتح الدال، أي مرة من الدعاء فإن الدعوة للمرة كالجلسة (سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال القاري: أي داخلها أو خارجها، وفي المسند وكذا في رواية للنسائي ((أما إني قد دعوت فيها بدعاء كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو به)) قال الشوكاني: يحتمل أنه كان يدعو به في الصلاة ويكون فعل عمار قرينة تدل على ذلك ويحتمل أنه كان يدعو به من غير تقييد بحال الصلاة كما هو الظاهر من كلام (فلما قام) أي عمار (تبعه رجل من القوم) إلى هنا قول السائب عبَّر عن نفسه
هُوَ أُبَيٌّ غَيْرَ أَنَّهُ كَنَى عَنْ نَفْسِهِ فَسَأَلَهُ عَنْ الدُّعَاءِ ثُمَّ جَاءَ فَأَخْبَرَ بِهِ الْقَوْمَ: اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ أَحْيِنِي مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا عَلِمْتَ الْوَفَاةَ خَيْرًا لِي اللَّهُمَّ وَأَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَأَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ وَأَسْأَلُكَ الْقَصْدَ
ــ
برجل من القوم ولذا فسره عطاء بقوله (هو أُبَيّ) ، أي ذلك الرجل الذي تبع عمارًا هو أبي أي السائب (غير أنه) ، أي أبي (كنى عن نفسه)، أي برجل فقال: تبعه رجل ولم يقل تبعته، ثم قال السائب (فسأله) أي الرجل عمارًا (عن الدعاء) ، أي فأخبره (ثم جاء) ، أي الرجل (فأخبر به) ، أي بالدعاء (اللهم) ، أي وهو هذا (بعلمك الغيب) ، أي المغيبات عن خلقك فضلاً عن المشاهدات، والباء للاستعطاف والتذلل، أي أنشدك بحق علمك ما خفي على خلقك مما استأثرت به (وقدرتك على الخلق) أي بقدرتك على خلق كل شيء تتعلق به مشيئك أو على جميع المخلوقات بأن تفعل فيهم ما تقضي إرادتك، وفيه دليل على جواز التوسل إليه تعالى بصفات كماله وخصال جلاله (أحيني) أي أمدني بالحياة (ما علمت الحياة) ما مصدرية ظرفية (خيرًا لي) بأن يغلب خيري على شري ((وتوفني إذا علمت الوفاة خيرًا لي)) بأن تغلب سيئاتي على حسناتي أو بأن تقع الفتن ما ظهر منها وما بطن، قاله القاري وعبر بما في الحياة لاتصافه بالحياة حالاً وبإذا الشرطية في الوفاء لانعدامها حال التمني إذا آل الحال إلى أن تكون الوفاة بهذا الوصف فتوفني، قلت قوله ((أحيني)) إلى قوله ((خيرًا لي)) ثابت في الصحيحين من حديث أنس بلفظ ((اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي)) وهو يدل على جواز الدعاء بهذا لكن عند نزول الضرر كما وقع التقييد بذلك في حديث أنس المذكور وقد تقدم في (ج2 ص438)(اللهم وأسألك) عطف على ((أنشدك)) المقدر، أي وأطلب منك و ((اللهم)) معترضة. وقال القاري: والظاهر أن اللهم عطف على الأول بحذف العاطف كما في كثير من الدعوات الحديثية ومنه تكرار ((ربنا)) من غير عاطف في الآيات القرآنية، ولا يضره الواو في قوله ((وأسالك)) لأنها نظيرة الواو في قوله تعالى ((ربنا وآتنا)) (خشيتك) ، أي خوفك (في الغيب والشهادة) أي في السر والعلانية أو في الحالين من الخلوة والجلوة أو في الباطن والظاهر، والمراد استيعابها في جميع الأوقات فإن الخشية رأس كل خير والشأن في الخشية في الغيب لمدحه تعالى من يخافه بالغيب، وقال الشوكاني: أي في مغيب الناس وحضورهم لأن الخشية بين الناس فقط ليست من الخشية لله بل من خشية الناس (وأسألك كلمة الحق) ، أي النطق بالحق (في الرضا والغضب) ، أي في حالتي رضا الخلق مني وغضبهم عليَّ فيما أقوله فلا أداهن ولا أنافق، أو في حالتي رضاي وغضبي بحيث لا تلجئني شدة الغضب إلى النطق بخلاف الحق ككثير من الناس إذا اشتد غضبه أخرجه من الحق إلى الباطل، والمعنى أسألك أن أكون مستمرًا على النطق بالحق في جميع أحوالي وأوقاتي. قال الشوكاني: جمع بين الحالتين لأن الغضب ربما حال بين الإنسان وبين الصدع بالحق، وكذلك الرضا ربما قاد في بعض الحالات إلى المداهنة وكتم كلمة الحق (القصد) أي الاقتصاد
فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ وَأَسْأَلُكَ قُرَّةَ عَيْنٍ لَا تَنْقَطِعُ وَأَسْأَلُكَ الرِّضَاءَ بَعْدَ الْقَضَاءِ وَأَسْأَلُكَ بَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ
ــ
وهو التوسط بلا إفراط وتفريط (في الفقر والغنى) لأن المختار أن الكفاف أفضل من الفقر ومن الغنى قاله في اللمعات، وقال المناوي: القصد أي التوسط في الفقر والغنى هو الذي ليس معه إسراف ولا تقتير، فإن الغنى يبسط اليد ويطغي النفس، والفقر يكاد أن يكون كفرًا، فالتوسط هو المحبوب المطلوب. وقال الشوكاني: القصد في كتب اللغة بمعنى استقامة الطريق والاعتدال، وبمعنى ضد التفريط وهو المناسب هنا لأن بطر الغني ربما جر إلى الإفراط وعدم الصبر على الفقر ربما أوقع في التفريط فالقصد فيهما هو الطريقة القويمة (لا ينفد) بفتح الفاء وبالدال المهملة أي لا يفنى ولا ينقضي ولا ينقص، وذلك ليس إلا نعيم الآخرة، وأما غيره فكل نعيم لا محالة زائل (قرة عين لا تنقطع) يحتمل أن يراد الذرية التي لا تنقطع بعده، بل تستمر ما بقيت الدنيا. ولعله مأخوذ من قوله تعالى {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} (25: 74) وقيل: أراد المداومة على الصلاة والمحافظة عليها لقوله ((وجعلت قرة عيني في الصلاة)) أو المراد ثواب الجنة الذي لا ينقطع فيكون تأكيدًا لقوله ((نعيمًا لا ينفد)) فيكون بعد تخصيصًا بعد تعميم، وقيل: أراد قرة عينه أي بدوام ذكر الله وكمال محبته والأنس به (وأسألك الرضاء) بالمد، وفي المستدرك الرضى أي بالقصر. قال الجوهري: الرضى مقصورًا مصدر محض والاسم الرضاء ممدودًا (بعد القضاء) وفي رواية للنسائي الرضاء بالقضاء أي بما قدرته لي في الأزل لأتلقاه بوجه منبسط وخاطر منشرح وأعلم أن كل قضاء قضيته لي فلي فيه خير، قيل في وجه الأول: كأنه طلب الرضاء بعد تحقق القضاء وتقرره (برد العيش) أي طيبه وحسنه (بعد الموت) برفع الروح إلى منازل السعداء ومقامات المقربين، والعيش في هذه الدار لا يبرد لأحد بل محشو بالغصص والكدر والنكد ممحوق بالآلام الباطنة والأسقام الظاهرة (لذة النظر إلى وجهك) قال الطيبي: قيد النظر باللذة لأن النظر إلى الله تعالى إما نظر هيبة وجلال في عرصات القيامة، وإما نظر لطف وجمال في الجنة ليؤذن بأن المراد هذا، وفيه أعظم دليل على رؤية الله تعالى في الدار الآخرة كما هو مذهب أهل السنة والجماعة (والشوق إلى لقاءك) أي الاشتياق إلى ملاقاتك في دار المجازاة. قال الشوكاني: إنما سأله ع لأنه من موجبات محبة الله تعالى للقاء عبده لحديث ((من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه)) ومحبة الله تعالى من أسباب المغفرة. وقال ابن القيم: جمع في هذا الدعاء بين أطيب ما في الدنيا وهو الشوق إلى لقاءه، وأطيب ما في الآخرة وهو النظر إليه، ولما كان كلامه موقوفًا على عدم ما يضر في الدنيا ويفتن في الآخرة قال (في غير ضراء) أي شدة، وقيل: أي الحالة التي تضر وهي نقيض السراء وهما بناءان للمؤنث ولا مذكر لهما (مضرة) اسم فاعل من أضر والجار إما متعلق بقوله ((والشوق إلى لقاءك)) أي أسألك شوقًا لا يؤثر في سيري وسلوكي بحيث يمنعني عن ذلك وأن يضرني مضرة، وإما متعلق بأحيني، الثاني أظهر معنى وأقرب لفظًا
وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ. رواه النسائي.
2522-
(17) وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ الْفَجْرِ:
ــ
ويؤيد الثاني ما وقع عند أحمد والنسائي أيضًا بلفظ: أعوذ بك من ضراء مضرة. وقال الطيبي متعلق الظرف مشكل ولعله متصل بالقرينة الأخيرة وهي ((الشوق إلى لقاءك)) ، سأل شوقًا إليه بحيث يكون في ضراء غير مضرة أي شوقًا لا يضر في سيري وسلوكي، وإن ضرني مضرة ما، فإن الشوق قد يفضي إلى ذلك عند غلبة الحال وتهيج السكر وهو المراد بفتنة مضلة، ويجوز أن يتصل بقوله: أحيني
…
إلى آخره حتى يتعلق بالكل أي أحيني متلبسًا بنعمك المذكورة حال عدم كوني في ضراء مضرة وهي البلية لا أصبر عليها (ولا فتنة مضلة) أي موقعة في الحيرة والضلال ومفضية إلى الهلاك، وقد وقع عند أحمد والنسائي في رواية: وأعوذ بك من ضراء مضرة وفتنة مضلة. قال الشوكاني: إنما قيد ضراء بمضرة لأن الضراء ربما كانت نافعة آجلاً أو عاجلاً فلا يليق الاستعاذة منها أي مطلقًا، ووصف الفتنة بالمضلة لأن من الفتن ما يكون من أسباب الهداية، وهي بهذا الاعتبار مما لا يستعاذ منه. قال أهل اللغة: الفتنة الامتحان والاختبار (زيِّنا) بتشديد الياء المكسورة والنون (بزينة الإيمان) أي بثباته وتوفيق الطاعة وحيلة الإحسان. قال المناوي: وهي زينة الباطن ولا معول إلا عليها لأن الزينة زينتان زينة البدن وزينة القلب وهي أعظمها قدرًا وإذا حصلت زينة البدن على أكمل وجه في العقبى، ولما كان كمال العبد في كونه عالمًا بالحق متبعًا له معلمًا لغيره قال (واجعلنا هداة) جمع هاد أي هادين إلى الدين (مهتدين) أي ثابتين على الهداية وطريق اليقين. قال الطيبي: وصف الهداة بالمهتدين لأن الهادي إذا لم يكن مهتديًا في نفسه لم يصلح أن يكون هاديًا لغيره لأنه يوقع الناس في الضلال من حيث لا يشعر. قلت: ومن حيث لا يشعرون (رواه النسائي) في الصلاة من طريق حماد عن عطاء بن السائب عن أبيه. وأخرجه أيضًا الحاكم (ج1: ص524) من هذا الطريق، وسماه حماد بن زيد، وقال: حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي، وأخرجه أحمد (ج4: ص264) من طريق أبي هاشم عن أبي مجلز، قال: صلى بنا عمار صلاة فأوجز فيها، والنسائي أيضًا من طريق أبي مجلز عن قيس بن عباد قال: صلى عمار ابن ياسر بالقوم صلاة أخفها، وهذا يدل على أن طريق أحمد فيها انقطاع، والله أعلم، ورواه أبو يعلى أيضًا قال الهيثمي (ج10: ص177) ورجاله ثقات إلا أن عطاء بن السائب اختلط. انتهى. قلت: ولا يضر ذلك فإن الحديث رواه الحاكم من طريق حماد بن زيد وروايته عن عطاء قبل الاختلاط كما تقدم.
2522-
قوله (كان يقول في دبر الفجر) أي في دبر صلاة الفجر، ولفظ أحمد (ج6: 318) ((كان يقول في دبر الفجر إذا صلى)) وفي رواية له ((كان يقول إذا صلى الصبح حين سلم)) وفي رواية ((حين يسلم)) وكذا وقع عند ابن ماجه وللطبراني ((كان يقول بعد صلاة الفجر)) ووقع في بعض نسخ المشكاة ((في دبر صلاة الفجر)) ولم يرد بهذا اللفظ
اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا وَعَمَلًا مُتَقَبَّلًا وَرِزْقًا طَيِّبًا. رواه أحمد، وابن ماجة، والبيهقي في الدعوات الكبير.
2523-
(18) وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ: دُعَاءٌ حَفِظْتَهُ مِن رسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لا أَدَعَهُ: اللهمَّ اجعَلْنِي أُعَظّم شُكْرك،
ــ
في الكتب التي أخرجها أصحابها ولا في جامع الأصول (علمًا نافعًا) أي بالعمل به فيكون حجة لي لا عليَّ. وقال في الحرز: أي شرعيًا أعمل به (وعملاً ومتقبلاً) بفتح الموحدة أي مقبولاً بأن يكون مقرونًا بالإخلاص (ورزقًا طيبًا) أي حلالاً ملائمًا للقوة معينًا على الطاعة. في مختصر الطيبي: فإنه أس لهما ولا يعتد بهما دونه. قال الشوكاني: إنما قيد العلم بالنافع والرزق بالطيب والعمل بالمتقبل لأن كل علم لا ينفع فليس من عمل الآخرة، وربما كان ذرائع الشقاوة ولهذا كان ع يتعوذ من علم لا ينفع، وكل رزق غير طيب موقع في ورطة العقاب، وكل عمل غير متقبل إتعاب للنفس. انتهى. وقوله ((اللهم إني أسألك علمًا نافعًا)) إلخ. كذا وقع بتقديم العلم والعمل على الرزق عند أحمد (ج6: ص294، 319) وهكذا عند ابن السني، ووقع عند أحمد أيضًا (ج6: ص305، 322) ، وابن ماجة بتقديم الرزق على العمل وتأخيره عن العلم، وعند الطبراني في الصغير بتقديم الرزق على العلم والعمل وهذا الترتيب هو الظاهر، وأما ما وقع في الروايات الأخرى فلعله من تصرف الرواة، والحديث دليل صريح على مشروعية الدعاء بعد السلام من الصلاة المكتوبة (رواه أحمد) (ج6: ص294، 305، 319، 322) (وابن ماجة) في الصلاة (والبيهقي في الدعوات الكبير) وأخرجه أيضًا ابن السني (ص38) وابن أبي شيبة كما في النيل (ج2: ص204) كلهم من رواية موسى بن أبي عائشة عن مولى لأم سلمة عن أم سلمة. قال الشوكاني: رجاله ثقات لولا جهالة مولى أم سلمة. ونقل السندي عن البوصيري أنه قال في الزوائد: رجال إسناده ثقات خلا مولى أم سلمة فإنه لم يعرف ولم أر أحدًا ممن صنف في المبهمات ذكره ولا أدري ما حاله - انتهى. ورواه الطبراني في معجمه الصغير (ص152) من طريق عامر بن إبراهيم بن واقد الأصبهاني عن النعمان ابن عبد السلام عن الثوري عن منصور عن الشعبي عن أم سلمة. وهذا سند جيد. قال الهيثمي بعد ذكر الحديث (ج10: ص111) : رواه الطبراني في الصغير ورجاله ثقات.
2523-
قوله (دعاء) مبتدأ (حفظته من رسول الله ع) صفة للمبتدأ مسوغ وخبره قوله (لا أدعه) أي لا أتركه لنفاسته، ولأحمد (ج2: ص311) : دعوات سمعتها من رسول الله ع لا أتركها ما عشت حيًا سمعته يقول: اللهم، إلخ (اللهم اجعلني أعظم) بالتخفيف والتشديد ورفع الميم وهو مفعول ثان بتقدير أن أو بغيره أي معظمًا (شكرك) أي وفقني لإكثاره والدوام على استحضاره لأكون قائمًا بما وجب عليَّ من شكر نعمائك التي لا تحصى. قال الطيبي:
وأكثر ذكرك، وأتبع نصحك، وأحفظ وصيتك. رواه الترمذي.
2524-
(19) وعن عبد الله بن عمرو قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم إني أسألك الصحة والعفة،
ــ
اجعلني بمعنى صيرني ولذلك أتى بالمفعول الثاني فعلاً لأن صار من دواخل المبتدأ والخبر (وأكثر) مخففًا ومشددًا (ذكرك) أي لسانًا وجنانًا وهو يحتمل أن يكون تخصيصًا بعد تعميم وقيل إن بينهما عمومًا وخصوصًا من وجه (وأتبع) بتشديد التاء وكسر الموحدة من الإتباع وبسكون الأولى وفتح الثانية (نصحك) بضم النون كذا وقع في جميع النسخ من المشكاة وهكذا في جامع الأصول، والذي في الترمذي والمسند ((نصيحتك)) أي بامتثال ما يقربني إلى رضاك ويبعدني عن غضبك. وقال شيخنا: النصيحة هي الخلوص وإرادة الخير للمنصوح له والإضافة يحتمل أن يكون إلى الفاعل وإلى المفعول والأول أظهر (وأحفظ وصيتك) بملازمة فعل المأمورات وتجنب المنهيات أو المذكورة في قوله تعالى {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللهَ} (- 4: 131) فإنها للأولين والآخرين وهي التقوى، أو بالتسليم لله العظيم في جميع الأمور والرضا بالمقدور على ممر الدهور. وقال الطيبي: النصيحة هي إرادة الخير للمنصوح له فيراد بها حقوق العباد وبالوصية متابعة الأمر والنهي من حقوق الله تعالى والله أعلم (رواه الترمذي) في الدعوات من طريق الفرج بن فضالة عن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة، وقال حديث غريب، وأخرجه أيضًا أحمد (ج2 ص311) من رواية الفرج عن أبي سعيد المديني عن أبي هريرة قال الشيخ أحمد شاكر في شرح المسند: إسناده ضعيف جدًا الفرج بن فضالة ضعيف منكر الحديث، وأبو سعيد المديني ذكر الحافظ ابن كثير في جامع المسانيد والسنن أنه ((مولي عبد الله بن عامر بن كريز)) وقد يكون هو وقد يكون غيره من اضطراب الفرج بن فضالة، فإن الحديث سيأتي أي في المسند عن وكيع عن الفرج بن فضالة عن ((أبي سعيد الحمصي)) وكذلك ذكره الحافظ ابن كثير في ترجمة أبي سعيد الحمصي دون أن يبين من هو، ورواية وكيع أيضًا في الترمذي وفيها ((عن أبي سعيد المقبري)) وعندنا أن هذا كله تخليط من الفرج بن فضالة وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10 ص172) وقال: رواه أحمد من طريق أبي يزيد المديني، وفي رواية ((عن أبي سعيد الحمصي ولم أعرفهما، وبقية رجالهما ثقات)) وهكذا قال الهيثمي، فأما أولاً فإن الحديث ليس من الزوائد على الكتب الستة، وقد رواه الترمذي، وثانيًا ليس في المسند ((عن أبي يزيد المديني)) بل هو كما ترى ((حدثنا أبو سعيد المديني)) فإما أن يكون الهيثمي سها، وإما أن يكون خطأ في النسخة التي كانت معه من المسند، وثالثًا ليس بقية رجالهما ثقات وفي الإسنادين الفرج بن فضالة وهو ضعيف - انتهى.
2524-
قوله (وعن عبد الله بن عمرو) بالواو (اللهم إني أسالك الصحة) أي العافية من الأمراض والعاهات وقال القاري: أي صحة البدن من سيء الأسقام أو صحة الأحوال والأقوال والأعمال (والعفة) هي بمعنى العفاف
والأمانة، وحسن الخلق، والرضى بالقدر.
2525-
(20) وعن أم معبد قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
ــ
والعفاف هو التنزه عما لا يباح والكف عنه، وقال المناوي: أي عن المحرمات والمكروهات وما يخل بكمال المروءة (والأمانة) ضد الخيانة والمراد حفظ ما ائتمنت عليه من حقوق الله تعالى وحقوق عباده (وحسن الخلق) بضم اللام وسكونها أي مع الخلق بالصبر على أذاهم وكف الأذى عنهم والتلطف بهم. وقال القاري: أي حسن المعاشرة مع أهل الإسلام (والرضى بالقدر) أي بما قدرته عليَّ في الأزل، وهذا تعليم لأمته وتمرين للنفس على الرضاء بالقضاء وذلك لأمرين الأول: أن يتفرغ العبد للعبادة لأنه إذا لم يرض بالقضاء يكون مهمومًا مشغول القلب أبدًا بأنه لِمَ كان كذا؟ ولماذا لا يكون كذا؟ فإذا اشتغل القلب بشيء من هذه الهموم كيف يتفرغ للعبادة إذ ليس له إلا قلب واحد وقد امتلأ من الهموم وما كان وما يكون فأي محل فيه لذكر العبادة وفكر الآخرة ولقد صدق شقيق في قوله: حسرة الأمور الماضية وتدبير الآتية ذهبت ببركة الساعات. الثاني: خطر ما في السخط من مقت الله وغضبه مع أنه لا فائدة لذلك، إذ القضاء نافذ ولا بد منه رضي العبد أم سخط. والحديث ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10 ص173) وقال: رواه الطبراني (في الكبير) والبزار (في مسنده) وقال: أسألك العصمة بدل الصحة، وفيه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم وهو ضعيف الحديث وقد وثق وبقية رجال أحد الإسنادين رجال الصحيح.
2525-
قوله (وعن أم معبد) بفتح الميم والموحدة - قال الحافظ في الإصابة (ج4 ص476) : أم معبد غير منسوبة، وقيل إنها أنصارية روى حديثها عبد الرحمن بن زياد بن أنعم عن مولى لأم معبد عن أم معبد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو ويقول:((اللهم طهر قلبي من النفاق)) ، إلخ. وأخرجه أبو نعيم وأفردها عن أم معبد الخزاعية الكعبية عاتكة بنت خالد التي نزل عليها النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وتبع أبا نعيم أبو موسى، وأما ابن السكن فذكر الحديث في ترجمة الخزاعة في الأسماء في عاتكة فقال روى عن مولي لأم معبد عن أم معبد حديث في الدعاء فذكره، ثم قال في الكنى: أم معبد الأنصارية وليست صاحبة الخيمتين يعني الخزاعية، ثم ساق الحديث عن شيخ آخر بالسند والمتن بعينه، ثم قال: لم أجد لأم معبد هذه حديثًا غير هذا. وفي إسناده نظر وهو كما قال، ثم قال: وقد روى عن ابن الحارث عن أم معبد مولاة قرظة حديث في الظروف ولست أدرى هي هذه أو غيرها فتناقض في ذلك مع جلالته في الحظ وإتقانه - انتهى. وقال ابن عبد البر: أم معبد الأنصارية روى عنها مولاها عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثها في الدعاء وهي غير التي قبلها يعني بها أم معبد زوجة كعب بن مالك الأنصاري السلمي التي روت عن النبي في الخليطين وروت ((البذاذة من الإيمان)) وقال الجزري في أسد الغابة (ج5 ص620) : أم معبد غير منسوبة قاله أبو نعيم، وقال أبو عمر: أنصارية، ثم روى
اللهم طهر قلبي من النفاق، وعملي من الرياء ولساني من الكذب، وعيني من الخيانة، فإنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. رواهما البيهقي في الدعوات الكبير.
2526-
(21) وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلاً من المسلمين قد خفت، فصار مثل الفرخ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل كنت تدعو الله بشيء أو
ــ
الجزري هذا الحديث من طريق أبي نعيم ثم قال: أخرجها أبو نعيم وأبو عمر وأبو موسى - انتهى. وتحصل من هذا كله أن أم معبد راوية حديث الدعاء المذكور صحابية أخرى غير الخزاعية وغير زوجة كعب بن مالك راوية حديث الخليطين وغير مولاة قرظة بن كعب راوية حديث الظروف (اللهم طهر قلبي من النفاق) أي بتحصيل اليقين في الدين وتسوية السر والعلانية بين المسلمين، قاله القاري. وقال العزيزي: أي من إظهار خلاف ما في الباطن وهذا وما بعده قاله تعليمًا لأمته كيف تدعو وألا فهو معصوم من ذلك (وعملي من الرياء) بمثناة تحتية أي حب إطلاع الناس على عملي، وقيل: أي من الرياء والسمعة بتوفيق الإخلاص (ولساني من الكذب) أي ونحوه من الغيبة والنميمة. وقال القاري: الكذب بفتح الكاف وكسر الذال ويجوز بكسر الكاف وسكون الذال وخص من معاصي اللسان لأنه أعظمها وأقبحها عند الله وعند الخلق (وعيني) بالتثنية والإفراد قاله المناوي (من الخيانة) أي بأن ينظر بها إلى ما لا يجوز النظر إليه أو يشير بها إلى ما يترتب الفساد عليه (فإنك تعلم خائنة الأعين) مصدر بمعنى الخيانة أي الرمز بها أو النظرة إلى المحرم بعد النظرة أو مسارقة النظر إلى ما نهى عنه، أو هو من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي الأعين الخائنة (وما تخفي الصدور) أي القلوب الحالة في الصدور من الوسوسة أو ما تضمر من أمانة أو خيانة (رواهما) أي الحديثين السابقين (البيهقي في الدعوات الكبير) قد تقدم تخريج عبد الله بن عمرو وأما حديث أم معبد فذكره السيوطي في الجامع الصغير وعزاه للحكيم الترمذي في النوادر (ص202) والخطيب في التاريخ وقد تقدم أنه رواه أيضًا أبو نعيم وأبو موسى وابن السكن وقال: في إسناده نظر. قال الحافظ: وهو كما قال فإنه من رواية فرج بن فضالة عن ابن أنعم وهما ضعيفان - انتهى. وفيه أيضًا مولى أم معبد وهو مجهول، وقال الحافظ العراقي في تخريج الإحياء: بسنده ضعيف.
2526-
قوله (عاد) من العيادة (رجلاً) أي مريضًا (قد خفت) بفتح الفاء من باب نصر أي ضعف من خفت الصوت إذا ضعف وسكن. وفي الترمذي ((قد جهد)) وهو بصيغة المجهول. قال في القاموس: جهد المرض فلانًا هزله (مثل الفرخ) بفتح الفاء وسكون الراء، ولد الطير عند خروجه من البيضة، يعني أضعفه المرض حتى صار ضعيفًا مثل الفرخ لضعفه وكثرة نحافته، وفي الأدب المفرد ((دخل على رجل قد جهد من المرض فكأنه فرخ منتوف)) أي ولد الطائر الذي استوصل ريشه، وفي شرح السنة ((عاد رجلاً قد صار مثل الفرخ المنتوف)) (هل كنت تدعو الله بشيء أو
تسأله إياه؟ قال: نعم، كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فجعله لي في الدنيا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبحان الله لا تطيقه ولا تستطيعه، أفلا قلت: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار؟ قال: فدعا الله به فشفاه الله. رواه مسلم.
2527-
(22) وعن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه. قالوا: وكيف يذل نفسه؟ قال: يتعرض
ــ
تسأله إياه) ؟ قيل: هو شك من الراوي. وقال الطيبي: والظاهر أنه من كلامه صلى الله عليه وسلم أي هل كنت تدعو الله بشيء من الأدعية التي يسئل فيها مكروه؟ أو هل سألت الله البلاء الذي أنت فيه؟ وعلى هذا فالضمير المنصوب عائد إلى البلاء الذي دلَّ عليه الحال، وينبئ عنه ((خفت)) فيكون قد عم أولاً وخص ثانيًا، وفي الترمذي: أما كنت تدعو، أما كنت تسأل ربك العافية؟ (قال: نعم) فيه دلالة على أن أو للشك من الراوي لا للترديد منه صلى الله عليه وسلم، قاله القاري. (ما كنت معاقبي به) ما شرطية أو موصولة (فعجله لي في الدنيا) يعني فاستجاب الله دعاءه وابتلاه بالمرض حتى ضعف وصار مثل الفرخ كما تقدم (سبحان الله) تعجب من الداعي في هذا المطلب (لا تطيقه) أي في الدنيا (ولا تستطيعه) أي في العقبى أو كرر للتأكد، قاله القاري. قلت: كذا في جميع النسخ من المشكاة أي بواو العطف وهكذا وقع في مسند الإمام أحمد وفي جامع الأصول وجمع الفوائد، والذي في مسلم والترمذي، وشرح السنة ((لا تطيقه أو لا تستطيعه)) أي بأو للشك من الراوي، والظاهر أن ما في المشكاة سهو من الناسخ أو تبع المؤلف في ذلك صاحب جامع الأصول (أفلا قلت) أي بدل ما قلت (اللهم آتنا في الدنيا حسنة) ألخ، معناه أنه لو قال ذلك لغفر الله له ذنوبه وعافاه من المرض (قال) أي أنس (فدعا الله به) أي دعا الرجل بهذا الدعاء الجامع (فشفاه الله) وفي مسلم ((قال: فدعا الله له فشفاه)) قال النووي: في هذا الحديث النهي عن الدعاء بتعجيل العقوبة، وفيه فضل الدعاء باللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وفيه جواز التعجب بقول: سبحان الله، وقد سبقت نظائره، فيه استحباب عيادة المريض والدعاء له، وفيه كراهة تمني البلاء لئلا يتضجر منه ويسخطه وربما شكا. وأظهر الأقوال في تفسير الحسنة في الدنيا أنها العبادة والعافية، وفي الآخرة الجنة والمغفرة، وقيل: الحسنة نعم الدنيا والآخرة (رواه مسلم) في الدعوات، وأخرجه أيضًا أحمد (ج ص) ، والبخاري في الأدب المفرد (ج2 ص191) ، والترمذي في الدعوات، والبغوي (ج5 ص181، 182) وانتهت روايتهما عند قوله ((عذاب النار)) .
2527-
قوله (لا ينبغي للمؤمن) أي لا يجوز له (أن يذل) بضم الياء وكسر الذال المعجمة من الإذلال (قالوا: وكيف يذل يا نفسه) وَجه استبعادهم أن الإنسان مجبول على حب إعزاز نفسه، قاله القاري. (قال: يتعرض) أي
من البلاء لما لا يطيق. رواه الترمذي، وابن ماجة، والبيهقي في شعب الإيمان، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
2528-
(23) وعن عمر رضي الله عنه قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قل: اللهم اجعل سريرتي خيرًا من علانيتي، واجعل علانيتي صالحة، اللهم إني أسألك من صالح ما تؤتي الناس من الأهل، والمال، والولد غير الضال ولا المضل. رواه الترمذي.
ــ
يتصدى (من البلاء) إما بالدعاء على نفسه به أو بأن يأتي بأسبابه العادية، وهو بيان مقدم لقوله ((لما لا يطيق)) . (رواه الترمذي، وابن ماجة) كلاهما في الفتن، (والبيهقي في شعب الإيمان) وأخرجه أيضًا أحمد (ج5 ص405)، (وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب) في سنده عندهم علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف، وإنما حسن حديثه الترمذي لأنه صدوق عنده.
2528-
قوله (علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي دعاء (قال) بيان لقوله علمني (اللهم اجعل سريرتي) هي والسر بمعنى وهو ما يكتم (خيرًا من علانيتي) بالتخفيف (واجعل علانيتي صالحة) طلب أولاً سريرة خيرًا من العلانية ثم عقب بطلب علانية صالحة لدفع توهم أن السريرة ربما تكون خيرًا من علانية غير صالحة (اللهم إني أسألك من صالح ما تؤتي الناس) قيل: من زائدة كما هو مذهب الأخفش وقوله (من الأهل والمال والولد) لبيان ما ويجوز أن تكون للتبعيض، وقوله ((من الأهل والمال)) كذا في جميع النسخ من المشكاة وهكذا في جامع الأصول، ووقع في الترمذي، ((من المال والأهل)) أي بتقديم المال على الأهل (غير الضال) أي بنفسه (ولا المضل) أي لغيره. قال الطيبي: مجرور بدل من كل واحد من الأهل والمال والولد، ويجوز أن يكون الضال بمعنى النسبة أي غير ذي ضلال (رواه الترمذي) في الدعوات عن محمد بن حميد عن علي بن أبي بكر عن الجراح بن الضحاك عن أبي شيبة عن عبد الله بن عكيم عن عمر. وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وليس إسناده بالقوي - انتهى. قلت: محمد بن حميد بن حيان ضعيف، وأبو شيبة قال في التقريب: أبو شيبة عن عبد الله بن عكيم يحتمل أن يكون أحد هؤلاء وإلا فمجهول من السادسة. والمراد بهؤلاء المكنون بأبي شيبة المذكور قبله وفيهم ثقات وضعفاء ولا يدري من هذا منهم، ولذلك ضعف الترمذي هذا الحديث.